المقاله تحت باب منتخبات في
22/06/2010 06:00 AM GMT
لم تبرأ الثقافة الغربية، حتى اليوم، من الضربات الموجعة التي وجهها نيتشه إليها أثناء سنواته الهادئة والعنيفة التي استهلكها بالكامل في التفكير والكتابة. والأرجح أن في هذا النزاع المرير بين الطرفين، ما يتجاوز محاولاته اللاهثة لإلحاق الأذى الموقت في بنيتها الفلسفية والدينية. بدا مصراً منذ بداياته المبكرة، بدءاً من مطلع العقد الثامن من القرن التاسع عشر، على بذل جهود مكثفة واستثنائية، لخلخلة مرتكزاتها الرئيسية على نحو تصبح فيه عرضة للتآكل من داخلها. مردّ ذلك الى اعتقاده أن الأنماط الفكرية والفلسفية التي كانت تلقي بأعبائها الثقيلة على أوروبا، وتحديداً ألمانيا المفككة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد أوصلت الفرد والكيانات الاجتماعية المتعددة الى الطريق المسدود. بدا، في تلك الأثناء، وحتى اللحظة الأخيرة من حياته القصيرة، متشائماً سوداوي النظرة الى مصير الحضارة الغربية. فقد شكّلت هذه الأخيرة بالنسبة إليه، باعثاً على الامتعاض الشديد من حالة الخواء والدوران السريع حول نفسها في حلقة مفرغة من الإفلاس الفكري والديني الشامل. وقد بلغ به الضيق مما كان يعتبره تفاقماً خطيراً في مسيرة هذه الحضارة نحو الانهيار الكبير، أنه راح يصنّفها في موقع العداء المستشرس للقيم الإنسانية كما ينبغي أن تكون. وقد تحوّل هذا النفور، شيئاً فشيئاً، استياء بالغاً، ثم كرهاً عميقاً، ثم هاجساً بات يتملكه بكل جوارحه وهو يستخدم أدواته الفكرية المتقدمة في هدم هذه الحضارة. بدا للوهلة الأولى، أن ثمة عداء شخصياً مستحكماً بين فريدريك نيتشه من جهة، والثقافة الغربية، من جهة أخرى، على الأقل في الشكل والمضمون والمفاهيم التي كانت استقرت عليها في القرن التاسع عشر. والأرجح أن ثمة شيئاً كثيراً من هذا القبيل. بدليل أن نيتشه لم يكن ليبدي ميلاً حقيقياً الى التفريق بين آرائه الفكرية والفلسفية وسلوكه الشخصي في حياته الواقعية. وقد يعزى الترهّل المروّع الذي دهم حالته الصحية في وقت مبكر، الى تعاظم إحساسه بالعجز حيال قدرته المتواضعة على وضع أفكاره الغامضة موضع التنفيذ. وقد دأب هذا الهاجس يقضّ عليه مضجعه وينخر نخراً في جسده الضعيف المتهاوي، وصولاً الى المرحلة التي بات فيها عقله على قاب قوسين أو أدنى من السقوط النهائي في متاهة الاستقالة المطلقة عن العمل. حدث ذلك فعلاً، في العام 1889 عندما تعثر نيتشه وهو يسير بمحاذاة الطريق فهوى على الأرض وهو يتلفظ بكلمات مبهمة كانت الأخيرة على الأرجح قبل أن يبدأ رحلة طويلة مع العلاج من مرض في قواه العقلية. لسوء حظ هذا المفكر العملاق، لم