المقاله تحت باب منتخبات في
11/07/2010 06:00 AM GMT
البحث في شؤون اللاجئين وشجونهم يدفع الى التوقف عند لغة ادبية من طراز خاص تستحق باباً من أبواب الفنون الخلاّقة. لغة تجمع بين الرسم بالكلمات والسرد والمشهدية وحشد الانفعالات والمشاعر. ومن دون ان يدري صاحبها انه صاحبها، يروح يجود ويتفوق على الاقلام المتخصصة القادرة على ابراز الواقع.
المقارنة تفرض نفسها عندما تتقاطع المواقف الرسمية لمسؤولي المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، او عندما نقرأ في كتيّب حول اتفاق الامم المتحدة الخاص بهم، ما يشير الى ان "لجميع البشر من دون تمييز حق التمتع بالحقوق والحريات الاساسية". ثم نقرأ في موسوعة التهجير واللجوء، ونرى ونسمع بعض التجارب الحية، ما يجعل النصوص الرسمية الاممية لغة خشبية ازاء ما يحصل على ارض الواقع. هذه المقارنة تقود الى اعلان "أدب اللجوء" فناً قائماً يستوجب تجميع شظاياه وشرذماته على امتداد القهر الانساني الذي يؤدي الى تغييرات في الديموغرافيا وتبديل الهوية الجغرافية لكثير من الجماعات التي تضطرها الحروب المترافقة مع القمع والعنف والتطرف الى البحث عن أوطان بديلة. الواضح ان هذا الادب الى ازدهار، لأن الاستقرار لا يزال نعمة مفقودة في عالمنا مع موجات العنف المتلاحقة التي تجتاح أكثر من مكان يصنَّف نامياً او فقيراً، ويقرر اللاعبون الكبار استخدامه ورقة في صراعاتهم.
الحاجة الى الادب ونموذج انشتاين المفوضية العليا للاجئين تقف في المنتصف بين اللاعبين الكبار، اي الممولين، واللاعبين الصغار، الذين يتركون للكبار ان يحرّكوهم على رقعة مصالحهم، لينصرفوا الى اللعب بشعوبهم والتنكيل بها خشية خسارة نفوذهم ومناصبهم. يعرف المسؤولون في المفوضية ان الحاجة الى المحافظة على حدود الأدب الاجتماعي ماسة في التعامل مع قضايا اللجوء. يبتعدون عن "الاستفزاز" الذي يمكن ان يصدر في ردّ معترض على جرائم انسانية، اذا كان الامر يؤدي الى كفّ يدهم عن العمل في مناطق النزاعات والتهجير، ولا سيما بعدما تذاكى الديكتاتوريون فوظّفوا النصوص الاممية لخدمتهم، بعدما كانت توظَّف لإدانتهم، فباتت تُستخدم "أدبياً" لأغراضهم الاجرامية. ربما هذه الحاجة الى الادب، دفعت برئيس المفوضية العليا لشؤون اللاجئين انطونيو غوتيريس الى التركيز على الوضع الصعب الذي يعانيه لبنان جراء تدفق اللاجئين اليه، وهو البلد الذي يؤوي فلسطينيين يشكلون 10 في المئة من نسبة سكانه. على فكرة، غوتيريس لا يعرف شيئاً عن النائب السابق والمعارض السوري مأمون الحمصي، الذي أعلنت المفوضية أنها منحته صفة لاجئ. الحمصي هو نائب سابق سُجن خمس سنوات عام 2001، وغادر سوريا بعد الإفراج عنه عام 2006 خوفاً من أن يُلقى القبض عليه من جديد في إطار حملة على الناشطين، وتوجه إلى الأردن، لكن السلطات هناك طلبت منه أن يغادر البلاد تجنباً لإثارة غضب دمشق، وهو يعيش الآن في بيروت. غوتيريس الذي احتفل في سوريا باليوم العالمي للاجئين، يوم منح الحمصي صفة لاجئ، قال لنا انه ابدى شكره للاهتمام والانفتاح لدى الحكومة السورية التي تستقبل مليون لاجئ عراقي على رغم الوضع الاقتصادي، وتوفر لهم الدعم