المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
14/04/2010 06:00 AM GMT
الرواية الثانية للقاصة والمترجمة ميسلون هادي " حلم وردي فاتح اللون" المؤسسة العربية للدراسات والنشر،من بين الروايات العراقية الأكثر اقترابا من أحداث الحاضر، فهي تكاد توثق يوميات الصراع بين الأزمنة المتلاطمة على شواطئ هذا البلد المنكوب، زمن الاحتلال والأزمنة التي سبقته. واقعية الرواية تؤكد أهميتها التوثيقية، دون تخليها عن أهم فاعليات النص القصصي، حين يشتغل على مكونات الشخصية والحدث في تضافر الرمز ودلالته. الزمن في هذه الرواية يعني الكثير،فهو زمن ذاتي تدرك الساردة ـ البطلة من خلاله وجودها، بيد أنه يحمل تلك التعاقبية التي تمثلها حيوات النماذج وهي تتداخل مع حياتها، فهي تقف عند مفترق طرق الشخصيات التي تقول خطاباً يجمع الشظايا المبعثرة لعراق الحاضر. يبدأ القص من الخاتمة، حيث يتعالق مصير البطلة مع مصير جارتها في البيت المقابل. "ختام" التي تسكن وحيدة ومهجورة إلاّ من ذكريات خطيبها المهاجر بعد أن رفضت مصاحبته. هذه المرأة كما تؤرخ لها الساردة، ولدت سنة سقوط الملكية، وخطيبها سنة تتويج الملك، وعندما تحرق أوراقها وترمي أثاثها إلى الشارع، تكون قد وصلت إلى خاتمة تليق باسمها، فلم يعد للسبعينيات التي شبّت فيها وأحبت، من أثر يُذكر. لقد عاشت كل أهوال الحروب التي مر بها العراق، وهي تنتظر الغائب الذي لا تريد أن تصدق استحالة عودته، وبعد أن أصبح الجنود الأميركان قاب قوسين من بيتها،زهدت ببقايا ذكرياتها وذاكرتها الموشكة على العطب. البطلة التي ترقب جارتها الغريبة من شباك بيتها،تكتشف أن مصيرها وهي التي ولدت في السبعينيات، يكاد يتطابق مع مصير الجارة التي غدت شابة في هذا العقد، فهي ضمن السلالات العراقية التي كتب عليها استنساخ التواريخ. وعلى هذا الأساس تقيم الساردة حوارها مع الآخرين بمن فيهم صبّاغ البيوت وحدائقي الدار الذي ولد في التسعينيات، فتحاول تلّمس نوع الاختلاف بين جيلها وجيل هذا الفتى القادم من مدينة الثورة،ولكنه يختفي بعد حادث تفجير لتبقى في لبس من مصيره،هل مات أم هاجر إلى الخارج كما أخبرها الجيران؟ من تلك التعاقبية في الأزمنة،التي تمثلها الشخصيات، تنبثق فكرة الخارج والداخل: الوطن والمهجر. والهجرة التي تشكل بنية أساسية في ثيمة الرواية، تتصل أيضا بهجرة الداخل العراقي. البطلة التي عادت من ليبيا حيث كانت تعمل، هُجّر أهلها من الغزالية، وتفرّق شملهم، فتعرض عليها صديقة لها، بيتهم الذي هجره أهلها خلال الحرب الطائفية وذهبوا إلى الموصل، مدينتهم. ولكن سيدة البيت تعود متخفية مع ابنها المطارد من الأميركان،فتكتشف البطلة أن البيت نفسه ينوء بحمل الأزمنة التي مضت. فقد حوت غرفة النوم فتحة تشبه المخبأ، كان جدّ الفتى يختبئ بها بعد أن حكم البعثيون العراق، فهو ضابط قومي ناصري، سافر الى مصر وعاد بجواز سفر مزور. تحوّل هذا المخبأ إلى مكان يخفي ابنه فيه كتبه الشيوعية أيام مطاردة الشيوعيين، وها هو ابن الشيوعي الذي جاء إلى دار أهله مع أمه المسيحية،يعود إلى الإسلام هوية ترفض الاحتلال. بيد أن المفارقة تكمن في زمن دراسة هذا الشاب في أميركا وتشبعه فكرة الحرية حيث