يجد الأطباء مفراً من الحكم عليه بالجنون الذي تعذّرت مداواته بمعايير ذلك الزمن. وكان هؤلاء قد استدلوا على ذلك، من بين أسباب طبية اخرى، بالعبارة التي أخذ يستعيدها من وقت الى آخر، في سنواته الأخيرة، وهي تنمّ عن إيمان عميق بقدرات خارقة تفوق إمكانات البشر العاديين. وكان تبارد الى ذهن الأطباء ممّن أحاطوه بعناية نادرة، إضافة الى عدد من أصدقائه وزملائه ومريديه، بأن ما أصاب نيتشه في دماغه لا يعدو كونه من تأثير إحساسه المفرط بالعظمة. والأغلب أن في هذه "التهمة" قدراً يسيراً من الرؤية المبسطة الى حالة الارتباك الفكري التي ألمّت به في السنوات القليلة التي سبقت استسلامه للمرض. بدا مهووساً متلبساً بمنظومة من الأفكار التي يصعب تحقيقها في الواقع. وكان خيّل إليه، على الأغلب، بأنه هو وحده القادر على صوغها في نسق فكري منظم تمهيداً لإطلاقها على أوسع نطاق في ألمانيا أولاً ومن ثم في الدائرة الأوروبية الأكبر. أظهر حماسة غير عادية، في كتاباته الأولى والتي أبصرت النور بعد ذلك، بوجوب التبشير بالإنسان القادر على الانقلاب على نفسه، على تقاليده وأعرافه ومعتقداته، على المؤسسات الفكرية والفلسفية والدينية التي تصادر بالكامل خياراتها لحرة وإبداعاته المكبوتة. كان يشعر، في قرارة نفسه، أن لحظة الانطلاق بهذا المشروع الإنساني الكبير قد دنت، خصوصاً وأن مشهد الثقافة الأوروبية، كما تصوّره هو، قد بلغ حد الإفلاس الكامل. نماذج باهتة ومستهلكة من الأفكار والمفاهيم والقيم التي يجترها أصحابها على هامش الطاقة الحية المتدفقة التي ينبغي أن يمتلئ بها الإنسان، غير أنه مستلب الإرادة، مهدد في شجاعته، يخضع قسراً لمؤسسات تخشى قيامة هذا المارد من تحت الأنقاض. والنتيجة الأقرب الى التداول أن الحداثة بمرتكزاتها القوية والهشة لا تزال تعيش في ظله. شاءت أم أبت. كان نيتشه يردد شيئاً من هذه الأفكار عندما تعثر ساقطاً على الأرض. واعتبرت من الأسباب الكافية لإدانته بمس خطير في العقل. والأرجح أن شيئاً من ذلك لم يكن ليشوّش عليه عقله لو قيّض له أن يعيش في عصر آخر. أو لو أبدت الأوساط الفكرية والاكاديمية والسياسية كذلك، استعداداً حقيقياً أو ملحوظاً في أقل تقدير، لاستقبال نظرياته في فلسفة الإنسان الجديد وضمها الى مثيلاتها التي كانت قيد التكون في زمن مضطرب للغاية. لم يحصل شيء من ذلك علماً أن ثمة شرارة بدت واضحة للعيان، ولكن خافتة، كانت تنتشر ببطء شديد من داخل شرائح اجتماعية وأكاديمية لم تكن على توافق مع المؤسسات الفكرية والسياسية السائدة. ومع ذلك لم يكن من شأن هذا الرجل التحلّي برباطة الجأش والشخصية البراغماتية الهادئة والقدرة على المناورة