والمساعدة. أضاف ان الوضع في لبنان مختلف عما هو في سوريا: "في الحالة اللبنانية الوضع معقد، لا سيما بوجود هذا العدد من اللاجئين الفلسطينيين. على رغم ان المشكلة ليست من اختصاصنا كمفوضية، الا انه لا بد من ان نعترف بالوزن الثقيل الذي يحمله لبنان منذ عام 1948. ذلك ان 10 في المئة من سكانه لاجئون فلسطينيون. كما لا ننسى ان لبنان يعيش صراعات داخلية ويتعرض الى حروب خارجية بشكل مستمر، اضافة الى وضع متعب على الصعيدين السياسي والسكاني". يحرص غوتيريس على حدود الادب في حديثه عن الحكومات التي تتعامل معها المفوضية. يحاول "تلطيف" مأساة اللجوء. يبحث بحرص عن ايجابيات هذا الهروب الكبير للبشر من الحروب والقمع والقتل. يقول: "هناك ايجابيات في حركات النزوح السكاني. يجب ان نعترف ان الدول تستفيد من الكفاءات التي تلجأ اليها. واذا تعمقنا في الامر لوجدنا ان اللاجئين ساهموا في الحداثة والتطور والتقدم الاقتصادي التي شهدتها امكنة لجوئهم، بعدما أفادوا من النظام الديموقراطي والحرية العامة". يستشهد بأشهر اللاجئين البرت انشتاين، وما اعطاه للولايات المتحدة.
الحاجة الى اللغة يوافق غوتيريس على ان عامل اللغة يساعد العراقيين والسودانيين النازحين الى لبنان وسوريا والاردن، وهو الامر غير المتوافر لنازحين الى دول يجهلون لغتها، لكنه يوضح ان "عامل اللغة يسهل ظروف اللجوء. يجب ان اقول ايضا اني ألاحظ دائماً في مجموعة اللاجئين ارادة قوية للتكيف والاستقرار، من ضمنها التواصل حيث يقيمون. هم مصممون على اكتساب اللغة واكتشافها". لا يغادر المسؤول الرفيع، العموميات في حديثه، فالحرص واجب، والتحديات كثيرة. الاحتدام بين اهل السياسة في لبنان، على خلفية الحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين "المسلمين" بين مزدوجين يختزلان حدة الانقسام الطائفي، لا بد ان يرمي بظلاله على غير الفلسطينيين من اللاجئين "المسلمين" الذين يفدون الى لبنان تهريباً في غالب الاحيان. لا يريد ان يزيد الطين بلة. أسأله: ألا تجمّل الواقع الدرامي بهذا الطرح الايجابي؟ وكيف ترى وضع اللاجئين في لبنان؟ يجيب: "كمفوضية، يجب ان نتكامل مع سياسات الدول التي نتعامل معها حتى نصل الى المستوى الذي نطلبه. نحن نقوم بحوار بنّاء مع الحكومة اللبنانية الجديدة ومجلس النواب والامن العام. الحوار مفتوح وحر، ويسمح لنا بأن نقدم توصيات آمل منها كثيراً". يضيف: "العراقيون يعيشون ظروفاً صعبة ورهيبة، لذا يحظون بدعم عالمي. هم عانوا كثيراً في العراق. لكن لا بد من مراعاة حساسية الدول النامية التي تسمح بإيواء العائلات العراقية"، معترفاً بأن "هناك مشكلة صعبة تواجه اللاجئين الى لبنان. قمنا بزيارة المراجع الرسمية وعملنا معها. المهم اننا ارسينا حواراً مفتوحاً مع السلطات اللبنانية. هناك العديد من الامور التي حصلت واتمنى ان تؤدي الى نتائج". لكن تبقى الغلبة للايجابية. يقول: "ما يسهل عملنا وجود تحرك مدني لدعم اللاجئين والتزام اعلامي لشرح اوضاعهم وطرح قضاياهم. لكن يجب ان لا ننكر بعض الانجازات على الصعيد العالمي للجوء. ففي تنزانيا مثلاً منحت الحكومة الجنسية لعشرات الآلاف من اللاجئيين