المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
14/08/2010 06:00 AM GMT
ذات يوم من أيام خريف 1995، وقبل أن يختفي قرص الشمس عن ناظري عمّان، كنت أجلس في شرفة مقهى "العاصمة"، صحبة الروائي الراحل مؤنس الرزّاز، وثلّة من الأدباء الأردنيين، نتحاور حول قضايا ثقافية وسياسية شتى، وفجأة انقطع الرزّاز عنا وأخذ يتأمل جسد المدينة وقاعها الضاجّ بالحركة والشرود، فلفتت انتباهه ثلاث علامات: مبنى البنك العربي، مخفر شرطة المدينة، وكشك أبي علي للكتب، كشك الثقافة العربية. في اليوم التالي كتب في زاويته الصحافية اليومية في جريدة "الرأي" عما أوحت اليه تلك العلامات من مدلولات: "البنك= سلطة المال، المخفر= سلطة الحكم، والكشك= سلطة المعرفة". واكتشف كم هي ضئيلة، للأسف، السلطة الأخيرة مقارنةًً بجبروت السلطتين الأولى والثانية! تذكرتُ تلك القراءة الذكية للرزّاز، التي هي في جوهرها قراءة سيميائية (علاماتية) لمشهد مديني واحد من مشاهد العاصمة عمّان، وأنا أقرأ مقال رولان بارت، الموسوم بـ "السيمياء والتمدين"، الذي يتحدث فيه عن علم علامات المدينة، وتساءلت مع نفسي: كم نحن في حاجة إلى توظيف هذا العلم، أو المنهج، في تحليل العلاقات بين الوحدات البنائية التي تتشكل منها مدننا العربية، وأنساقها الوظيفية، على غرار تحليلنا للنصوص والخطابات. ولكن لا بد من الاعتراف، مع بارت، بأن من ينتدب نفسه لوضع مخطط سيميائي للمدينة، عليه أن يكون: سيميائياً (متخصصاً في علم العلامات)، جغرافياً، مؤرخاً، مهندساً مدنياً، وربما أحياناً محللاً نفسانياً. إلاّ أنه يندر جداً أن تجتمع هذه المواصفات كلها في شخص واحد. إن الأفكار التي يطرحها بارت حول سيمياء المدينة لا تتعدى أطروحات هاوٍ، بالمعنى الاشتقاقي لهذه الكلمة. فهاوي الرموز هو الذي يهوى الرموز، وهاوي المدن هو الذي يهوى المدن، بل أنه، في الحقيقة، معجب بالرموز والمدن معاً، وهذا الاعجاب المزدوج دفعه، أي بارت، إلى الاعتقاد، وربما مع بعض التخمين، بإمكان وضع نظرية سيميائية للمدينة، فما هي ملامح هذه النظرية؟ يعتقد بارت أن مفهوم التماثل في التساوي، الذي وضعه كلستينز لأثينا في القرن السادس، يشكّل تصوراً بنيوياً واقعياً يغدو المركز في المدينة، بوساطته، المظهر الوحيد والمفضل، طالما أن المواطنين في مجملهم على علاقات متفقة ومتناقضة في آن واحد مع هذا المركز، وأن التصور للمدينة، في ذلك العصر، كان معبراً كلياً، بخلاف التصور الضروري للتوزيع المديني المرتكز على الوظائف والأعمال الخاصة بالمدن، الذي ظهر متأخراً، ورُجّح، أيضاً، بإلحاح في أيامنا هذه. على رغم أن بارت يستغرب عدم إعطاء الأعمال النظرية للمتخصصين في حقل التمدين سوى حيز مقتضب لمسائل المدلولية، فإنه يستثني بعض الكتّاب الذين تكلموا عن المدينة من خلال مصطلحات دلالية، ومن هؤلاء، بحسب رأيه، فيكتور هوغو، الذي شرح بشكل أفضل هذه الطبيعة الرئيسة الدالة في المجال المديني، إذ كتب، بذكاء مرهف، فصلاً شيقاً عن إدراك ومفهومية للبناء الفني العظيم والمدينة، ككتابة وتدوين للإنسان في المكان. ثم توضحت هذه المسألة عن الكتابة عند جاك ديريدا، على نحو فعلي. يرى بارت أن ثمة وعياً متزايداً