المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
22/06/2010 06:00 AM GMT
إذن رحل ساراماغو بهدوء. أتاح له الموت المؤجل منذ فترة فسحة أخيرة من زمن الحياة ليقول وداعا لعائلته وزوجته التي أحبته كثيرا على الرغم من فرق ثلاث وثلاثين سنة بينهما، ولمدينته الصغيرة في جزر الكناري، التي كانت منفاه الاختياري بعد صراعه مع سلطات بلده البرتغالية. رحل أول من أمس بهدوء الرجل الذي اتفق الجميع على أنه واحد من أعظم كتاب القرن العشرين، وأشرفهم أيضا، فلم يتخل عن فكره الماركسي، وعن عضويته الفعلية في الحزب الشيوعي البرتغالي، على الرغم من تحول الكثيرين إلى اتجاهات نقيضة تماما، وعلى الرغم من هذا الفكر أصبح محل استنكار أو حتى تندر في أنحاء كثيرة من المعمورة، واستمر يعارك الحياة بالكتابة والنضال في قرن، سماه رفيقه الماركسي المؤرخ البريطاني الكبير أريك هوبزبوم «أعنف القرون وأبغضها». يقول عن هذه المفارقة بعد نيله جائزة نوبل للآداب عام 1998: «اعتاد الناس أن يقولوا عني إنه إنسان جيد، لكنه شيوعي. وهم يقولون الآن إنه شيوعي، لكنه إنسان جيد». وقاده هذا الفكر إلى التضامن مع كل المضطهدين في العالم، ومعروفة مواقفه إلى جانب الشعب الفلسطيني. فبعد معركة جنين الشهيرة عام 2002، زار المخيم، وكتب عن ذلك: «كل ما اعتقدت أنني أملكه من معلومات عن الأوضاع في فلسطين قد تحطم، فالمعلومات والصور شيء، والواقع شيء آخر. يجب أن تضع قدمك على الأرض لتعرف حقا ما الذي جرى هنا.. يجب قرع أجراس العالم بأسره لكي يعلم.. إن ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقف.. لا توجد أفران غاز هنا، ولكن القتل لا يتم فقط من خلال أفران الغاز. هناك أشياء تم فعلها من الجانب الإسرائيلي تحمل أعمال النازي أوشفيتس نفسها. إنها أمور لا تغتفر يتعرض إليها الشعب الفلسطيني». وأثناء محاصرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في رام الله، كسر ساراماغو الحصار هو ومجموعة من الكتاب العالميين. ما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين يشبه ما كان يقوم به النازيون ضد اليهود في معسكرات الاعتقال في (أوشفيتز)، وأثار تصريحه هذا ضجة كبيرة في إسرائيل، وهاجمه السياسيون والإعلاميون والأدباء. وقال ساراماغو في مؤتمر صحافي معلقا على انتقادات الإسرائيليين له: «ما قلته قلته فعلا، وإذا كانت كلمة أوشفيتز تصدم، فيمكن أن أغيرها إلى جرائم ضد الإنسانية. اختاروا أنتم». ومنذ هذه الزيارة، عقد صداقة وطيدة مع الشاعر محمود درويش، الذي كان يعتبره بمنزلة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا. وكتب عنه فيما بعد قائلا: «أن تقرأ محمود درويش - بالإضافة إلى أن ذلك يمثل تجربة جمالية من المستحيل نسيانها - يعني القيام بجولة أليمة على خطى الظلم والعار اللذين كان ضحيتهما الشعب الفلسطيني على يد إسرائيل، هذا الجلاد الذي قال عنه الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان، في لحظة صدق، إنه لا يعرف الرحمة. «اليوم، في المكتبة، قرأت بعض أشعار محمود درويش وذلك من أجل إنجاز شريط وثائقي سيتم عرضه في رام الله بمناسبة الذكرى السنوية لوفاته. لقد دعوني لكي أذهب إلى هناك، سنرى إذا كان ممكنا القيام بهذا السفر، الذي لن يكون، بكل تأكيد، محل ترحيب من طرف الشرطة الإسرائيلية. أحب أن أذكر، بالعناق الأخوي الذي تبادلناه، أنا ومحمود درويش، في ذلك المكان بالذات، قبل ست سنوات، والكلمات التي توجهنا بها لبعضنا التي لن يكون بإمكاننا العودة إلى تبادلها. في بعض الأحيان تنتزع منك الحياة بيد ما تمنحك إياه باليد الأخرى. هذا ما حصل لي مع محمود درويش». أدبيا، حقق ساراماغو تلك المعادلة الصعبة بين الإنسان والمبدع. لا انفصام هناك بينهما، كما نرى عند كتاب كثيرين. التزامه كإنسان بالفكر الماركسي، لم يسقطه في فخ ما كان يسمى آنذاك بـ«الواقعية الاشتراكية»، التي وضعت مقاسات معينة اختنق في دائرتها كتاب كثيرون، وغلب فيها الفكر على الفن، أو الرؤية السياسية على حرارة الإبداع الفني الحقيقي. صهر ساراماغو الاثنين في بنائه