البرونديين. كما ان الظروف الصعبة في اليونان لم تحل دون ايواء من يلجأ اليها. وكذلك الامر في باكستان حيث يتم ايواء مليون ونصف مليون من الافغان. الامثلة على الكرم لا تنتهي. وهناك نماذج جيدة وليس قهراً فقط. ومن اصل 15 مليون لاجئ حول العالم عاد في العام الماضي 250 الف لاجئ الى بلادهم. وقدمنا 128 الف طلب لتوطين لاجئين في دول حاضرة لإستقبالهم. وغادر 86 الفاً منهم الى اوطان جديدة. هناك جهود لا يستهان بها. والحقيقة ان اللجوء له وجه جيد عدا الوجه السيئ". يتجنب غوتيريس تأثيرات التغيير الديموغرافي الذي تتعرض له المجتمعات بسبب النزوح القسري الذي يحدث في امكنة كثيرة من العالم وما يستتبع ذلك من موت لغوي لكثير من الجماعات. يصر على النصف الممتلئ من الكوب. يستشهد بأوجه الشبه بين وطنه البرتغال ولبنان، ليقول: "ان الهجرة لا تكون دائماً بسبب الحروب والقمع والقتل، انما لظروف اقتصادية كما هي حال بلدينا. فحركات الشعوب مستمرة. وهذا ما يؤدي الى الغنى. اللبنانيون والبرتغاليون اعطيا نموذجا لهذا الغنى. يجب ان نرى الأمور من كل زواياها. كثيرة هي الدول التي افادت من مساهمات اللاجئين الذين استقروا فيها". لكنه لا يبدي تفاؤلاً حيال امكان توقف عمليات النزوح القسري، فيوضح: "بكل اسف عندما ننظر الى العالم ونرى صراعات لا نهاية لها ومشكلات يصعب حلها، نعرف ان قضايا اللاجئين مفتوحة على مزيد من التعقيد".
أدبيات الخوف التعقيد الذي تحدث عنه رأس الهرم في المفوضية العيا لشؤون اللاجئين، يصبح ضئيلاً في مدلولاته عندما نتابع الفيلم الوثائقي "أنا آت من مكان جميل" للمخرجة كارول منصور. نقارن عندما لا نرى اللاجئ العراقي حيدر، لنكتفي بظلاله فنسمعه يقول: "صوّري آثار التعذيب على ظهري. ولا تصوّري وجهي". ويضيف: "كنت من قبل أعيش في زاوية ولا أتحرك كثيراً خارجها. كنت أخشى أن يعيدوني إلى ذلك المكان الرهيب". ينساب الكلام مع حيدر بلغة مذهلة، غنية ولاقطة، كأنها تأسر سامعها في شباكها، فلا يستطيع ان يتملص منها. يتخيل انه يقرأ كتاباً أدبياً رفيع المستوى. هل يمكن اغفال المستوى الادبي عندما يقول الرجل: "احلم ان اعيش في مكان استطيع ان افتح فيه الشبابيك على مشهد جديد ولغة جديدة وعالم جديد. اريد ان ابدأ اول حرف من أول فصل في حياتي المقبلة". حيدر هذا، تعرض الى الاعتقال بتهمة "تخريب اقتصاد العراق". والسبب انه كان يحتفظ بمبلغ من العملة الصعبة ليشتري اغراضاً لدكانه. بالطبع، وفي اطار "أدب الوشاية" السائد في الانظمة الشمولية التي تحيط بنا، وُجد من "يدزّ" عليه، ليأتيه حفظة النظام الذين يبرعون في "ادبيات التعذيب"، وبدأت "تحقيقات عظيمة معي مع اني انسان بسيط". الحصيلة كانت خسارة حيدر شبكية عينه، لذا قرر مغادرة العراق، فسار على قدميه حوالى 16 ساعة في العراء ليتمكن من اجتياز الحدود والتسلل الى سوريا ومن ثم الى لبنان، حيث تزوج ورزق ابنة صغيرة. لكن "حرب تموز" سطرت لعائلة حيدر فصلاً جديداً من التهجير، وذلك عندما فضّل العودة الى العراق، ليعيش الفظاعة مرة ثانية مع اختطافه. هناك اضطر للبحث عن أخيه المخطوف. وعند وصوله، وجد أن رجال إحدى الميليشيات قد احتلوا منزله واقتادوه