المحاق |
المقاله تحت باب قصة قصيرة فصل من رواية:
حدث ذلك في منتصف ليلة تشرينية عاصفة.. كان البرد قد جاء مبكراً في ذلك العام.. قبل أن يذهب سعد وهناء إلى غرفة نومهما بعد أن تناولا وأمهما عشاء خفيفاً، كانت نشرة الأنواء الجوية التي يبثها تلفزيون بغداد، كل ليلة، قد تنبأت بليلة تسيح في سمواتها غيوم تسوقها ريح تفوق سرعتها سبعين كيلو متراً في الساعة..
بعد أن رقد سعد في فراشه أنارت هناء مصباحاً منضدياً ليبدد شيئاً من الظلمة.. أطفأت الأضواء السقفية وأوت إلى فراشها.. لم تنم سوى ساعات قلائل حين أفاقت على فحيح الريح.. فتحت عينيها قليلاً.. أضواء خافتة منبعثة من مصابيح الحديقة، كانت تتأرجح في جو الغرفة مرتمية على الجدران والسقف بفعل حركة الستائر الشفافة المسدلة على النوافذ.. والتي كانت الريح المتسللة عبر أُطر النوافذ تعبث بها.. نظرت إلى السماء البعيدة.. تبحث عن نجمة.. عن القمر.. لم يكن هناك غير سواد مخملي يجلل السماء ويلف الكون كله.. خُيلَ لها أنها سمعت أنيناً خافتاً فيه بحة.. خالت أن ما سمعته لم يكن غير أنين الريح.. تقلبت في فراشها.. عَوَت الريح من جديد.. شيء من الخوف تسرب إلى قلبها.. حاولت أن تغفو.. لملمت أطرافها حتى كادت ركبتاها تمسان فكها الأسفل.. استدارات نحو الجدار وكأن ذلك يمكن أن يمنحها ما تهفو إليه من الأمان.. بعد حين.. وقد جفا النوم عينيها خُيِلَ لها أنها سمعت الأنين الخافت المبحوح عينه.. يسرى عبر العتمة.. والريح تزأر.. استدارت.. فتحت عينيها قليلاً.. أيمكن أن ينبعث هذا الأنين من سرير سعد؟ راحت تتطلع إليه خلسة دون أن تتحرك أو تنبس ببنت شفة.. كان الخوف يتبرعم في أعماقها كلما عصفت الريح بأشجار الحديقة أو هزت جذع النخلة.. باعثة فحيحا موحشاً.. أو عبثت بالأبواب والنوافذ ليصدر عن ذلك صرير أشبه بأنين مبحوح.. تكورت على نفسها.. بعد لحظات رأت سعداً ينهض من فراشه ويغادر الغرفة.. كاد الخوف يشلها عن الحركة.. أين ذهب في هذه الليلة الظلماء.. حاولت أن تبعد الخوف عنها.. لتخرج وراءه.. لكن باب الغرفة فُتح بهدوء.. وعاد سعد.. اتجه إلى سريره ورقد محاولا ألا يصدر أي صوت مخافة أن تفيق هناء.. وقد ظنها نائمة.. شعرت بشيء من الاطمئنان.. غزا النوم عينيها.. لكنها أفاقت بعد لحظات على صوت صرير الباب والنوافذ.. تجمدت في سريرها.. فتحت عينيها قليلاً.. لترى سعداً وهو يغادر الغرفة ثانية.. بهدوء كلي.. جفلت وهي تفكر ((ما به)) وأين يذهب في هذا الليل المدلهم والريح تعوي.. حاولت أن تنهض من فراشها.. لتلحق به لكنه عاد من جديد واندسّ في فراشه بهدوء.. أرادت أن تسأله ما الذي كان يجري.. لكنها ترددت... ظلت صامتةَ وقد جفا النوم عينيها.. بعد فترة وجيزة تكرر ما حدث.. بعد المرة السادسة أو السابعة لخروجه من الغرفة وعودته.. استجمعت شجاعتها.. رفعت رأسها بتثاقل.. وبصوت هامس يكاد لا يسمع.. سألته: ـ سعد.. ما بك؟ ظل صامتاً لحظات.. ثم قال: ـ لا أدري.. لكني أشعر بضيق فأذهب إلى دورة المياه.. ـ غريب.. ماذا حدث لك؟.. ـ لا أدري.. لا أدري.. ـ حسناً.. حاول أن تنام.. لعل ما يضايقك شيء طارئ يزول عند الصباح.. ـ سأحاول.. لكن هناء لم تستطع النوم.. كانت الريح قد هدأت عند الفجر.. وما إن أشرقت الشمس حتى نهضت من فراشها... كانت أم سعد في المطبخ تعد شاي الصباح.. انضمت إليها هناء لتساعدها في إعداد الفطور.. قالت مخاطبة أمها: ـ إنني لم أستطع النوم الليلة الماضية.. ـ ولا أنا.. كانت الريح مزعجة.. يزيدها إزعاجاً صرير الأبواب والنوافذ... آه يا لها من ليلة.. ـ ماما.. قالت هناء وتوقفت كمن يريد أن يقول شيئاً ولا يريد في الوقت نفسه.. خفضت بصرها وراحت تتطلع في بلاط الأرض وقد ضغطت بأسنانها على شفتها العليا.. التفتت إليها أم سعد.. انتبهت إلى ما كانت عليه.. تركت ما بيدها واقتربت منها.. كانت تعرف أن تلك علامات تتسلل إلى تصرفات هناء على نحو لا إرادي حين يراودها قلق مبهم لأيما سبب من الأسباب.. أو حينما تسيطر عليها مشاعر غامضة تنم عن أن شيئاً مجهولاً.. لا يشي بخير، يحلق في الأفق.. وهو لابد آت.. ـ هناء.. ما بك؟ ـ رفعت هناء عينيها إلى أمها.. وقد علا وجهها شحوب ظاهر جراء ما عانته الليلة الفائتة.. من أرق وقلق وخوف.. قالت مترددة.. ـ ماما.. لا أدري ما به سعد.. ـ ما به؟ تساءلت الأم.. ـ لا أدري.. لكنه ذهب إلى الحمام تسع مرات أو عشراً.. تطلعت الأم مستغربة.. ثم قالت: ـ لكنه لم يتناول شيئاً مما يمكن أن يسبب هذه الحالة.. كان سعد يقف آنذاك عند باب المطبخ إذ وصل للتو.. التفتت إليه: ـ سعد حبيبي ما بك.. أتشعر بألم.. بشيء ما؟ ـ لا.. لا أشعر بألم.. لكني أحسُ خدراً في قدميَ وصداع.. ـ حسناً.. تعال اجلس هنا.. سيزول كل شيء إن شاء الله بعد أن تتناول الفطور.. وسحبت كرسياً لتتيح لـه الجلوس.. إلا أنها انتبهت إلى ما أثار في نفسها شكوكاً وَجِلَة.. كانت مشيته غير طبيعية.. كان يترنح قليلاً.. وحين جلسوا لتناول الإفطار.. لاحظت سميرة.. وهي تختلس النظر إليه.. إن ثمة تشنجات تعتري وجهه.. بين حين وحين.. فكان يرفع يده إلى خده يريد وقف ما كان يحس به.. وكومضةِ نجمٍ هوى في سماء سوداء غاب عنها القمر.. برقت في رأسها وجوه لم ترها.. وأسماء لم ينطق بها لسانها.. كارولين.. جيسي فرانك أدوين وفي لحظة نسيها الزمان.. لاح بذهنها وخبا.. كلمعة سيف.. وجه مشوش المعالم أصابه إشعاع من بزة أبيه.. فمضى مع من مضى من أطفال الإشعاع في أرض أور وآشور وبابل.. حاولت أن توقف ذلك الدفق الحزين.. بذلت جهداً لتسيطر على نفسها متشبثةً بأمل إبعاد تلك الانثيالات عن رأسها وقالت: ـ سعد ابني.. سنذهب إلى المستشفى بعد الفطور.. انبرت هناء لتقول: ـ ولكن اليوم هو الجمعة.. ـ آه.. صحيح.. نسيت ذلك.. غداً صباحاً نذهب إلى المستشفى.. ـ والمدرسة!؟ غداً السبت ولدينا امتحان في اللغة العربية.. وأنا أخاف أن أسقط.. لنذهب بعد... وقاطعته سميرة: ـ لا بأس.. سنذهب إلى المدرسة أولاً.. لنحصل على إجازة ثم نذهب إلى المستشفى لإجراء ما يلزم من الفحوص والتحاليل.. تقرر لإجرائها، إبقاء سعد في المستشفى بضعة أيام.. كان هناك العديد من الأطفال ممن كانوا يخضعون لسلسلة مماثلة من الفحوص والتحاليل.. كانوا يعانون من إصابات مختلفة.. ويوماً بعد يوم.. تذبل خدودهم تزداد وجوههم شحوباً.. وتتساقط شعورهم.. لاحظت أم سعد.. أن سعداً كان يزداد هزالاً وشحوباً.. وغمازتا خديه اختفتا تحت عظام وجنتيه.. ولم يكن العلاج الذي يتلقاه بقادر على أن يعيد لسعد.. صحته ونشاطه.. وانطفأت جمرتا خديه.. بعد أن انتهى الطبيب المشرف على علاجه من إعطاء توجيهاته إلى الممرضة المشرفة على متابعة حالته.. سألته أم سعد: ـ قل لي دكتور.. ما به سعد؟ تطلع الطبيب في وجهها.. رفع يمناه إلى جبهته وكأنه يبحث عن جواب مستحيل.. جواب لا يبتعد عن الحقيقة.. لكنه لا يسبب لها ألماً.. ـ أم سعد.. إنك سيدة مثقفة.. ولا أستطيع أن أخفي عليك أنه المعدن المشع.. واستناداً لما أجريناه من تحاليل وفحوص.. فإن جزيئات من غبار ذلك المعدن غزت الجهاز العصبي والكليتين.. إنهدت الأرض تحت قدميها.. وانهارت السموات.. كانت تتوقع أي شيء.. أي شيء يصيب سعداً.. أي مرض من الأمراض التي يصاب بها الأطفال عادة.. أو الناس عموماً.. زكام.. انفلونزا.. تيفوئيد.. التهاب رئوي.. أو.. أي مرض من الأمراض التي يمكن علاجها والسيطرة عليها وإيقاف ترديها أو ما قد يستتبعها من مضاعفات.. لكنها لم تتوقع أبداً أن يصاب بمرض إشعاعي.. بعد كل العناية التي وفرتها لـه مذ كان طفلاً رضيعاً وحتى أيامه هذه.. كان سعد وهناء كل واغلي ما تملك في هذه الدنيا.. وسعد بالذات كان سواد عينيها.. النَفَسَ الذي يدخل صدرها ويخرج من رئتيها.. كان سعد.. حبها ومستقبلها.. تحلم به صبياً ليس كغيره من الصبيان.. تعد الأيام والليالي.. تنتظر الشمس في شروقها وفي الغروب.. وتنظر الهلال في جبينه إذ يغادر المحاق.. ترى في بسمته وجه رائد.. وفي عينيه نثيث دفء يهمي كما المطر في عيون رائد.. فتراه شاباً وسيم الطلعة تدور حوله الفراشات.. تراه مهندساً معمارياً يبدع أساطير جديدة يغادر منها بُناة برجنا الأسطوري الشهير.. أو عالماً يبحث عن أصول الأشياء.. من أين جاءت.. كيف جاءت وإلى أين المسير.. ذلك السؤال الذي ما كان يكف عن الإفصاح عنه فيبقيها هي عاجزة عن الجواب.. أو ليكون، كما كان يريد.. طبيباً يعالج من سقط ضحية الإشعاع.. وها هو الآن يرقد صريع المرض إياه.. بلا حراك.. بلا أمل في الشفاء.. وحتى بلا أمل في الحياة.. كيف حدث ذلك؟ متى؟ أين؟ بغداد.. بعقوبة.. البصرة؟! لا أحد يدري... وقفت جامدة.. بادئ ذي بدء.. كأنها تمثال من رخام يقف هناك... منذ ألف عام.. ثم وكأنها غصت بجرعة ماء مُر.. استوعبت الموقف.. فغرت فاها.. اتسعت عيناها.. تلون وجهها ليكون مرتعاً لموجة من الشحوب.. تلتها حرارة اندفعت منابت شعر من رأسها نزولاً حتى عنقها.. فصدرها.. ألوان وردية.. وحمر.. راحت تنازع وجهها.. جيوش من نمال اجتاحت رأسها نازلة من أعلى الفِقر حتى أسفلها.. رافقتها موجات جديدة متتالية من ألوان متضاربة غزت وجهها.. ثانية بعد ثانية.. بين أصفر ليموني باهت.. واخضرار كامد مرشوشاً برمال سوداء.. وما