محمد حسين فضل الله |
المقاله تحت باب في السياسة صباح يوم أمس الأحد الرابع من تموز الجاري ودّع الحياة الدنيا المرجع الكبير محمد حسين فضل الله عن عمر ناهز الرابعة والسبعين إلى حيث رحمة الله التي نرجوها له ولنا وللناس أجمعين. فضل الله وحركة أمل
كان يسعى السيد محمد حسين فضل الله من أجل أسلمة الحركة، لاسيما بعد اختطاف السيد موسى الصدر، وذلك بالتنسيق مع حزب الدعوة الإسلامية، الذي كان له آنذاك ثمة وجود في لبنان في إطار ما كان يسمى بإقليم لبنان، عندما كان الحزب أمميا، وله أقاليم إلى جانب إقليم العراق، بلد التأسيس، مثل إقليم لبنان وإقليم إيران وإقليم أفغانستان وإقليم الكويت. ولكنه أشاد في وقت لاحق بشخصية موسى الصدر، وبطروحاته المدنية (ولعله العلمانية) أي البعيدة عن تسييس الإسلام. علاقة فضل الله بكل من حزب الله وإيران من جهة، وأمريكا وإسرائيل من جهة اشتهر عن فضل الله في بداية تأسيس حزب الله من قبل الإيرانيين، حيث أمروا المنتسبين إلى حزب الدعوة بحلّ حزب الدعوة – إقليم لبنان كشرط لدعم إيران للإسلاميين الشيعة اللبنانيين؛ اشتهر عنه أنه المرشد الروحي للحزب. ولكن الحزب لم يكن منسجما مع فضل الله، لقربه من حزب الدعوة المتهم آنذاك بولائه المطلق لإيران وصدق تبنيه لولاية الفقيه والتزامه بلوازمها وفق الرؤية الإيرانية، ولكون فضل الله طرح نفسه في وقت لاحق مرجعا دينيا، بينما يعتبر حزب الله المرجعية الدينية للشيعة متجسدة حصرا فيمن يسمونه الولي الفقيه، وولي أمر المسلمين، ومرشد الثورة الإسلامية، والسيد القائد، خامنئي. فكان هناك وفاق ظاهري، وتناقض في العمق. ومع هذا اجتنب فضل التقاطع مع حزب الله وإيران وسوريا، بسبب المشترك بينه وبين هؤلاء الثلاثة، ألا هو العداء لأمريكا وإسرائيل. ومن هنا كان فضل الله من أكثر الفقهاء مرونة واعتدالا في القضايا الاجتماعية والمذهبية، لكنه بقي محسوبا على المتشددين فيما هي السياسة، أي فيما هو مبنى الإسلام السياسي، الذي كان يصطلح عليه فضل الله بـ(الإسلام الحركي)، بينما اصطلح خميني عليه بـ(الإسلام المحمدي) في مقابل ما أسماه بـ(الإسلام الأمريكي). فضل الله وحزب الدعوة كان فضل الله في لهجته وولادته وطفولته وشبابه وبداية حياته الحوزوية والفكرية والسياسية عراقيا أكثر من كونه لبنانيا. وكان كما هو الحال مع محمد مهدي شمس الدين في البداية في حزب الدعوة، كما كانا اربطا بمرجعية محسن الحكيم. وبعد انفكاكه تنظيميا بقي فضل الله محافظا على علاقة وطيدة مع حزب الدعوة، للمشتركات الكثيرة بينهما، فكلاهما يعتمدان الإسلام السياسي ومشروع أسلمة المجتمع، وكلاهما بقيا على مسافة من تجربة جمهورية إيران الإسلامية، فلم يعادياها، ولكن لم يندكا في مشروعها اندكاكا. وكلاهما لم يعتمدا الغلو في مجالاته الثلاثة، الغلو العقائدي بالقول بالولاية التكوينية للمعصوم، مما يجعله - نبيا