لوظائف الرموز في المجال المديني بدأ يظهر في العالم، فمن خلال دراسات مدينية ترتكز على التقديرات، أو التخمينات الكمية، وعلى الاستفتاءات المسوغة، يشير إلى الحافز النوعي الواضح للرمزية التي، غالباً ما أصبح المحللون يفسرون من خلالها أحداثاً أخرى، فيجد، مثلاً، في مجال التمدين، تقنية سائدة نسبياً تدعى "التصورية المصطنعة"، التي لو استعملت في إطار عقلي تجريبي ومستقيم إلى حد ما، لقادت إلى تعميق المفهوم للنموذج البنيوي، أو في الأقل الما قبل بنيوي. في مجال آخر، ومن خلال دراسات خاصة بحقل التمدين تتطلب العمل السيميائي، يكتشف بارت، رويداً رويداً، أن ثمة نوعاً من التعارض بين النظام السيميائي ونظاماً آخر خاصاً بالظاهرات، ولذلك غدت السيميائية مالكةً لنوعية من المتعذر تبسيطها (مثال على ذلك ما لوحظ من تعارض بين وظيفة جزء من المدينة، كأحد أحيائها، مثلاً، وبين ما يسمّيه بارت بالمحمول الدلالي لهذا الجزء من الحي). يؤكد بارت أن هذا التعارض بين الدلالية والوظيفية من شأنه أن يشكل فقدان أمل للمتخصصين في حقل التمدين، فضلاً عن وجود تعارض بين الدلالية والعقل، أو في الأقل، بين الدلالية وذلك العقل الآلي الحاسب، الذي يود أن تكون جميع العناصر الخاصة بالمدينة مسترجعة، أو مستعادة بحسب النمط الواحد ذاته، بل وبحسب التصميم. وأخيراً ثمة تعارض نهائي بين المدلولية والواقعية نفسها. يستنتج بارت من ذلك أن المدينة نسيج مؤلّف، ليس فقط من عناصر متساوية نتمكن، عبرها، من إحصاء وظائفها، بل من عناصر صلبة وأخرى محايدة، أو كما يقول الألسنيون من عناصر محددة وعناصر غير محددة. ومثلما رأى بارت أن الزي والطعام يشكلان حقلاً دلالياً يمكن قراءتهما في ضوء النموذج اللساني، فإن المدينة تعدّ خطاباً، وهذا الأخير يعدّ لغةً حقيقيةً: المدينة تحاكي سكانها، ونحن بدورنا نحاكي مدينتنا، المدينة حيث ننوجد في سكننا لها، في اجتيازها وتأملها. واذا كان في امكاننا أن نتحدث مجازياً عن لغة للمدينة، كما نتكلم عن لغة للسينما أو لغة للزهور، فإن الوثبة العلمية الحقيقية تتحقق عندما يكون في استطاعتنا التحدث عن لغة للمدينة من دون مجاز، مثلما أفرغ فرويد لغة الأحلام من معناها المجازي بغية إعطائها معنى واقعياً. ولكن كيف يمكن العبور من المجاز إلى التحليل عندما يجري الحديث عن لغة للمدينة؟ هنا يعود بارت، مرة ثانية، إلى المتخصصين في دراسة الظاهرة المدينية. فعلى رغم ابتعادهم عن سيمياء المدينة، لاحظوا أن المعطيات الضرورية في العلوم الاجتماعية تقدم شكلاً موافقاً، إلى حد ما، من أجل دمج النماذج وتوحيدها. لكن ما ينقص ذلك هو تقنية الرموز. لذا، فالحاجة قائمة إلى طاقة علمية جديدة من أجل تحويل تلك المعطيات، أي العبور من المجاز إلى وصف الظاهرة الدلالية وتعريفها. من أجل اكتشاف علم العلامة المدينية (أو سيمياء المدينة) يقترح بارت إجراء تحليل للنص المديني من خلال تقسيمه وحدات، ومن ثم توزيع هذه الوحدات في مصنفات شكلية، وفي المرحلة الثالثة إيجاد قواعد لتنسيق هذه النماذج والوحدات وتشكيلها. يحصر بارت كلامه هنا في ثلاث ملاحظات لا علاقة لها مباشرة بالمدينة، الاّ أنها في استطاعتها التوجه بشكل مفيد صوب سيمياء