المقاله تحت باب أخبار و متابعات في
25/08/2010 06:00 AM GMT
حين رحل القاص والكاتب المسرحي العراقي جليل القيسي عام 2006، كتب صديقه ورفيق عمره الروائي والقاص والكاتب المسرحي العراقي الكردي محيي الدين زنكنه نعياً مؤثراً قال فيه: "بقلب يفطره الأسى، وبعيون تنزّ دماً، وبروح يفتّتها الوجع، أنعى إلى مبدعي العراق ومبدعي العالم في كل مكان، المبدع الألمعي سيد القصة والمسرح في العراق جليل القيسي، أحد ألمع "جماعة كركوك" الذين رفدوا الحياة الثقافية والفكرية في العراق، منذ أواسط الستينات، بأسمى آيات الفن الخلاّق والأدب الإنساني والفكر التقدمي الوضاء، وشقّوا بأقلامهم الرصينة الصادقة طريق الإبداع في الصخور وبين الأدغال، وشتلوا فيها كل ما هو جميل ونافع يمنح الإنسان قوة الحقيقة والحق والجمال، ويزحزح ظلمات الطغاة التي تسعى إلى إطفاء النور. أنعى اليكم، أيها الأحبة، صديقاً وأخاً كبيراً ورفيق عمر تجاوز الخمسين عاماً… وإنساناً نادر المثال لا يجود الدهر الشحيح بأمثاله إلاّ بعد أحقاب وأحقاب وبعد مخاضات عسيرة وأليمة. بغياب القيسي الكبير، الذي ليس في وسعي، وأنا تحت وطأة الألم وبين أنياب الوجع، سوى أن أقول إن القصة في العراق لن تكون كما كانت بوجوده، وإن المسرح لا يبقى مثل ما كان… بل إن الحياة برمتها لا تعود كما كانت… فإن خللاً مريعاً قد أصاب كل شيء وإن فراغاً كبيراً قد حل". من ينعى محيي الدين زنكنه؟ لكن محيي الدين زنكنه لم يلبث أن غيّبه الموت، أيضاً، يوم السبت في الحادي والعشرين من آب الحالي، إثر نوبة قلبية تعرض لها في مدينة السليمانية، التي انتقل إليها من بعقوبة بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، فلم ينعه صديق مقرّب إليه مثلما فعل هو مع رفيق دربه القيسي، بل عزّى برحيله رسميون من أبناء قومه، مثل الرئيس جلال طالباني، ومسؤول الإعلام في "الاتحاد الوطني الكردستاني"، الذي ألقى كلمةً في مراسم التشييع. ولد محيي الدين زنكنه في مدينة كركوك عام 1940، وبدأ الكتابة في سن مبكرة وهو دون الرابعة عشرة. اعتقل عام 1956 بسبب مشاركته في تظاهرة طافت شوراع كركوك تأييدا للشعب المصري في معركة بور سعيد، واستنكاراً للعدوان الثلاثي أكمل الثانوية في مدينة بعقوبة، وتخرج في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، بجامعة بغداد عام 1962، وعُيِّن مدرساً في مدينة الحلة (مركز محافظة بابل)، ثم انتقل إلى مدارس بعقوبة حتى إحالته على التقاعد. تعاقبت على تقديم مسرحياته أكثر من أربعين فرقة مسرحية داخل العراق وخارجه، وحازت عشر جوائز، ابتداءً من عام 1970 حتى عام 2005، منها جائزتا الدولة التقديرية للإبداع لعامي 1999 و2000.