في الفكر والسياسة مع قدر من الانتهازية المطلوبة في وضع كهذا. كان أكثر ميلاً الى الإعلان عن غضبه ورفضه واستيائه الفاضح مما آلت إليه أوضاع الفكر والفلسفة في ألمانيا في تلك الأثناء. والأرجح أنه أحس بالقهر نتيجة لذلك. ولربما أيقن، في نهاية المطاف، أنه خاسر سباقه مع الزمن لا محالة. وكان يعوّل عليه من قبل ويستبشر به خيراً لنفسه ولأفكاره. فازداد انطواء على ذاته ومفاهيمه العنيفة، وتضخمت في الآن عينه هواجسه، فراح يرهق ذهنه المتعب، المشرّع على المرض، المعرّض للتلف في أي لحظة، بأن انكب على التأليف المكثف حتى في أكثر أيامه استنزافاً للبقية الباقية من صحته المعتلة. كان يستأنف الكتابة بنشاط قلّ نظيره بين نوبة مرعبة من الصداع النصفي وأخرى، يتخللها أسابيع قليلة من شح البصر أو فقدانه بشكل موقت. والأغلب أنه بات متيقناً قبل فترة قصيرة من جنوحه الى اضطراب خطير في العقل، من أقداره المتوحشة. لم يسفر هذا الترقب المسبق لاحتمالات التلاشي الذريع عن تفتّت مماثل في قوة الإرادة وصلابتها وتعزيزها بما تحتاج إليه من مقومات الصمود في وجه رياح المرض من جهة، والممانعة المنظمة التي كانت تترصد أفكاره الجارفة. والأغلب أنه، في هذه السنوات المرهقة بالتحديد ازدادت قناعاته رسوخاً حيال ما يسمّيه هو قوة الإرادة التي ينبغي أن يتزوّد بها الإنسان المتفوّق على ذاته الاجتماعية والفكرية والمريضة. سعى نيتشه بكل ما أوتي من موهبة فذة في الكتابة والتفكير والتشبث بمفاهيمه الفلسفية والدفاع المستميت عنها، الى استثمار هذه الميزات جميعاً من أجل أن يوظف هذه الإرادة همزة وصل حقيقية بين الفرد المنكفئ على ذاته المستضعفة والمقهورة وصورته المناقضة الكامنة في مكان ما لوجود انساني أرقى تتحوّل فيه الطاقات المحتملة قدرات فاعلة. وُلد نيتشه في إحدى البلدات الهادئة على مقربة من مدينة لايبزغ. كانت ألمانيا، وقتئذ، مفككة الى ولايات مبعثرة تفتقر الى هوية سياسية واقتصادية قادرة على جمع شمل هذه الفسيفسائية من الجغرافيا المشرذمة على أوسع نطاق. أبصر النور في العام 1844 لوالد كان يمتهن التعليم الى جانب كونه قساً بروتستانتياً. توفي شقيقه الأصغر مبكراً في العام 1850. وقبل ذلك بسنة واحدة فارق والده الحياة عن عمر لا يتجاوز السادسة والثلاثين. مرتين في عام واحد يخطف الموت اثنين من العائلة مخلّفاً وراءه قلقاً وتساؤلات صعبة وإحساساً بالهزيمة والمرارة. لم تفارق هذه المشاهدات الموجعة مخيّلة نيتشه حتى الرمق الأخير. والأغلب أنها جعلته عرضة، وهو لا يزال طفلاً، ليتفتح ذهنه على نضج مبكر حيال تجربة الزوال أو الحياة التي قد يطرق الموت بابها في لحظة مفاجئة.