أو إماما أو صديقة - ذا صفات إلهية من علم مطلق وقدرة كونية مطلقة ممنوحتين له من الله، والغلو الشعائري من تطبير وغيرها من شعائر متطرفة، وغلو سياسي في القول بولاية الفقيه المطلقة نظريا، والولاء المطلق للتجربة الإيرانية عمليا. فمع إن الإسلام السياسي كله متشدد وغير منسجم مع روح الديمقراطية، إلا أن فضل الله كان معتدلا وعقلانيا نسبيا أي في مقابل المتشددين والمتطرفين. هذا بقطع النظر عن وجهة نظري في سقوط حزب الدعوة في الامتحان السياسي في العراق، حيث كان مشاركا في مسؤولية ما ترتب على تسييس الدين واعتماد الطائفية السياسية والسكوت عن الدور الإيراني المؤذي. علاقتي شخصيا بفضل الله منذ أواسط الثمانينات وأنا على تواصل مكثف مع السيد محمد حسين فضل الله، حتى انتهت العلاقة بتعيينه إياي وكيلا شرعيا له في ألمانيا، حيث كتب الوكالة بخط يده في 24/ شعبان 1417، الموافق 04/01/1997، وجاء في الوكالة: «... وبعد فإن فضيلة الشيخ ضياء الشكرجي من خيرة المؤمنين الصالحين العاملين في سبيل الله الداعين إلى دينه الحنيف المبلغين لرسالاته. وإن مواصلته للعمل التبليغي لفترة طويلة وخلفيته في مجال الثقافة الإسلامية أكسبته خبرة جيدة في هذا المجال، ولأننا خبرنا إخلاصه لله سبحانه من خلال التواصل معه منذ سنين فإني أدعوكم إلى مؤازرته ودعم مشاريعه وإنجاح برامجه وخططه فيما يرضي الله ورسوله وأهل بيته الكرام. وقد وفقه الله للانضمام إلى دورة مركزة في علم الأصول والفقه النظري والتطبيقي وساهم في تدريسه فيها خيرة من أساتذة حوزتنا في الشام وقد اجتاز هذه المرحلة بنجاح كبير كما إنه شارك في تدريس مادة العقيدة في بعض حلقات حوزتنا، ولذك فقد كان جديرا بأن يتزيا بزيّ أهل العلم ويسلك هذا المسلك مقررا المواصلة للدرس بين وقت وآخر. وهو وكيلنا في الإشراف الديني والتربوي في ألمانيا، وهو مجاز من قبلنا في التصدي للأمور الحسبية الراجعة إلى الحاكم الشرعي ...». وقد خلعت الزي المذكور في نهاية 2004، وأعلنت استقالتي من حزب الدعوة الإسلامية في 03/05/2006، وحسمت خيار العلماني في نهاية نفس السنة، وأعلنت إنهاء توكلي عن المرجع محمد حسين فضل الله في 08/02/2007، وفي 21/05/2009 أعلنت انفكاك مسؤوليتي عن دار الهدى في هامبُرڠ وكذلك عن الجمعية العراقية في ألمانيا، والتي كانت تمل سابقا اسم الجمعية الغسلامية العراقية في ألمانيا. وفيما يتعلق بإعلان التخلي عن توكلي عن المرجع الفقيد، لم يكن ذلك من جراء موقف شخصي، بل لاعتبارات مبدئية تتعلق بمباني السياسية والدينية والفلسفية التي انتهيت إليها عبر مخاضات ومراحل تطور متعددة. وقد نشر إعلاني التخلي عن توكلي عن السيد على موقعي (كتابات) و(عراق الغد) في التاريخ المذكور، تحت عنوان «توضيح مهم: لست وكيلا لأي مرجع»، وجاء فيه: «بيان .. أعلن للجميع - وبقرار ذاتي - بأنني لست وكيلا لأي مرجع. ... لذا