"السؤال" بداية الشهرة
اشتهر زنكنه كاتباً مسرحياً، أول ما اشتهر، في العراق بمسرحية "السؤال، أو "حكاية الطبيب صفوان بن لبيب وما جرى له من العجيب والغريب" التي كتبها عام 1970، ونشرت عام 1976 (على الرغم من أنه عُرف كاتباً قصصياً في الستينات). تعرض هذه المسرحية مأساة طبيب ليبيرالي اسمه صفوان، يؤمن بالحق، ويستميت من أجل العدالة، ويبذل العون للناس، ولكنه يثق، في سذاجة، بأن القانون عادل ومنصف وجدير بأن يدفع عن الأخيار شرّ ما يبتلون به من ظلم. وتكون النتيجة أن يقتل الطبيب بأمر من القانون الذي احترمه، متهماً بقتل رجل لم ير إلاّ جثته! وقد أنتجت هذه المسرحية في بغداد أولاً، وفي عدد من المحافظات ثانياً. وبسبب شهرتها، اختارها المخرج التونسي المنصف السويسي ليخرجها في بداية السبعينات، وقدّمتها إحدى الفرق المسرحية الكويتية. في عام 1985 أخرج المخرج العراقي عزيز خيون مسرحية زنكنه "لمن الزهور" (نُشرت عام 1983)، وقدّمها في مهرجان بغداد للمسرح العربي، وهي أقرب إلى قصيدة شفافة مرهفة ترتفع إلى نوع من الاستبطان النفسي والإنساني في علاقة غريبة ومعقدة بين أم وابنها، ربما تمكن مقارنتها بـ"عقدة أوديب" المشهورة. لكن هذا الترميز النفسي غير محصور وغير مقنن، مما يفسح لاتساع في الحركة بين الشخصيتين. تبدأ أحداث المسرحية حينما تأخذ امرأة ابنها إلى مستشفى المجانين، وقد خرجت به مبكرةً كي لا يراها الناس. في هذه المسافة، تجري حركة تداعيات متتابعة ومتدفقة للمرأة وابنها، تتمحور حول شخصية أو شخصيتين، ونحسّ بينهما بعلاقة يميّزها أقسى الحنان، وأقسى الالتباس، من خلال حوار شاعري، صادم، ومتوتر في الوقت نفسه، يفتح إمكانات درامية اشتغل عليها المخرج بمنحى تجريبي، موظفاً طاقته في صوغ عرض من دون شعارات ولا تنازلات، مظهراً امتلاكاً لأدواته، وفهماً لما يريد أن يقول، من خلال محاولته ربط الصور الإيحائية للحوار بالحركة والانفعال الحاد تجسيداً لمناخ الرعب الذي يسيطر على الشخصيتين الرئيسيتين. وتمكن من فرض إيقاع متوتر بناه على العناصر الأساسية، الحوار والممثلين والسينوغرافيا والأغنية.
صراخ الصمت الأخرس
أخرج المخرج الراحل عوني كرومي في عام 1987 مسرحية أخرى لزنكنه بعنوان "صراخ الصمت الأخرس" (كتبها عام 1984)، أنتجتها فرقتا "المسرح الشعبي" و"اليوم"، وعرضت على مسرح الستين كرسياً. تدور أحداثها حول شخصين مشرّدَين، أحدهما مقطوع الذراعين، يهيمان على وجهيهما في شوارع مدينة خالية مجهولة، بحثاً عن لقمة العيش، أو الحرية، أو فرصة لتحقيق ذاتهما المستلبة. وتتخلل هذه الرحلة صور مشحونة بحيثيات الواقع المأسوي، ودلالات لامعقولة، غامضة، وغير مألوفة، ترتفع من بعدها الفردي إلى أبعاد إنسانية تكشف عن عالم كبير يرزح تحت عجلة آلته الاقتصادية والسياسية المدمرة ملايين البشر المذلولين والمقهورين الحالمين بحياة نظيفة تتفتح فيها أرواحهم إلى أقصى حدودها الإنسانية. وعلى الرغم من الحذف الذي أجراه المخرج كرومي على النص، فقد ظل محافظاً على نسق من البناء الدرامي "الدائري"، الذي ينهض على عودة الحدث إلى النقطة التي بدأ منها. وقد عمّق الإخراج إحساس المتلقي بذلك، بصورة أشد وضوحاً، حينما عمد إلى رسم التكوين البصري الأول الذي يفتتح به العرض بشكل مغرّب، خارق للعادة، مثير للدهشة، يهدف إلى تحطيم المظهر المألوف للوجود الإنساني (رجلان أحدهما معلّق في سيفونة، أي حاوية ماء المرحاض، والآخر يخفي رأسه في مبولة، وقد أسدل الستار في نهاية العرض على التكوين