من العراق... ذبح حلال |
المقاله تحت باب منتخبات البرنامج اليومي
الصورة من بغداد لشارع حيفا المهجور، الذي كان يضج بالمتنزهين في بغداد قبل الدخول في زمن الرعب. تحت الصورة نقرأ: "تحوّل يوم الجمعة من يوم عطلة الى يوم حظر للتجوال". نعلم في سياق النص ان حظر التجوال للعراقيين يقابله دوام عمل الارهابيين الذين يفخخون السيارات ليطلقوها عندما ينطلق الناس الى اشغالهم. الصورة معلقة على حائط في "هنغار أمم للتوثيق والأبحاث" التي قدّمت "عدسات مفتوحة من العراق"، وأرفقتها بفيلم وثائقي، توقيع المخرجة ميسون باجه جي. العدسات المفتوحة تخص 12 امرأة من بغداد وكركوك والموصل والبصرة والفلوجة، حضرن الى دمشق بناء على رغبة المصورة الصحافية الانكليزية يوجيني دولبرغ، التي ارادت نقل مشهدية عراقية خارجة على طوع العسكريتاريا والسياسة. ارادت ان تمنح ضحايا العراق هوية وليس رقماً، فكان مشروع ورشة تصويرية لنساء عراقيات يحكين من خلالها بالصورة عن الناس العاديين. يمكن اختصار هذه الورشة بوصف بليغ لإحدى المشاركات في مقدمة الفيلم الوثائقي: "برنامجنا اليومي كالآتي: في الصباح عمل، وعند الظهر اشتباكات، وعصراً مفخخات". خرائط بيانية مؤسف ان مناسبة الكتابة مجموعة فظائع نخاف حتى من التفكير فيها كلما امعنت النسوة العراقيات في عملية سرد التجربة التي عرّفتنا الى سوداوية اصبحت هويتهن، نتيجة القمع الاجتماعي والسياسي والاحتلال والعنف. كل واحدة وقفت ثلاث ساعات لتجمع قطع حياتها بجدية وصراحة. وكل واحدة انتبهت الى تفاصيل لم تكن تظن انها تقبع في ذاكرتها عندما سمعت ما لدى الاخريات. تقول احدى المشاركات عن هذه التجربة: "للمرة الاولى فكرت في نفسي كإنسانة وبحثت عن احاسيسي وما يخيفني وما يسعدني. بعد 40 عاماً من الديكتاتورية ومن ثم احتلال العراق، اكتشفت ان لا وقت لديَّ للتفكير في حياتي الشخصية. كل جهدي كان منصباً على البقاء والاستمرارية". مشارِكة أخرى هي سلوى عبد الوهاب، كانت تعمل مذيعة في تلفزيون محلي، انجزت المشروع لكنها لن تشهد عروضه. فقد تلقت تهديدات بالقتل جراء عملها كمذيعة. وقُتلت بالفعل لدى مغادرتها منزلها الى عملها. سلوى، يمكن ذكر اسمها الحقيقي، لأنها قُتلت. اما النساء الباقيات ففضلن توقيع خرائطهن بأسماء مستعارة خوفاً على حيواتهن. أرملة... وما ادري امرأة الفلوجة التي استعارت اسم مريم، كتبت: "رجعنا الى الفلوجة. ليتنا ما رجعنا. القصف لم يكن يسمح لنا بالخروج الى المقابر. كنا ندفن موتانا في حدائق البيوت. رائحة الفلوجة تغيرت". رائحة الموت لم تفارق عباراتها القاسية، وهي تتحدث عن السجن والقتل والتعذيب والانتقام في عهد صدام حسين، ومن ثم عن مجازر الاحتلال، حيث الطلقات مثل المطر. المطر هنا يعيدنا نسبياً الى مطر بدر شاكر السياب وقصيدته التي تحت عبارتها هامش صورة، حين يقول: "ومنذ أن كنّا صغاراً، كانت السماء/ تغيمُ في الشتاء/ ويهطلُ المطر/ وكلّ عامٍ - حين يعشبُ الثرى- نجوع/ ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليسَ فيه جوع". امرأة الفلوجة تقول: "القصف احتجزنا ثلاثة ايام في المنزل من دون طعام. كنا نشرب فقط. صرنا جلداً وعظاماً". تروي ان شقيقها اختفى في عهد صدام. بقيت والدتها تنتظره، ومعها زوجته. لم يكن مضى على زواج المفقود الا شهر او شهران. عندما تم اكتشاف مذبحة الفلوجة، عثر على الشقيق وتم دفنه. لم تحتمل الام الصدمة فتوفيت في الذكرى الاولى للدفن. اما الزوجة فبدت مذهولة وقالت: "هسه انا ارملة كل هذي السنين وما ادري!!!". صوت فيروز لجين، احدى المشاركات من بغداد، كتبت: "توقفنا عن سماع صوت فيروز صباحاً واكتفينا بأصوات منبّهات السيارات"، لتضيف: "تكاد حكاية قناص شارع حيفا ان تصبح اسطورة في بغداد". اما ريا من بغداد فصوّرت شارع المتنبي، وكتبت: "بدأت انظر الى الاقدام وتذكرت كيف كبرت خطواتي في هذا الشارع. كم كنت حالمة عندما فكرت ان خطوات ابني ستكبر ايضا في هذا الشارع". ريا تقول: "بدأنا حدادا لا نعرف متى ينتهي". الطبيبة لؤلؤة لها حكاية اخرى عن موقف عائلتها من اختطافها. سؤال والدتها الاول لها كان: "هل اغتصبوك؟". تكتب ان زوجها لم ينظر اليها. تضيف: "قال لي اني حطمت حياته واخزيته. وكلما سمعنا ان امرأة اختطفت، يتوقف زوجي عن محادثتي لأيام". لؤلؤة كانت تريد ان يسألها زوجها عن الخوف الذي كان يتملكها عندما كان خاطفوها يضربونها. تقول: "من الخوف لم اعد اشعر بالضرب. اسمع هواء الآلة التي تهوي على جسدي وارتجف قبل وصولها اليه". بوش ولورا المصدومان ديما ابنة السبع سنوات كانت توجه الاسئلة ولا تنتظرها. تسأل امها عن سبب مغادرة بغداد التي تحبها... و"ليش ما يطردون الاميركان؟ الاميركان عندهم بلدهم. ليش جايين على بلدنا؟". كتبت بلهجة عراقية: "هسه بدأ العراق يفرغ. في صفي خمس تلميذات فقط. غابت ست معلمات واحدة بعد واحدة". ديما ترى بغداد جميلة. اما اولياء الشأن فعندما رغبوا بمحو آثار، اكتفوا بإزالة الاسلاك الشائكة من احد الشوارع واستبدالها بالعلم المرسوم وسط الحائط. صورة علم الحائط تحمل عنوان "تجميل بغداد". ربما حسبت لورا بوش، أنها وزوجها الرئيس السابق جورج بوش كانا بدورهما يسعيان الى تجميل بغداد. فقد كشفت العزيزة لورا انها وزوجها، شعرا بالصدمة من رد الفعل، حين تبيّن أن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل. واضافت ان حدة انتقاد الغزو بسبب أسلحة الدمار الشامل كانت مخيبة للآمال. لورا لا تجيد العربية. لكن اذا انتقل معرض "عدسات مفتوحة من العراق" الى واشنطن فقد تجد من يترجم لها التعليق المكتوب تحت صورة انفجار من شارع المعلمين في بعقوبة حيث نقرأ العبارة الآتية: "يُذبح الابرياء على الطريقة الاسلامية" (ذبح حلال). |