سنواته الداخلية بدا نيتشه، في سنواته الأولى، تلميذاً مجتهداً للغاية. وفي الوقت عينه نموذجاً نادراً، إذا جاز التعبير، بين أقرانه في مواظبته على الإفادة القصوى من وقته القصير بين موعد انتهاء الدروس من بعد ظهر كل يوم والذهاب القسري الى الفراش بعد العشاء مباشرة. داوم على هذا التقليد اليومي، من دون أي انقطاع يذكر، سنوات قليلة في إحدى المدارس الداخلية التي لم يفصلها مسافة طويلة عن منزل والديه. لا شيء يشير في تلك المرحلة من احتكاكه المباشر بمن كان يفترض به أن يتعايش وإياهم بعيداً عن المنزل، الى أحداث أو مفارقات أو حتى حماقات أقدم على ارتكابها بسوء نية، أو حباً بالمشاغبة والسلوك الطائش، أو استخفافاً بالآخرين. بدا نيتشه في سنواته الداخلية تلك أقرب الى ذاته الصغيرة وهو يصبر على طفولته قبل أن يغادرها بعد ذلك من دون مرحلة انتقالية. كان يتطلع الى الجامعة وهو لا يزال طري العود. يتحرّق شوقاً ليختصر الزمن بأسرع مدة ممكنة. كان على يقين في أعوام التأسيس تلك أن التحصيل الأكاديمي هو أقصر الطرق لديه، على الإطلاق، ليدلي بدلوه بعد ذلك في ما لم يتجرأ غيره على الإفصاح به. إلتحق بجامعة بايزل في آخر سنوات المراهقة وهو يحمل في جعبته رصيداً ملحوظاً من التفوّق في المدرسة لم يكن يتحدث عنه علانية إنما يستخدمه ذخيرة احتياطية عند الحاجة. والأرجح أنه سرعان ما انتقل من موقع الى آخر على نحو لم يكن ينذر أبداً بأن هذا الطالب المقبل على التحصيل العلمي بصمت متحفّظ كان يخفي في داخله عاصفة من الفكر المتمرّد على مفاهيم الحداثة ورموزها ومفاعيلها في الأوساط الاجتماعية والسياسية والفلسفية بشكل خاص. لم تظهر عليه بوادر الارتباك في اختيار وجهته الأكاديمية. إلتحق من دون تردد بكلية الفلسفة في الجامعة المذكورة. وتلقى دروساً مكثفة في اللاهوت وفقه اللغة الكلاسيكي. وانكب على قراءة سيرة السيد المسيح في سنته الجامعية الأولى، وفي ذهنه على الأغلب محاولة حقيقية للتماثل مع والده الذي عُرف بالتزامه المتشدّد بالمذهب البروتستانتي. غير أنه سرعان ما انقلب عليه معتبراً أن هذا المعتقد المستحدث نسبياً في المسيحية هو من التقاليد التي تفرضها على الفرد مؤسسات الأمر الواقع التي راحت تفرغ الإنسان، بالتدريج من توقه الغريزي الي تحقيق تطلعاته السامية على الأرض وليس في أي مكان آخر.
الفلسفة الكلاسيكية ذهب نيتشه، في سنته الجامعية الأولى، في الطريق المناقضة للمسيحية. درس بشغف وصبر واستمتاع الفلسفة الكلاسيكية. وأبدى، في تلك الأثناء ميلاً جارفاً الى التعمّق في فلاسفة الإغريق الذين تحوّلوا بدءاً من عصر التنوير في القرن الخامس عشر منارة استضاء بها، الى جانب شروحات الفلاسفة المسلمين للفكر اليوناني القديم، الطليعة الأولى من المثقفين في أوروبا. انقطع نيتشه طيلة سنوات خمس في الجامعة الى نمط من المثابرة المذهلة على قراءة وهضم كل ما يقع بين يديه من مؤلفات فلسفية لا تتعلق فقط بالفكر الإغريقي بل بمثيله الأكثر حداثة في الدوائر الثقافية في أوروبا. بقي على هذه الحال من انصراف كلّي الى