المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
15/05/2010 06:00 AM GMT
نصوص هي تآلف، على الأرجح، بين الرؤية واللغة والفكرة في مادتها الصلبة. قد يبدو هذا المنحى ضرباً مكوناً من أطراف ثلاثة، للوهلة الأولى، يسعى الشاعر من خلالها إلى اعادة تكوينها في مشهد شعري يقتبس منها جميعاً. ولعل الأمر كذلك بشكل أو بآخر، بحيث يتعذر على الشاعر أن يلملم معانيه من شتات الذاكرة المرئية أو المختبئة، إلا وفقاً لمعادلة تنصهر فيها هذه الأقانيم الثلاثة. أحياناً تطغى الفكرة فتلتبس اللغة على التعبير. واحياناً اخرى تنهمر الرؤية على النص، تلقائياً، فتنتعش اللغة وتشف وتتضاءل الفكرة فتنسحب من جلدها الوعر مخلفة وراءها ما لا يؤسف عليه. انطباعات افتراضية كهذه هي من نسيج نصوص جديدة للشاعر العراقي، شوقي عبد الأمير، بعنوان: "محاولة فاشلة للاعتداء على الموت" صدرت حديثاً عن "منشورات الجمل" في بيروت. ومع ذلك، قد لا تقتصر هذه التصورات على كونها انطباعات فقط، قد تبدو من الحقائق الملازمة لهذه الكثرة من النصول الطويلة والقصيرة. يصنع عبد الامير لغته الشعرية من أفكار يستدرجها الى النص من مستودع في الذاكرة. تقلقه، على الأغلب، انماط من المفاهيم الثابتة أو المطلقة. يأتي بها من مخزون لغوي كبير يبحث عن متنفس له في سياق التعبير الشعري. وبعد ذلك، يسلط عليه شحنة قوية أو ضعيفة ساطعة أو باهتة، مما قد يتدفق على النص من دهشة الحلم. وقد لا تثمر هذه المعادلة الصعبة، اذا جاز التعبير، النتيجة المنشودة. فتبقى الذاكرة حبيسة ردائها السميك. تظل تترقب اللحظة المناسبة التي من شأنها ان تحملها على خلع ثيابها الحجرية لتلتحف بأزياء المتاهة المتحولة. وفي هذا تعبير عن الممانعة والاستسلام اللذين تتذرع بهما اللغة للانصياع لوهم الرؤية او الابتعاد عنه. على هذا الاساس المفترض، يتنقل عبد الامير في ارجاء الكتاب بين فكرة وأخرى، بين رؤية وأخرى، وهو يحاول قدر المستطاع اغراء اللغة على الاستجابة للرؤية والفكرة معاً، تجربة لا تخلو من صعوبة الاحاطة بنصوص لا تستوفي شروطها الشعرية بسهولة. ومع ذلك، يمضي الشاعر، من دون تردد. في تكوين فضاء المعنى وهو يبحث عميقاً في الارض الوعرة للغة، مفردات وتعابير، عن الصورة التي تنسجم مع رؤيته في اعادة فهم العالم والواقع من حوله، والاحداث المتعاقبة، والاشياء وتفاصيلها على نحو يدخل في روعه شيئاً من السكينة حيال هذه الامور جميعاً. يجتهد في هذا السبيل من اجل ان ينجو بنفسه، من المتاهة التي اقدم الشعر على إلقائه فيها. يفعل ذلك على الأغلب، من خلال محاولته التوصل الى فكفكة رموز المتاهة ومن ثم اعادة تشكيلها صوراً لا تبطل مفعول هذا المأزق بقدر ما تعيد ترتيب اوراقه المبعثرة. والارجح ان عبد الامير لا يسعى الى الخروج من المتاهة المذكورة بأي ثمن. بل يرغب في ان يحيلها ذريعة من شأنها ان تتوسل باللغة اعادة تنظيم البعثرة التي تنطوي عليها هذه المتاهة. الافكار المجردة يكتنف فضاء هذه النصوص بشكل أو بآخر هذا الهاجس بالتحديد. ما إن يخيل للشاعر انه نحج في تدبر امر فكرة ما حتى تداهمه اخرى. ولعله كان بمقدوره ان يستبعد من نصوصه منظومته من الافكار ثقيلة الوزن والحجم والهيئة. لو اكتفى منها بدلالاتها، بأطيافها، بظلالها، بما تختزنه من مؤثرات بعيدة في الصورة. غير أنه لا يفعل ذلك. نراه يستجيب لهذا النمط المحدد من الرؤية الى الاشياء والمفاهيم الثابتة والمتحولة التي تتحرك في ظاهر العالم والكون وفي باطنهما أيضاً. مزاج يختار من المحيط القريب والأبعد والأكثر بعداً ما يشكل فعلاً، تحدياً عميقاً وخطيراً في البنية الشعرية. لا ينساق مع الحلم المنبعث من جوف الصورة وهي تلقي من على كاهلها ما لا ينبغي لها ان تحمله معها. بل يلجأ الى الطريق الوعرة الملأى