أنبه الإخوة والأخوات الذين ما زالوا يتعاملون معي، بصفتي وكيلا لأحد الأعلام من مراجع الدين، أن يعذروني عن مواصلتي لهذا الدور.» ثم كتبت عن خلفية الوكالة، وأعقبت ذلك بدوافع نشر هذا التوضيح بقولي: «أكرر احترامي للمرجع الكبير الذي منحني تلك الوكالة بعبارات ما زلت أعتز بها. ولكني بصراحة، لم أعد أؤمن بصحة تصدي أي مرجع للقضايا السياسية، حتى لو كانت تلك المواقف على الأعم الأغلب هي الأرجح صوابا، وأقول الأرجح كون الصواب من غير شك يبقى أمرا نسبيا، ولإيماني الذي يستند إلى قواعد شرعية، لا يحتاج المرء عادة إلى بلوغ مرتبة الاجتهاد حتى يدركها ويتقن استخدامها، لا فقط بعدم وجوب، بل بعدم جواز التعامل مع الآراء والمواقف السياسية للمراجع المحترمين على أنها تمثل فتوى شرعية ملزمة، وحيث أن سماحة المرجع الذي منحني الوكالة من المتصدين، وبجدارة نسبة إلى غيره، ومن زمن طويل للشأن السياسي، ومن أجل ألا أسبب لسماحته حرجا، باعتبار أن فكري السياسي لا يلتقي مع كل طروحات سماحته، وربما يكون من غير المناسب أن تتقاطع ولو في بعض المفاصل المواقف والآراء السياسية لكل من الوكيل والمرجع مانح الوكالة مع بعضهما البعض؛ من هنا رأيت من الأرجح أن أتخلى عن تلك الوكالة، وأعلن ذلك.» كما جاء في ذلك التوضيح ما يلي: «أما فيما يتعلق برأيي بعدم اعتبار الآراء والمواقف السياسية للمراجع بمثابة الفتوى الملزمة، فقد بينت ذلك في مقالة تحت عنوان «ظاهرة الفتوى السياسية والموقف الشرعي منها» نشرت عام 2003 في صحيفة «البيان» التابعة لحزب الدعوة، ... ونشري لتلك المقالة هو ما جعل مكتب إحدى المرجعيات المتصدية في النجف الأشرف يستوضح من المسؤولين في الصحيفة وفي الحزب في حينها، عما إذا كان ذلك وبقية كتاباتي تمثل مواقف الحزب، فكان الجواب، بل هي تمثل آراء الكاتب، وقد كتب في وقتها أحد أعضاء القيادة مقالة يرد على مقالتي تلك، دون أن يناقش ما ورد فيها من أفكار، بل اقتصر على ذكر أن مواقف الحزب تستقى من مواردها الخاصة المعروفة، وأن آراء كاتب المقالة ضياء الشكرجي إنما تمثل رأيه الشخصي، وليس رأي الحزب. ولا أريد أن أذكر هنا كم من أفراد حزب الدعوة يحملون نفس القناعات التي طرحتها حينئذ، بل ونفس الأفكار التي أطرحها اليوم. على أي حال تلك المقالة كانت إحدى الأسباب التي جعلت بعض أعضاء اللجنة المكلفة من قبل المرجعية لفحص أهلية المرشحين لقائمة الائتلاف للدورة الأولى يصرون على شطب اسمي في البداية لكوني - كما عبروا - مناوئا للمرجعية. وهذا يعبر عن الثقافة السائدة لدينا، بوضع صاحب الرأي المتفاوت بأي درجة في خانة أو جبهة المناوأة، أو ما يعبر عنه أحيانا بما هو أشد من مجرد المناوأة...» وبعد انقطاع طويل زرت المرجع فضل الله في آب 2009 في مكتبه في بيروت، ولم يكن لقاء وكيل بمرجع ولا مريد بمفكر، بل كان لقاء مرجع وشخصية دينية سياسية قيادية متصد