الروائي منذ روايته الأولى «بلد الخطيئة»، 1947، ومن هنا قوة إبداعه، التي أهلته بجدارة إلى نيل جائزة نوبل، وسر بقاء أدبه أيضا، الذي بناه بصمت وصدق كبيرين. كان يؤمن، مثل همنغواي، أن على الكاتب أن يصمت إذا لم يكن يملك شيئا مهما ليقوله. وفعلا صمت ساراماغو لأكثر من ثماني عشرة سنة، لم ينشر خلالها سوى بعض المجموعات الشعرية العادية المستوى، مكرسا معظم وقته للصحافة. ويبدو أنه وجد ما يقوله بعد الاضطرابات السياسية في بلاده، إثر سقوط الديكتاتور أنتونيو سالازار، الذي حكم البلاد أربعين عاما، بانتفاضة عسكرية في 1974. دخل ساراماغو للمشهد الروائي العالمي بقوة عام 1982 بعد نشر روايته التاريخية، التي ترجمت إلى الإنجليزية بعنوان «بالتازار وبليموندا». والمحور الرئيسي في الرواية هو المحور نفسه، الذي ستدور عليه رواياته اللاحقة: محنة الفرد في مواجهة السلطة، سواء أكانت هذا السلطة مادية أو روحية، وكشف تأثيرات الاضطهاد الاجتماعي والسياسي على الكائن الإنساني الذي يسعى للحفاظ على هويته في مواجهة مجتمع يحرمه من حريته وحقوقه الأساسية، وهويته، وحتى وجوده كإنسان. وعلى الرغم من استناده إلى التاريخ «الجاف» في معظم رواياته، واعتماده على تفاصيل واقعية مختلطة مع الأسطورة والخيال السريالي على طريقة ماركيز، لم يفقد ساراماغو تلك الشحنة شبه الشعرية في سرده، بل يشعر القارئ لأفضل أعماله أن هناك إيقاعا مخفيا خلف الجملة الطويلة المتشابكة، التي تحتمها الرواية «التاريخية»، لو سمينا روايات ساراماغو تاريخية تجوزا، كما في «حصار لشبونة»، التي نشرها عام 1989، والتي ربما تكون أفضل أعماله في رأينا. لقد استمد ساراماغو مادته الأساسية من حصار حقيقي تعرضت إليه لشبونة 1147. لكن ساراماغو ينقلنا إلى مستوى آخر من الحقيقة التي يعرضها التاريخ المسجل كالعادة. إنه يعيد خلط الوقائع ليتوصل إلى الحقيقة، حقيقة التاريخ، والبشر، والمصائر الإنسانية، غير المسجلة في الوثائق الرسمية. لم تنته معارك ساراماغو مع التاريخ الذي كتبته السلطة المادية أو الروحية، وآخرها المعركة، التي قادته إلى منفاه الاختياري بعد نشر روايته «الإنجيل بحسب يسوع المسيح»، التي تصور المسيح على أنه ابن النبي يوسف، والتي انتقدها الفاتيكان بقوة، وساندته الحكومة البرتغالية في ذلك، من خلال منع الرواية. واختار ساراماغو منفاه في جزيرة صغيرة من جزر الكناري، وهي الجزيرة نفسها التي مات فيها، ابن الفلاح هذا، الذي لم يتخيل أحد حتى حين بلغ الستين من عمره، أنه سيصبح علامة كبرى في الأدب الإنساني. يقول عن طفولته المعذبة في كتابه «ذكريات صغيرة»، الذي ترجمه إلى العربية عباس المفرجي: «لا أصدق أن القديس أنتونيوس تحمل مثل هذا الرعب الذي تحملته، خلال هذه الكوابيس التي كانت تعاودني مرارا، حيث أجد نفسي فيها حبيسا، جالسا في حجرة مثلثة بلا أثاث، ولا نوافذ ولا أبواب، وفي زاوية منها هناك (شيء)، (أدعوه بالشيء لأني أعجز عن اكتشاف ماهيته)، لا يفتأ ينمو ببطء ويغدو أكبر حجما، وثمة موسيقى تدوي وبالنغم نفسه دائما، وهذا الشيء يتضخم ويتضخم، وأنا أتراجع إلى الزاوية الأبعد، حيث أستفيق في النهاية يملؤني الرعب، وأنا ألهث غارقا في عرقي في ظلمة وصمت الليل». * سيرة ذاتية * ولد عام يوم 16 نوفمبر/ تشرين الأول/ 1922 في أزينهاغا (وسط البرتغال) لعائلة فلاحية * بدأ حياته صانعا للأقفال ثم صحافيا ومترجما. * أصبح عضواً في الحزب الشيوعي البرتغالي عام 1959. * حصل على جائزة نادي القلم الدولي عام 1982، وعلى جائزة « كامويس: البرتغالية عام 1995. * عاش في منفاه الاختياري في في جزيرة لانزارت مذ 1992 حتى رحيله. * حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1998. * رحل في 18/ 6/ 2010 * من رواياته * «بلاد الخطيئة» عام 1947. * « وجيز الرسم والخط «، 1976 * « ليفنتادو دوتشار» 1980، * الاله الاكتع 1982 *« سنة موت ريكاردوس» 1984 * « الطوف الحجري» 1986 * « حصار لشبونة» 1989 * « العمى» 1995 . * « كل الأسماء» 2002. * « الانجيل بحسب يسوع المسيح» 1992. * « سنة موت ريكاردو ريس» 1999.
|