كان بلون الرماد.. مزيحة اللون الوردي المتراجع.. حتى بدا وجهها أشبه بساحة اقتتال لتحيلها نثاراً في مهب الريح... استدارت حول نفسها دورة كاملة.. دون أن تعي ما الذي كان يجري في أعماقها.. أو من حولها.. في العالم كله.. بكل سُدُمِه وشموسه.. وثقوبه السوداء.. مادت الأرض تحت قدميها.. دارت بها دورتين أو ثلاثاً.. غارت في هوة عميقة لإقرار لها.. وانقلبت صاعدة نحو السماء.. ثم راحت تغور.. وتغور في أعماق بعيدة لا نهاية لها. طنين يثقب الأذن.. أصوات متداخلة.. صراخ مبحوح.. عويل ينفجر من الأكوان البعيدة.. لفها في دوامة تدور بها كريح عصوف.. امتد ذراعاها يتطوحان في الفراغ يريدان التشبث بأي شيء يوقف ذلك الدوار والانهيار.. شهقات متقطعة متتابعة تتكسر في صدرها.. وهي تبحث عن هواء بعد أن ضاق صدرها حتى كادت أضلاعها تتحطم.. جف حلقها.. موجة من برد ثلجي حارق سرت هابطة من قاع رأسها حتى أسفل ظهرها.. رافقتها رعشة هزت جسدها كله.. تقلصت عضلات وجهها.. انطوى جسدها حتى كادت تهوي على الأرض لولا أن هرع الطبيب والممرضة إليها.. أمسكا بها وسارا إلى أريكة جانبية لترقد هناك.. أسرعت الممرضة إليها بدثار صوفي.. وضعت وسادة تحت قدميها.. فيما راح الطبيب يقيس ضغطها.. وقفت هناء إلى جانبها وقد ارتسمت الحيرة والخوف على وجهها وهي تمسك برأس أمها وكأنها تخشى عليه أن ينفصل عن جسدها.. لما كان عليه من شدة الارتعاش.. أسرعت الممرضة بكأس من شراب منعش.. قالت: ـ خذي.. خذي أم سعد اشربي من هذا.. إنه سيريحك.. مصت منه رشفة واحدة.. أسندت رأسها براحة يدها اليسرى.. فيما راحت تعبث بيمناها بزر قميصها غير مدركة لما كانت تفعله.. ودموع حارة سخية تغسل وجهها بصمت.. ومن أعماق صدرها تنبعث، بين حين وحين.. شهقة خافتة وأنين يزيد الجرح التهاباً.. وتعصف برأسها أسئلة تتهاوى كنصال مسمومة: ((لماذا نحن؟.. لماذا ابتلينا بكل هذا البلاء؟ أكان ثمة خطأ إننا ولدنا هنا.. في هذه الأرض؟ أكان ثمة خطأ أن وجد العراق؟ وماذا فعلنا لنستحق كل هذا الجور والعناء؟ لماذا؟ لماذا))... وأيام العراق ونهاراته تتوالى في ذاكرة الزمان.. ليالٍ كلها.. يجللها السواد ولطم الصدور.. كأن القدر أراد لهذه الأرض السخية المعطاء.. أن تكون في كل العصور والأزمان.. صومعة أحزان لا يبرحها هواة الحروب ومصاصو الدماء.. تذكر منهم كتب التاريخ (( عيلاميون.. كاشيون.. سلوقيون.. ساسانيون. مغول.. عثمانيون)).. وفي آخر الزمان إنكليز ومن بعدهم غزاة جاءوا من أقاصي الأرض.. تسبقهم هدايا أعياد ميلاد قرن جديد.. كروز.. ليزر.. توماهوك.. تطلق من أعالي البحار ومن أرض العرب.. لينشروا الموت، كما الشمس، مشعاً لكل الدهور الآتيات.. يدمروا.. وينهبوا.. و ((ليعطوا الثروة لمن يستحقها)).. هذا ما قاله واحد منهم... لماذا؟.. لماذا؟.. وينفلت من بين شفتيها.. واهناً.. ضعيفاً: ـ ماذا فعلنا لنبتلي بكل هؤلاء.. وغيرهم كثار؟! التفت الطبيب إلى الممرضة: ـ أعطها حقنة مهدئة.. ثم إلى هناء: ـ إنها بحاجة إلى ما يهديء من روعها.. فلا تقلقي. |