ذاته). ويبدو هذا البناء قريب الشبه إلى بناء نصي صموئيل بيكيت "في انتظار غودو" و"نهاية لعبة"، فالأول يبدأ بانتظار كل من فلاديمير واستراجون شخصاً اسمه غودو، وينتهي وهما لا يزالان ينتظران الشخص نفسه. أما في الثاني فإن هام يمارس في النهاية اللعبة نفسها التي كان قد بدأ بممارستها في بداية النص. لكن الدلالة التي نستشفّها من بناء نص زنكنه، تختلف جوهرياً عن الدلالات التي يرشح عنها بناء نصّي بيكت، ففي "صراخ الصمت الأخرس" تشير عودة الحدث إلى نقطة البداية، كعلامة شكلانية، إلى استمرار دوران المطحنة الكبيرة على جسد الإنسان المستلب وروحه في عالم تتحكم في سيرورته آلية القمع، وقوانين الرأسمال، وتحيل هذه الإشارة على بنية دلالية تضع النص في إطاره الاجتماعي، وتكشف عن طبيعة الصراع القائم بين بطلي المسرحية، بوصفهما كائنين مسحوقين جائعين، ومحيطهما الاجتماعي المتخم، الموغل في تجريدهما من صفاتهما الإنسانية. أما عند بيكيت فإن علامة البناء توحي بمدلول فلسفي قوامه لا معقولية الوجود الإنساني، فلا يمكن أن يحدث شيء البتة في الحياة، وصخرة سيزيف ترتدّ إلى موقعها الأول في دورة جحيمية لا تتوقف. من مسرحيات زنكنه الأخرى: "احتفال في نيسان" (1959)، "الإشارة" (1965)، "السر" (1968)، "الحرباء" (1969)، "الجراد" (1970)، "الإجازة" (1977)، "في الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا" (1979)، "اليمامة" (1980)، "مساء السلامة ايها الزنوج البيض" (1981)، "العلبة الحجرية" (1982)، "حكاية صديقين" (1986)، "الحارس" (1987)، "الأشواك" (1987)، "هل تخضر الجذور" (1987)"، "تكلم يا حجر" (1989)، "كاوه دلدار" (أو الحداد) (1989)، "العقاب" (1990)، "القطط" (1992)، "موت فنان" (1994)، "أردية الموت" (1996)، "زلزلة تسري في عروق الصحراء" (1999)، "رؤيا الملك" (1999)، "سيأتي أحدهم" (2000)، "المائدة المستطيلة" (2000)، "شعر بلون الفجر" (2000)، "العانس" (2001)، "السفينة" (2001)، "الجنزير" (2001)، "مع الفجر جاء... مع الفجر راح" (2002)، و"الخاتم" (2002). له أيضاً أربع روايات: "الموت سداسياً" (1970)، "هم، أو يبقى الحب علامة" (1975)، "آسوس" (1977)، و"بحثاً عن مدينة أخرى" (1980)، ومجموعتان قصصيتان: "كتابات تطمح أن تكون قصصاً" (1994)، و"الجبل والسهل" (2002). كما صدرت عن مسرحياته ورواياته بعض الكتب، منها: "مسرح محيي الدين زنكنه" لغنام محمد خضر، "البناء الدرامي في مسرح محيي الدين زنكنه" لصباح الأنباري. و"محيي الدين زنكنه روائياً: دراسة ونقد" للدكتور رؤوف عثمان.
مساء السلامة أيها الزنوج البيض
أتيحت لي فرصة قراءة مسرحيتي "كاوه دلدار" و"مساء السلامة أيها الزنوج البيض" قبل ما يزيد على عقدين من الزمن. الأولى هي تكييف درامي لأسطورة نوروز الشهيرة التي يحتفل بها سنوياً الأكراد والفرس بوصفها عيداً قومياً، وتتناول البطل الشعبي كاوه الحداد الذي يقضي على الحاكم الطاغية، المعروف بتضحيته يومياً بإثنين من أبناء الشعب طعاماً لأفعيين نابتتين في كتفيه، ثم يشعل كاوه النار في قمة الجبل، مثل برومثيوس في الأسطورة اليونانية، ليبشر الناس بموت الطاغية، ويدعوهم إلى الاحتفال بالخلاص من شروره. أما المسرحية الثانية، وهي من نوع المونودراما، فإنها تقدم نموذجاً للفنان المستلب (البطل الإشكالي)، وهو شاب كردي في منتصف الثلاثينات يدعى سوران، مؤلف موسيقي هاو، حاصل على ديبلوم في الموسيقى، لكنه يعمل موظفاً مسحوقاً في دائرة حسابات، ويسكن في سرداب