التحصيل حتى نال شهادة الدكتوراه وهو في الرابعة والعشرين من العمر. لم تكن هذه الدرجة العلمية التي استأثر عليها نيتشه وهو لا يزال شاباً في مقتبل العمر، نتيجة لانفتاحه الواسع على طلب المعرفة وتفانيه من أجل الارتقاء بثقافته الذاتية فقط. بدا أن ثمة سبباً أكثر شفافية وإلحاحاً وأبعد دلالة وراء هذا التفوق الاستثنائي. مرد ذلك على الأرجح الى إحساس عميق ومبكر بحالة من النضج الحقيقي ملأت عليه كيانه الروحي. صحيح أن هذا التصوّر قد لا ينسجم بالضرورة مع سنوات عمره القليلة في تلك الأثناء. ومع ذلك لم يكن في هذا الوارد من الحسابات المبسطة. بدا أكثر اهتماماً باستحواذه على البنية المعرفية والإلمام الشامل بثقافة العصر وجذورها في الحضارات القديمة قبل أن يطلق مشروعه الثقافي في ما ينبغي أن يكون عليه الفرد في مجتمع آيل الى الانهيار في هاوية من سقوط القيم وبلوغها حافة الموت المؤكد. قال عنه أستاذه، فريدريك ريتشل، وهو من أساطين الفلسفة الكلاسيكية، في منتصف القرن التاسع عشر، إنه لم يعرف طالباً جامعياً تمكن من تحقيق نضج فريد من نوعه بهذه السرعة القياسية، خلال تسعة وثلاثين عاماً أمضاها في التعليم الجامعي. بدا هذا الأستاذ محقاً في قراءة نيتشه من الداخل، إذ منح هذا الأخير بعد سنة واحدة فقط من تخرّجه مرتبة الأستاذية الكاملة في جامعة بايزل. قد لا تنطوي هذه الترقية غير المعهودة في التقاليد الجامعية، قديمة وحديثة، على إعجاب مفرط بشخصية هذا الشاب المتميز فحسب بقدر ما كانت تشير الى الاحتمالات الفذة الكامنة في قدرته على الإبداع والابتكار.
الاستقالة من الجامعة لم يقيض لينتشه ان يستمر في عمله الجامعي أكثر من سنوات عشر. في الرابعة والثلاثين اضطر بضغط من أوضاعه الصحية المتدهورة من سيء الى أسوأ الى تقديم استقالته بشكل قاطع. أوصته ادارة الجامعة بذلك حفاظاً على مكانته العلمية الكبيرة وشخصيته التي غدت عرضة للتأثر الدائم بمحيط قلما يقيم وزناً لأمثاله. استجاب نيتشه من دون ممانعة تذكر ليس لضعف في ارادته أو احساس خبيث باقترابه من النهاية. لم يعرف عنه شيء من هذا القبيل. اصبح التعليم عبئاً ثقيلاً عليه نتيجة لشح خطير في البصر واضطراب أخطر في الجهاز الهضمي ونوبات متواصلة من ألم حاد في الراس وظهور اعاقات جسدية أخرى، غير انه لم يستسلم لهذه العاهات التي راحت تنهش جسده الضعيف بعنف بالغ. قاومها نيتشه بأن قرر الذهاب في الاتجاه المعاكس. ابت عليه ارادته التي جعلها احد المرتكزات الحيوية لانسانه المتفوق بالرؤيا والشغف الى التغيير في كل شيء من دون استثناء، ان لا يوظفها في حدودها القصوى. أخذ ينتقل كالبدو الرحل بين سويسرا وجنوب فرنسا بحثاً عن مناخ افضل قليلاً او كثيراً لأمراضه المزمنة. كان يخوض تجربة الترحال وحيداً مغرقاً في صمته مستغرقاً في مشروعه الفلسفي وفي نفسه، على الأرجح، الم ينغص عليه حياته. ومع ذلك، لم يعرف اليأس طريقاً الى قلبه. كان ينكب على الكتابة في الأوقات القليلة التي تهدأ فيها أوجاعه، فينتعش ذهنه وتنهمر الأفكار في مخيلته ويعود اليه رشده وكأنه ولد من