لقيادة تيار الإسلام السياسي، وبين سياسي ومثقف علماني، حيث تقاطعنا في رؤانا في هذا اللقاء، مع احترامي لهذا الرجل، الذي لن تنجب المرجعية الشيعية مثله في وقت قريب، ولو إني أتمنى أن يأتي يوم يجرؤ فقيه على بيان ما توصل إليه، ألا هو ألا واقع حقيقيا ولا دليل شرعيا لموضوعة المرجعية، وإن الله يزن العباد بأعمالهم ونواياهم، بمعاملاتهم ومواقفهم وأخلاقهم، بإنسانيتهم واستقامتهم ونزاهتهم، لا بعقائدهم وعباداتهم وشكليات الدين. الفراغ الذي سيتركه فضل الله سيعود الملتزمون دينيا من الشيعة المعتقدين بمقولة أن عملهم لا يكون مجزيا شرعا ولا مبرئا للذمة إلا عبر أحد ثلاثة طرق، هي الاجتهاد، أو التقليد، أو الاحتياط، وحيث أن أكثر الناس ليسوا من المجتهدين، والعمل بالاحتياط صعب وشاق ومكلف، فلا يبقى لهؤلاء إلا أن يقلدوا، أي يتبعوا فقيها ما، لذا سيعودون إلى دوامة وجوب تقليد الأعلم، وعدم جواز التبعيض، وعدم جواز العدول من مرجع إلى آخر، إلا بحصول القطع واليقين بأن المعدول إليه أعلم من المعدول عنه، وسيعودون إلى دوامة الاختلاف في تحديد أوائل الأشهر الشرعية، لاسيما أول رمضان وأول شوال، حتى اشتهر عن الشيعة تأخرهم دائما في يوم الصيام ويوم العيد عن سائر المسلمين، ولو إن السنة لطالما اختلفوا في تعيين أيامهم الشرعية فيما بينهم، كما اختلف اتلشيعة فيما بينهم، حتى حصل قبل سنوات أن كانت لعيد الفطر ثلاث بدايات في العالم الإسلامي. ثم حتى الذي سيريد العمل بفتاوى فضل الله من غير الذين كانوا يقلدونه في حياته، لن يستطيع ذلك، لعدم جواز تقليد الميت ابتداءً، والذي ذهب حتى فضل الله نفسه إلى تبنيه، بعدما أفتى في بداية تصديه للمرجعية بجواز ذلك. نعم يمكن الخروج من هذه المآزق التي لها بداية وليس لها نهاية، إذا ما توصل الشيعة وكافة المسلمين إلى عدم وجوب تقليد فقيه أو اتباع مفت محدد، بل اعتماد مجموعة قواعد شرعية أو عقلائية، ألا هي: قاعدة التبعيض في التقليد. قاعدة جواز العمل بفتوى الميت. قاعدة اليسر. قاعدة اعتماد جوهر الدين القيمي لا شكله الفقهي. قاعدة اعتماد مرجعية العقل والضمير قاعدة تدين الأخلاق لا تدين الأحكام. كان بودي: كان بودي أن أكتب أشياء أخرى، منها «فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين»، و«فضل الله والعراق»، و«فضل الله والخط الشيرازي»، و«فضل الله والمجلس الأعلى»، و«فضل الله ومشروع مأسسة المرجعية» الذي لم يكتمل. ومع كل ما يقال يبقى الفقيه الفقيد محمد حسين فضل الله ظاهرة تستحق الاحترام والدراسة، حتى من قبل الذين اختلفوا معه، أي حتى بالنسبة لنا نحن العلمانيين سياسيا، والمؤمنين بمبدأ الحرية، وبقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان. رحم الله محمد حسين فضل الله، ورحمنا، ورحم الله الإنسانية جمعاء. * وكيله في ألمانيا من 1997 – 2007 dia.alshakarchi@yahoo.de |