بالمطبات. يقارب الحلم المتشكل في المتاهة بشروطه هو. لا يدعن له. لا يعترف بأرجحيته. ولا يقر بأسبقيته. يصر على ان يذعن الحلم لمشيئته الذاتية، لخارطة سيره في اعادة اكتشاف العالم. لذلك نراه يتحدى الحلم بهذه الفكرة أو تلك مما تحتاج الى مجهود نفسي مضاعف من أجل تدجينها، او ترويضها، او اعادة انتاجها في اقل تقدير. قد لا يبدو هذا المسلك، على أهميته، من نسيج الحلم الذي بمقدوره ان يتخطى هذه الأفكار الصلبة بسرعة البرق. هو خفيف الوزن يتوجه بتلقائية الى الظلال، الى معنى المعنى. الفكرة ثقيلة الوزن، بطيئة الحركة، تفضل، بحكم طبيعتها وأحمالها الزائدة ان تبقى مكانها. ان تراوح في الفراغ. ان تمتلئ في العدم. ومع ذلك، يرتضي عبد الأمير ان يواجه هذا التحدي في سائر نصوص الكتاب، على وجه التقريب. نراه لا يحفل، على الأرجح، بتبعات هذا المنحى، ولا يستكثر على نصوصه هذه التجربة المرهقة. على النقيض من ذلك، يتقبل هذه المهمة بصبر يدعو الى الاعجاب وهو يتكبد مشقة تلو الأخرى من دون ان يبدي استياء أو تذمراً او تبرماً يذكر. ولربما وجب الاعتقاد بأن هذا الفضاء الذي يبثه عبد الأمير في أفق الكتاب هو الحافز الأساسي على السير في طريق الشعر الملبد بغيوم القلق، المزروع بالألغام الموقتة والدائمة. حديقة متنوعة مختلفة من الأفكار يسترشد بها عبد الأمير طريقه الى تكوين الصورة الشعرية. لذلك يغلب الظن ان هذه الأخيرة، وهي في طور الانتقال من حالة مثقلة بما تفترضه لغة الفكرة من ترسبات منفرة هي من تراكمات الفكرة عينها، تبدي مقاومة عنيفة من أجل ان تحمل اللغة المكدسة بعضها فوق بعض على ان تتخلى عما لا لزوم له استجابة للمعنى المتحول. على هذا الأساس من فضاء منفتح على الأفكار ولغتها المجردة، اذا جاز التعبير، يخوض الشاعر تجربته الصعبة مع اللغة عينها حتى تهتز من مكانها المشدود بقوة الى جاذبية التعبير المنغلق على نفسه. الفكرة ولغتها العصية على اعادة التشكل والتحول من الداخل هي شيء كثير من هذا القبيل. الفكرة تحتاج، بطبيعة الحال، الى قدرة ذهنية مميزة على فكفكتها تمهيداً لازالة اللبس عنها وصولا الى شرحها على نحو لا يحتمل اللبس والغموض. والأمر عينه ينطبق بالكامل على اللغة التي تحمل هذه الفكرة على متن المفردات والألفاظ والتعابير. الصورة الشعرية المعنية بمعالجة الفكرة المجردة لا تحتمل، على الأرجح، هذا النمط من التعامل المرهق مع اللغة. اذ قد يختلط الأمر على الشاعر حتى ولو شاء غير ذلك. فبدلاً من ان ينصرف بكليته الى متابعة الصورة وهي تتجلى من معنى الى آخر، يصبح والحال هذه مشدوداً الى الاصطدام الفج بأسلاك اللغة الشائكة، بعثراتها المتعددة، بدهاليزها المخيفة، بمتاهاتها التي لا طائل منها، على الأغلب. تتحول اللغة في هذا السياق، الى عامل يأتي الى النص من خارجه ليعرقل الحلم، ليحد من قدرة الكلمات وحيويتها على ان تبحث لنفسها عن معان جديدة، عن نكهة اخرى لمذاق العالم غير مألوفة. ومع ذلك، قلما يقدم عبد الأمير على تجنب هذا المنحى الأصعب. غير انه يحذر من ان يسقط في منتصف الطريق، حتى لا تضلّ صوره وتتبعثر، ولا يبقى عندئذ في النص سوى اللغة المتدحرجة بعنف من أعلى الى أدنى. نفق اللغة الأغلب أن عبدالأمير يقود نصه بحذر بالغ في متاهة الحلم. والأغلب كذلك أنه يدرك مسبقاً التبعات الناتجة عن الاشتباك الدائم مع شياطين اللغة الخرساء. وهو يدرك أيضاً بغريزة الشاعر المحنك سطوة اللغة وجبروتها وهيمنتها على الشاعر الذي لا ينسحب من المعركة بسهولة. ومع ذلك، لم يكن من شأن هذه المعوقات، إذا صح التعبير، أن تثنيه عن اللعب المباشر مع اللغة في عقر دارها. ولعله لم يجد وسيلة أخرى ليطرق باب الصورة الشعرية غير هذا المسلك المليء بالحفر والرمال المتحركة. والأغلب أن لا جدال في ذلك. وأي مقاربة