عمارة سكنية، بعدما عجز عن العثور على مسكن في المدينة؛ تلك المدينة التي يوليها اهتماماً كبيراً ومقصوداً، كونها ليست عنصراً فضائياً، أو إطاراً للفعل الدرامي فحسب، بل عالماً تتداخل فيه، وتبتعد عنه رؤيته ومعاناته وهواجسه وتحولاته. ليس أدل على ذلك من محاولته إسقاط ما تشير اليه لفظة "المدينة" من موحيات، في القصيدة التي يتعذب في وضع لحن مناسب لها، على المدينة التي يعيش فيها، والأصح على هامشها، وكذلك مقارنتها بمدينة الحلم، مدينة الموسيقى والحرية والحب والجمال، وبمدينة مسقطه الصغيرة التي تبزغ الشمس فيها كل صباح في حياء وخفر. كما أن سوران يحاول أن يجعل من مفهوم المدينة مرادفاً لمفهوم الأصالة، أو الهوية المحلية للخلق الفني من خلال معاناته في صوغ لحن مستوحى من تراب مدينته، وتاريخها. لكن كيف يتأتى له ذلك وعوامل الإحباط تحاصره من كل جانب؟ البيانو الذي أفسدته زوجته الثرثارة اللعينة، صاحب العمارة الذي اشترط عليه أن لا يزعج بموسيقاه أحداً من المستأجرين، وإلاّ ألقى به في عرض الشارع، ضجيج السيارات وأبواقها المزعجة في الخارج، البرد الشديد الذي يغرس أنيابه وسكاكينه في أوصاله، الأرقام التي تنزل على رأسه كالمطارق من دون رحمة ولا شفقة في العمل، وماضيه الذي ترك جرحاً غائراً في أعماقه. إن بطل هذه المونودراما ليس إلاّ واحداً من عشرات الفنانين الموهوبين الذين يخسرهم مجتمعهم بسبب ما يضعه أمامهم من عثرات تكبّل حياتهم، ومواهبهم، وتغتال فيهم روح الخلق الفني، وجذوته، فلا تجدهم في النهاية إلاّ أمام خيارين أحلاهما مرّ، أولهما الانصراف الكلي عن الفن، وثانيهما التخلي عن الأصالة والالتزام الفني، والانجراف في حرفة المتاجرة بالفن بأساليب استهلاكية رخيصة. وعلى رغم أن زنكنه لا يرسم نهاية محددة ليختار فيها بطله أحد ذينك الخيارين، فإن من المستبعد أن يختار حرفة المتاجرة بالفن لعمق أصالته، وشدة تصوفه الفني، ونضج رؤيته التي صقلها عبر مخاض عسير من التجارب الحياتية، والاطلاع الواسع على الآثار الفنية. على صعيد البناء الفني للنص، فإن أبرز عنصر فيه هو الصراع الذي يؤججه زنكنه بين البطل وعوامل الإحباط التي رافقت حياته في السابق، وتلك التي تحيط به في أثناء الفعل الدرامي، فهو، أي زنكنه، ينجح في خلق التكامل والتجانس بين التشخيص البارع وقوة الأفعال الدرامية لدى البطل، فما يعتمل في أعماقه من صراع مع الأشياء المحيطة به، كالساعة، والمدفأة، والبرد، والسرداب، وأصوات السيارات، والمخلوقات التي يسترجع مواقفها وأفعالها الدنيئة، يمكن تفسيره في ضوء طبيعته ودوافعه ومشاعره وملكته الفكرية ورؤيته للفن والواقع. كما أنه يكشف عن فشله في إقامة توازن وتلاؤم بين قيمه وأحلامه وطموحاته، والمحيط الاجتماعي الذي يتعامل معه بقسرية شديدة. إن من يقرأ نصوص زنكنة المسرحية، يجد أن غالبيتها تقدم شخصيات محدودة، تتميز بكونها إما هامشية في موقعها الاجتماعي، بسبب عوامل خارجة على إرادتها، وإما مستلبة وإشكالية بسبب الضغوط التي تتعرض لها، وعدم قدرتها على المواءمة بين رغباتها وأحلامها الشخصية والإنسانية المشروعة من جهة، والرغبات الغيرية المنبعثة من إرادة قمعية أو متخلفة أو بطريركية من جهة أخرى.
لا أحد يمنحه "فيزا"
في مقالة استذكارية كتبها، عشية وفاته، صديقه القاص والروائي والكاتب المسرحي الكردي تحسين كرمياني، الذي يكتب مثله باللغة العربية، يقول: "مات محيي الدين زنكنه وفي قلبه حسرة كبيرة، حسرة عدم حصوله على "فيزا" كي يعالج شبكية عينيه"!
|