سجيناً لديهم. علّقوه من السقف وكووا ظهره بسيخ حديد ساخن. لا يذكر كيف نجا منهم وعاد الى لبنان مجدداً. السبب انهم "حطموا ذاكرتي ومحوا عنها الكثير. إذا رأيت سكيناً أو درابزين أو سيخ حديد، أرتعب وأرتجف من الخوف". هنا ندخل في ادب الرعب. يقول: "فيلم رعب حقيقي. انا اختطفت واخي اختفى. نحن لا ننتمي الى حزب انما الى دين معين نحاسب عليه ونعاقب. اسمع صوت السكين يذبح انساناً كأنه يذبح دجاجة. وانا قرب هذه الجثث". لا خيال او اضافات او بلاغة. هو ادب اللجوء بكل وقائعه التي يسردها انسان حرموه الوطن الصغير، اي البيت، وغرفته التي كانت تضم اشياء جميلة: فرشاة ألوان ولوحة للرسم وألوان الربيع. البيت تحول ثكنة او مستودعاً لتصدير الجريمة والعنف. الخوف هو خبز عدد كبير من اللاجئين، لا سيما اولئك الذين دخلوا لبنان خلسة على أمل الخلاص من اضطهاد او خطر على الحياة او تحسين أوضاعهم المعيشية نظرا إلى نسبة الفقر المخيفة في بلادهم، او الذين خططوا ليكون لبنان محطة في انتظار اللجوء إلى أحد البلدان الغنية، فعلقوا في دوامة مستمرة منذ سنوات، كما هي الحال مع سوداني من جبال النوبة هرب بعد تعرضه الى تمييز عنصري قارب خطر الموت. يقول: "دخلت لبنان خلسة من سوريا لقاء مبلغ 450 دولارا، وذلك لصعوبة الحصول على تأشيرة شرعية". الرجل يحمل إجازة جامعية في التربية، لكن عمله في لبنان كان في ورش البناء. يحكي كيف تعرض الى الكثير من الظلم، وغالباً ما سرقه رب العمل ولم يدفع له بدل أتعابه. لكن المعاناة الكبرى التي عاشها كانت عندما ألقي القبض عليه بسبب إقامته غير الشرعية، اذ تم توقيفه في المخفر، لكنه لم يدخل السجن بل وقع في قبضة مافيا مهمتها أن تبتزّ من هم في وضعه، وعددهم بالآلاف. دفع لرجال المافيا 700 دولار، كما قال، "ليكفّوا شرّهم عني. لكنهم عادوا لطلب المزيد. ضربتهم زوجتي. وانا هددتهم بأن انتحر وركضت الى الشرفة. كنت انوي ان افقز الى الطريق وارتاح". لنعد الى فيلم كارول منصور مع لاجئ آخر من السودان. يقول اللاجئ السوداني الذي تحفّظ عن عدم ذكر اسمه، كما رفض عرض وجهه على الشاشة: "اختبأنا حتى انتهى الضرب، ثم خرجنا فعثرت على امي. كانت تنازع. طلبت اليَّ ان اذهب للبحث عن اختي الصغيرة التي بالكاد تبلغ سبع سنوات. ذهبت وفتشت ولم أعثر عليها". هذا اللاجئ خسر والديه وثلاثة اشقاء وثلاث شقيقات في تلك الغارة. لم يبق احد من عائلته الا تلك الصغيرة. يقول: "رحت الى التلة لأبحث عنها. جاء الطيران وجاءت السيارات وتم اجلاء من بقي حياً. شالها الجيش. وين راحوا؟ لا اعرف". هو لا يرى اي امل في الحياة. لا يهمّه المستقبل الا من زاوية العثور على هذه الشقيقة المفقودة. يفهم هذه المشهدية كل من زار معسكرات اللجوء في دارفور، وحاور الفتيات اللواتي يتم اغتصابهن على أعين المجتمع الصغير والمجتمع الكبير، ليفاجأ بأن موظفي الامم المتحدة يطلبون منه مراعاة الوضع في كتابة الموضوع حتى لا تتهمهم السلطات السودانية بتشويه الواقع وتضخيمه وتعمد الى طردهم. غالباً ما يطوّع اللاجئون اللغة لرسم مشهدياتهم. الفتى جمال اعطى دراجته الهوائية اسم "وحيدة" وزخرفها. هو في الثانية عشرة من عمره يدرس ويعمل ليعيل اسرته في مخيم "عطاش" في محافظة نيالا (دارفور). هيثم، رفيق جمال، لا يستطيع الحصول على دراجة ليزخرفها. أسأله: من اين انت؟ لا يجيب. يغلبه الدمع. يقول بعد قليل انه يخاف الحرب ويكرهها، ويضيف: "كان لدينا دار جميلة وشجر وبقر وغنم. والآن لا شيء. قُتل والدي وانا أعمل وأدرس واعطي والدتي أربعة دنانير كل يوم". هيثم يستمد أمانه من صندوق الامم المتحدة للسكان، كما يقول موضحا: "يعطوننا العيش والزيت والسكر ويعالجوننا عندما نمرض ويتحدثون الينا بلطف. اما المسلحون فهم أكثر قسوة. لذا اعتبر ان الموظفين في الصندوق اصدقائي وانتظر حضورهم الى المعسكر. وعندما أكبر سأعمل معهم. سأدرس الطب وأعالج الاطفال في المعسكرات وأقدم المساعدات، كما يفعلون". الاطفال اللاجئون لا يحتاجون الى مستوى عالٍ من الثقافة والمعرفة ليولّدوا المعنى ببساطة تغني عن الخطابة والبيانات الرسمية والتحقيقات، فنعرف ماذا حصل. يرسمون المعنى بكلماتهم، في حين يصر المسؤولون على تصوير كل ما يجري وكأنه "شأن داخلي" او "غمامة صيف"، كما قال احدهم خلال الزيارة. المسؤولون لا يريدون اي حديث عن مثل هذه الحالات، سواء في دارفور او الصومال او اليمن او العراق او لبنان او غزة او اي مكان من امكنة العنف والقهر. يكفيهم اتهام منظمات الامم المتحدة بالكفر والالحاد والاستكبار، ليتابعوا بعد ذلك سياستهم الرشيدة والحكيمة، ويجدوا انصاراً لهم يشاركونهم العداء لكل ما من شأنه ان يحد من تسلطهم ونفوذهم.
حياة مختزلة مرة ثانية مع فيلم كارول منصور حيث نسمع العراقية هناء تقول: "هذه صورتي مع زوجي. كنا نخرج كل يوم ونتعشى في الخارج ونأكل بوظة. وهذا دفتر توفير مصرفي. كنت العب بالمال لعباً حتى وانا صغيرة". تنهض وتستعرض بيتها اللبناني، لتشرح: "انام هنا على هذا السرير. وعلى السرير الآخر ينام شقيقي وزوجته. وعلى الارض ينام ابنهما الصغير. ومن اسرّتنا نشاهد التلفزيون". هنا الصورة لا تحتاج الى شرح. هنا متع الحياة يختصرها التلفزيون وعوالمه الافتراضية في غياب تام للعالم الحقيقي الذي يفترض ان يؤمّن "لجميع البشر دون تمييز حق التمتع بالحقوق والحريات الاساسية". زوج هناء خرج ولم يعد. وفقدت كل شيء مع غيابه. راحت تفتش عنه في المقابر والمستشفيات. لأنها إن لم تفعل ذلك لعذبها ضميرها. اليوم ارتاح ضميرها على يأسها وانسداد افقها، في حين ان اهل الزوج لا يزالون يتابعون البحث على امل العثور عليه. ربما لا يعرف حيدر وهناء والسوداني الباحث عن شقيقته وجمال الفخور بـ"وحيدة" وهيثم الذي يكره الحرب ويحنّ الى بيته الجميل، انهم بروايتهم اجزاء من تجاربهم، يختزلون حيواتهم، ويكرّسون "ادب اللجوء" الذي يغلب "الادب البروتوكولي" لمسؤولي المفوضية الساعية الى ايجاد أوطان بديلة لهؤلاء. قد نفهم دواعي "الادب المفرط" للمنظمات هذه، عندما نعلم بخبر اقفال مكتب المفوضية في ليبيا والطلب الى الموظفين الدوليين مغادرة البلاد من دون ذكر الاسباب، ومن ثم العودة عن قرار الاقفال مع فرض شروط. نفهم أكثر عندما نتابع التهديدات والاخطار التي يتعرض لها العاملون على ارض ميادين اللجوء والحائرون بين كبار اللاعبين وصغارهم .
|