أخرى لنصوصه قد تبدو عبثاً في الوقت الضائع، أو مما لا يتآلف مع طبيعة هذه النصوص. يحسم عبد الأمير رغبته في أن يدخل نفق اللغة الطويل بملء إرادته حتى ولو اضطره الأمر أحياناً إلى أن يضحي بشيء قليل أو كثير من توهج الصورة الشعرية. ولربما اعتبر، في قرارة ذاته، أن هذه المواجهة الحامية مع اللغة هي الشعر في حد ذاته. والأرجح أن الأمر كذلك. يظهر أحياناً أنه قادر بسرعة على معالجة هذه الفكرة أو تلك، بسهولة، بسرعة، بجهد قليل. في حالات كهذه، تتراءى الصورة الشعرية من البعيد قبل أن تحط رحالها في النص. وفي أحيان أخرى، تبدو معالجته للفكرة واللغة التي تنطوي عليها أكثر صعوبة. لا يسفر النص، والحال هذه، عن تجلّ مماثل للصورة الشعرية. وفي الأغلب الأعم، يتمكن في نهاية المطاف من أن يستولدها. غير أنها لا تكون محررة من بعض أدران اللغة وأوزانها الثقيلة. ولكنه لا يتراجع. يظل يحاول، يناور، يداور من زوايا مختلفة وفي ظنه أن اللغة، الملعونة في الأساس بلوثة التضليل والالتباس، ستصاب بالتعب وقد تستسلم لا محالة في اللحظة المناسبة. تبدو هذه النصوص بفضاءاتها المكشوفة على حلم الفكرة وحلم اللغة والرؤية، نموذجاً حقيقياً لاحتدام الصراع المزمن بين الشاعر واللغة. وبالتالي بين الرؤية الشعرية ومعانيها البعيدة في الظلال القريبة أو البعيدة. الملاحظ في هذا الإطار، أنه كلما توترت الأجواء بين عبدالأمير واللغة بأشكالها الصعبة، كان الاقتراب من الظلال المترامية في المدى المنظور للمعنى أصعب منالاً. المهم في هذا السياق، أن يثبت عبدالأمير أنه نجح، بشكل أو بآخر، في اجتياز حواجز اللغة ولو بصعوبة وصولاً حذراً الى الظلال القريبة. ومن ناحية أخرى، كلما تضاءل هذا الاحتدام مع اللغة وأفكارها لسبب أو لآخر، كان الاقتراب من المعنى الآخر أكثر سهولة. ولربما كان بمقدور الشاعر أن يتمكن بيسر من تفكيك المعنى ليصل الى أكثر أجزائه شفافية. والأرجح أن هذين الأمرين يتوزعان فضاء النصوص على نحو يفوق أحدهما الآخر أو يتخلّف عنه. ليس مستغرباً أن تسود هذه الجدلية نصوص الكتاب. ولعل موضوع الغرابة أن تغيب هذه الجدلية عن فضاء الكتاب. ولو كان الأمر كذلك، لبلغ الشعر مأزقاً لا قيامة منه باعتبار أن عبدالأمير قلما ينساق الى فضاء الصورة الشعرية من خلف بوابات اللغة. نادراً ما نقع على معنى شعري في النصوص لا يكون مرده، في الأساس، الى فكرة محددة تدور دوراناً سريعاً في ذاكرة الشاعر. وكأنه، بهذا المنحى، يريد أن يتوجه لنفسه أولاً بهذه الصورة قبل أن يسعى من خلالها الى إعادة تكوين العالم من حوله. والأرجح أن هذا أمر مبرّر بالنسبة الى من يطلّ على العالم من حوله من نافذة الأفكار، لا من ثقوب الإيحاء. يضع الشاعر صوره، واحدة تلو الأخرى، بإزميل نحات يعمل ليل نهار من أجل أن يقتنع هو أولاً بأن الحجر يتنازل عن مادته الصلبة في الوقت المناسب. فعلاً تحتاج اللغة الى إزميل كهذا. ولعلها أكثر حاجة الى إزميل من نوع آخر يحيلها كتلة متحولة من إيحاء يتراقص في ذاكرتها. مختارات من نصوص الكتاب نقتبس الآتي: بسهولة يمكن أن تقطع مع الأشياء وكل المحسوسات، لكن هل جرّبت أن تفعل ذلك مع الذكرى؟ ألهذا كان الله الأقوى. في المضيّ الى الكليّ الطريق لا يدوسها السائرون بل تدوسهم، الجهات كلها عمودية والفصول تجاعيد فوق وجه الوقت أما النهار فإنه أضيق من حدقة عين ترى. بخطوط لامرئية أرسم وجوهاً، عرائش، أجنحة في هبوط مرصود لملاك. طائر نيزكي يحُطّ على ذراع شروق في يوم بارد طائر العودة. ألمس قعر الأغنية مثل كيس طحين أعُضّ على إسمي في لحاء رمّانة مفلوعة في غصنها، وألم في مسقط رأسي ثمرات مضرّسة على حواشي الأيام. إنتمائي فريسة مفجوعة بأبنائها. أن أعترف؛ أي أن أفتح شرياني. من قال أن التذكر ليس دورة دموية ثانية لدم مُتخثر.
|