جديد. ولكن سرعان ما تنقضي هذه الساعات القليلة ليعاود الجسد ادمانه المروع على التعايش مع سطوة الألم. ثم تنقشع الغيوم السوداء من جديد فيهرع الى الكتابة قبل ان تكفهر السماء ثانية. بدت حالة النضج الفكري والفلسفي التي تلبست نيتشه في عمر مبكر جداً أشبه بكونها معادلة ذهنية لا تخلو من مخاطر جمة. فمن جهة، ألقت بأثقالها المزعجة على صحته المقبلة في الاساس فعجلت في استنفادها على نحو مذهل. والأغلب انه ورث عن والده جسداً مضعضعاً منذ نعومة أظفاره خصوصاً في ما يتعلق بأوجاع الرأس والعمى المؤقت. في المقابل، فإن الارهاق منقطع النظير الذي تكبده، اثناء دراسته الجامعية انسجاماً مع تكوين البنية الفكرية لمشروعه الفلسفي المرتقب، كان يفترض، على الأغلب جسداً متيناً من الطينة عينها لا يلين منذ السقطة الأولى. ومن جهة أخرى، لم يكن هذا الجسد الذي زرعت فيه بذرة الاضطراب العقلي بالوراثة ايضاً (اصيب والد نيتشه بالأعراض الذهنية عينها قبل وفاته) مهيأ لخوض معارك ضارية ضد الجميع من دون استثناء كتلك التي شنها نيتشه على رموز الحداثة قاطبة. والمفارقة التي تدعو الى الأسف والمرارة، انه كلما تقدم نيتشه خطوة الى الامام بمشروعه الفكري تراجعت صحته خطوة الى الوراء. ومع ذلك، كان نيتشه يستبق بقوة الارادة كل الآراء الصادرة من هنا وهناك متوقعة ان ينهار دفعة واحدة والى الأبد.
مشروع راديكالي خيب نيتشه آمال الجميع، وتحديداً الذين كانوا يتوجسون شراً من آرائه المتفردة حول الانسان المتفوق الذي ينبغي ان يتقدم سريعاً ليصبح فرداً آخر في مجتمع آخر في ثقافة أخرى مختلفة. توقف نيتشه عن القراءة والكتابة نتيجة لاختلال حاد في قدراته الذهنية في العام 1889. وكان لا يزال رجالاً في ريعان الشباب. أحلامه أكثر فتوة من جسده المريض. ورؤيته الى مستقبل الحضارة الانسانية كما يجدر بها ان تكون أكثر قوة وحماسة من أحلامه. ولحسن حظه انهار بعد ان استكمل الجزء الأهم من مشروعه الفكري الذي لم يقيض له الانتشار والتأثير في الثقافة الأوروبية الحديثة، والحضارة الغربية بشكل عام، الا في النصف الثاني من القرن العشرين، وبشكل خاص في أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما تغير وجه العالم رأساً على عقب نتيجة لإقدام البشرية على ان يأكل بعضها بعضها الآخر على وقع الفناء المحتوم. والأغلب انه لم يكن بمقدوره ان يحدث هذا الاختراق العميق في بيئة الحداثة الأوروبية اثناء حياته. كانت هذه الأخيرة تعيش اكثر لحظاتها انتصاراً ونشوة بتفوقها على سائر شعوب الكرة الارضية بما تمتلك من مناهج علمية متقدمة وترسانة دفاعية وعسكرية وقدرات تشبه الخرافة في احتمالات السيطرة على الجغرافيا العالمية. ومع ذلك، لم يقتنع نيتشه بما آلت اوضاع الحداثة. اذ كان يرى فيها هزيمة شنعاء تحققها المؤسسة على حساب الفرد الذي بات يخضع لأنماط من القيم والمبادئ تجعله غريباً عن نفسه يحيا بقوة الأمر الواقع. بدت الخشية من مشروع نيتشه الفكري الثقافي الاجتماعي منذ ان اطلقه اثناء حياته القصيرة، وبعد ذلك في القرن العشرين وصولاً