المدينة: الأولى مفادها أن الرمزية لا تقوم على تطابق منتظم بين الدوال والمدلولات، وأنه، أي بارت، يستعمل كلمة "رمز" وكأنها تتصل بتنظيم دلالي تركيبي أو مثالي نموذجي، لكنه لا يعود إلى علم الدلالة، لذلك يدعو إلى التمييز الواضح بين المحمول الدلالي للرمز، والطبيعة التركيبية، أو النموذجية الخاصة بالرمز ذاته. فالمدلولات أشبه بالكائنات الوهمية الأسطورية في أقصى غموضها، بحيث تصبح هذه المدلولات في لحظة ما دوال لشيء آخر. هذا يعني أن المدلولات تعبر، والدوال تركن أو تبقى ساكنة. كما أن الأهمية المتزايدة أصبحت لمدلول الفراغ بدلاً من فراغ المدلول. فمدينة طوكيو، مثلاً، كواحدة من المدن الأكثر تعقيداً على الصعيد المديني، اذا ما تعمدنا تصورها من وجهة نظر سيميائية، فإننا نراها تمتلك نوعاً من المركز، الاّ أن هذا المركز الممثل بالقصر الامبراطوري، والمحوط بحفرة عميقة مغطاة بالخضرة، لهو معاش كمركز فارغ. الملاحظة الثانية مفادها أن الرمزية يجب أن تكون محددة أساساً، كما هي الحال في عالم الدوال، وعالم العلاقات المتبادلة. ومن خلال تجربة بارت، كهاوٍ، يتضح أنه في بعض المدن توجد مجالات تتيح اختصاصات مندفعة للوظائف، كما هي الحال، مثلاً، في السوق الشرقي، حيث الشارع الخاص بدباغي الجلود، أو السوق الخاص بصائغي المجوهرات. وفي طوكيو أيضاً بعض المقسمات في الحي الواحد يجدها بارت متجانسةً من حيث الوظيفة. على الصعيد العملي توجد في طوكيو حانات ومطاعم صغيرة، وأمكنة للهو والتسلية. ولذلك يطالب بارت بالذهاب أبعد من هذا المظهر الأولي، ومن ثم عدم تحديد الوصف السيميائي للمدينة من خلال هذه الأحادية، بل تحليل البنيات الصغيرة وتفكيكها بالطريقة نفسها التي نعزل بها مقاطع صغيرة من جملة لسانية طويلة، وصولاً إلى حقيقتها. بذلك يرى بارت أننا نجد أنفسنا أمام الحدس الذي أشار اليه فيكتور هوغو بقوله: المدينة هي كتاب، فنحن أمام المدينة نشبه، إلى حد بعيد، القارئ لمئة مليون قصيدة. أما الملاحظة الثالثة فمفادها أن السيميائية حالياً لم تطرح وجود المدلول النهائي، بل أن المرء يجد نفسه دائماً أمام سلسلة من المجازات غير النهائية. واذا ما طبّق هذا البعد الذي يسمّيه بارت البعد الغرامي أو الغزلي، على المدينة، فإن غزلها هو المعرفة التي يمكن أن نستخلصها من الطبيعة المجازية اللانهائية للخطاب المديني. يخلص بارت من تأملاته في سيمياء المدينة إلى أن من الأفضل عدم الاعتماد على مضاعفة التحقيقات أو الدراسات الوظيفية للمدينة، بل المطلوب مضاعفة القراءات لهذه المدينة، ويأسف لأن الكتّاب وحدهم، في الوقت الحاضر، من أعطونا بعض الأمثلة عن هذه القراءات، ومن خلال الانطلاق منها، او من إعادة تأليف لغة أو تشريع للمدينة، يكون في الإمكان التوجه إلى وسائل ذات طبيعة أكثر علمية، كالتفتيش عن الوحدات، أو علم النحو...الخ. ولكن مع التذكير دائماً بأن من غير الواجب تثبيت هذه المدلولات للوحدات المكتشفة، أو تثبيتها، وذلك لأنه، تاريخياً، غالباً ما كانت هذه المدلولات غامضة، ومطعوناً بها، وصعبة التطبّع، فضلاً عن أن المدينة هي قصيدة تنشر الدال أو تبسطه، بحيث يتشبث علم العلامات المدينية بهذا الانتشار ويغنيه.
|