الى الوقت الراهن، مستمدة من طبيعته الراديكالية واحجامه عن المساومة على موقع الفرد في مجتمع يعاني من الخواء الروحي. والأرجح ان الأمر كذلك بسبب توجهه مباشرة الى التشكيك في سائر القيم والمبادئ والمثل التي روجت لها الثقافة الأوروبية الحديثة. ولكنه قبل ذلك، راح يتعرض بنقد لاذع للفكر المسيحي باعتباره لا يرقى الى تطلعات وطموحات ورغبات الانسان المعاصر وهو يناضل بقوة الارادة من أجل ان يستعيد طاقاته الابداعية وروحه المتوثبة وغريزته الحية المتمثلة في ذلك التناغم الفريد بين الجسد والرؤيا. اعتبر نيتشه، في هذا السياق، ان ما يسمى عصر الحداثة في اوروبا هو التعبير السياسي الاجتماعي الواقعي للاهوت المسيحي. وجهان لعملة واحدة. والأغلب توأمان يديران لعبة جهنمية من تحالف الدين مع الفكر السياسي الفلسفي من أجل صوغ مستقبل الانسان ومصيره والتحكم بهواجسه ورغباته وصولاً الى اعادة تشكيله وفقا لأنظمة وقوانين مستهجنة لا تنسجم ابدا مع قواه الابداعية. اتهم نيتشه، على هذا الأساس، بدعوته الفجة والصريحة الى الانقلاب على كل المفاهيم الفكرية والفلسفية والدينية السائدة، بذريعة انها ضرب من الأوهام الخاوية التي تستهدف اشاعة الفوضى والعبث وانهيار المؤسسات القائمة والعودة بالانسان الى ماضيه البوهيمي والوثني. والأرجح ان في هذا التصور تبسيطاً سخيفاً لفلسفة نيتشه وخوفاً مسبقاً لا مبرر له من خوض مغامرة التغيير على غير صعيد. قد تبدو آراء نيتشه مثالية في الطريقة الطموحة التي عبر بها عنها بأسلوب يتدفق عاطفة في الكتابة. وكأن مشروعه للانسان المتفوق على وشك ان يتحقق رغم كل المعوقات. والأغلب ان الهجمات الأخطر والأكثر فتكاً التي تعرض لها نيتشه طوال القرن العشرين في الغرب، وتحديداً في النصف الثاني منه، كان مردها الى النخب السياسية والفكرية التي تشارك بفاعلية في صنع القرار السياسي. ففي الوقت الذي اتهمها نيتشه بأنها انحدرت بالفرد الى ضرب جديد ومتوحش من عبودية معاصرة. اتهمته هي باقدامه على وضع مخطط مشبوه لقيام تشكيلات اجتماعية يسود فيها الأقوى الأضعف على نحو من التفلت التام من القيم الدينية والاجتماعية التي تحفظ الانتظام العام في الدولة. وهذا تصور مستغرب، على الأرجح في حد ذاته. لم يكن مشروع نيتشه ينطوي على بعد سياسي مقنن ومحدد بشروط واضحة. بدا، في فلسفته حول الانسان الجديد اقرب الى التنكر الدائم لكل اشكال النظم السياسية والفلسفية والفكرية. والأغلب ان الانسان الآخر الذي يدعو اليه هو نقيض حقيقي لسائر مؤسسات الأمر الواقع التي باتت تستخدم الفرد وسيلة مجانية من أجل دوام بقائها واستمراريتها على حساب افراغ الفرد من مقوماته الذاتية. والأخطر من ذلك ان نيتشه كان يعول في مشروعه على ان يأتي ذلك اليوم الذي تتحول فيه فلسفته معول هدم لفلسفته ذاتها. نيتشه ضد نيتشه هي المعادلة التي كان يصبو اليها ويتطلع اليها ويدعو اليها في قرارة نفسه. الانسان الآخر الذي يقوم من تحت انقاض الانسان الذي سبقه. ثم يتحول بدوره انقاضاً ينهض من تحتها انسان جديد آخر. انسان لا يشبه نفسه ابداً.
مع النساء وضدهن
[ عرف عن نيتشه، منذ ان اخذ نجمه يلمع في الأوساط الاكاديمية والثقافية في المانيا، انه كان يستمتع بتلك الدائرة الواسعة من الفتيات والسيدات اللواتي كن يحطن به. ومن بينهن متفوقات وشخصيات ذات نفوذ اجتماعي وثقافي وسياسي. ومع ذلك، لم تكن الجامعات لتسمح لهؤلاء وسواهن بالانتساب الى برنامج الدكتوراه. كان هذا الامتياز حكراً على الرجال فقط. واجه نيتشه هذا الموقف المتحيز من النساء بضراوة واعتبره اهانة مشينة للقيم الانسانية قبل ان يكون اساءة لا مبرر لها لجنس على حساب جنس آخر. وقد نجح في نهاية المطاف بحمل الجامعة على تغيير أنظمتها الداخلية للافساح في المجال امام النساء لمتابعة دراستهن العليا. ولكنه لم يلبث، بعد سنوات قليلة، ان تراجع عن هذه المسألة نتيجة لتخلي صديقته، وتدعى لوسالومي، عنه التي شاءت ان تهب عاطفتها لأعز أصدقائه، بول رين، ولم يعد، في السنوات اللاحقة، مهتماً بالدفاع عن حقوق النساء اللواتي كن يتذمرن من أسبقية الرجال عليهن في كل مناحي الحياة. [ اندفع نيتشه في سنوات مبكرة، الى الالتحاق بالحلقة التي اسسها الموسيقي الالماني الكبير، ريتشارد فاغنر، وكانت تضم نخبة ضيقة من أبرز المثقفين والكتاب والطامحين الى المساهمة في تغيير النسيج الاجتماعي السياسي لالمانيا المفككة. بدا الرجلان متفقين على وجوب المساهمة في احلال نمط من التناغم الاجتماعي بديلاً من التنافر والتنافس اللذين كانت تعززهما الليبرالية الرأسمالية في تلك الأثناء. وسعى نيتشه وفاغنر الى محاولة اعادة تكوين الثقافة الالمانية على اساس تلقائي من مشاركة جماعية لاستخدام الفن، وتحديداً الموسيقى، لازالة الفوارق بين الناس اسوة بالمدنية الاغريقية القديمة. وساد اعتقاد وقتئذ، ان نيتشه انما يرغب، بهذا التصور، في ان يطبع المجتمع بدمغة موحدة لا مكان فيها للتنوع والاختلاف. وقد اعجب النازيون، بعد ذلك، بهذه النظرية، واتخذوها ذريعة للترويج بأن نيتشه يندرج فعلاً في خطهم السياسي لاعادة النقاء العرقي الى الشعب الألماني. اسقطت هذه التهمة افتراء وعدواناً على الفكر النيتشوي، وهو منها براء. والأغلب ان هذا المفكر الكبير كان يدعو الى نمط من التناغم الصوفي بين الناس، على وقع الاهتمام بالفن، بعيداً عن اي نظام سياسي محدد. ولم يلبث نيتشه بعد ذلك ان اعلن انفصاله عن ريتشارد فاغنر بشكل قاطع ونهائي. [ جذبت افكار نيتشه الراديكالية مفكرين كباراً بدءاً من منتصف القرن العشرين، من امثال: هايدغر، ليفي شتراوس، ميشال فوكو، جاك دريدا وسواهم. والأرجح ان هؤلاء وغيرهم اعادوا الحماوة الى الفكر النيتشوي على قاعدة ان التساؤلات التي طرحها حول مصير الحداثة وجدواها، لم تحسم بعد. شكل نيتشه بالنسبة الى هؤلاء مناخاً فكرياً واسعاً وخلافاً للتشكيك في مشروع الحداثة باعتباره استنفد أغراضه من دون ان يجد حلولاً فاعلة لمعضلات الانسان المعاصر. والأغلب انه لولا الخلفية الصلبة التي وفرها نيتشه لهؤلاء، لما كان بمقدورهم ان يصوغوا افكارهم ونظرياتهم بالطريقة التي باتت تعرف بمرحلة ما بعد الحداثة.
|