استطاع المجتمع الغربي مساعدته على التوفيق بين الجامع ومدرسة الموسيقى، في حين يجد نفسه غير قادر في مجتمعه على هكذا خيار، فأما ان يعشق الدنيا او يكون من أهل الآخرة. يدخل الشاب غرفته المهجورة، فيجد آلة البيانو التي تركها، فيستعيد عبرها تلك الألحان التي عبرت برأسه وهو يمسك العالم عبرها،مع أن أمه تقول انه يجنح إلى تكفير من يتعاطى الفن. تحاول الرواية أن تشتمل على طيف واسع من الأفكار المتشعبة التي تشغل العراقيين، وفكرة التسامح والتنوع في المجتمع العراقي، تسكن خطاب الرواية الأساسي وتحاذي الفكرة الأساسية التي تتعلق بمفهوم الوطن وحبه والثبات على المكوث به. فالاحتلال هو تهديد للوجود المتحقق للعراق، بل هو نفي وإمحاء للوطن، ولكن البطلة التي تجد نفسها في علاقة حب مع الفتى القادم من عالم آخر،والمعجب بالثقافة الأميركية والرافض للاحتلال في الوقت نفسه،تحمل اضطرابات وتناقضات الأزمنة العراقية،فهي بانطواء خطابها على نزعة محلية تضيق وتتسع حسب ما تستوعبه درجة العنف المتصاعدة، تبقى الشاهد الأخير في مرثية العراق الطويلة، حيث يتحول الوطن إلى " مكان جيد للموت لا للحياة.." فالموت يتجول في الطرقات ويحمل معه رائحة الجثث وصمت الحزن ودوي الانفجارات " بين خرائب العالم الخارجي الذي لم يعد له وجود، ربما أحتاج إلى تلسكوب فضائي جبار لاكتشاف ما تبقى من جمال خافت لا زال موجودا تحت غبار الحرب وكونكريت الحواجز ومخلّفات الأنقاض"هذا ما تقوله الساردة، فهي تبحث عن زمن العراق الجميل كي تسترجعه في أشكال البيوت العريقة والحدائق ونوع النباتات والزهور والمناحل. تنتقل البطلة بعد أن تترك البيت للشاب وأمّه إلى بيت الجارة الصابئية، ختام،المرأة المهجورة التي اكتشفت البطلة دينها بعد عشرة طويلة لم يكن يسأل الناس فيه عن هويات الطوائف والأديان. فتتحول من مراقبتها بيت ختام إلى مراقبة البيت الذي كانت تسكن فيه، وتبقى بعد اعتقال الفتى بانتظار عودته في حلم وردي متصل. يحاول السرد التعبير عما يكمن في الزمن من معان تتحقق في الصيغة التاريخية لتعالقاته،فالابطال هم شهود القول الروائي الذي يجتمعون عند مفترق حبكة تسير بهم ضمن مسار متصل، أي أن جدل الاختلاف بينهم يبقى خافتاً،حتى الشخصيات الهامشية تدمج في تلك التعاقبية التي ينتظمها المصير المتشابه او المتراسل في لا وعي النماذج المقدمة. لعل الحس الإنساني والجانب الأخلاقي الذي يطغى على العمل، أحد أسباب جماله. فالرواية مرثية للعراق الذاهب إلى المجهول، العراق الذي حرث العنف تربته، فتساوت، بل تشابهت حكايات الأبطال وأمزجتهم، فالفتى المعتقل يخاطب نفسه " ماذا يعني أن أرفض أو أن أعارض ؟ ماذا يعني أن أشتم صديقي المترجم او أخالفه الرأي؟ .. لم تعد تفرق معي، لأن المكان الفاشل هو الذي يخلق كل هذا الفشل" تعرض الساردة صورة الحنين إلى بغداد، مجسدة بأسماء الشوارع والطرقات وكل حياة مدينة السلام الضاجة بالحركة. ومع أن الرواية مشوقة تنساب بسلاسة ورقة، لغة وأفكاراً، غير أن المسافة بين الشخصيات والحوادث وإسقاطات الأفكار، تبدو جد قصيرة. وتأتي بعض المعلومات العلمية التي تتسرب في منلوجات البطلة، وكأنها واجب يضاف إلى واجبات الراوي العليم، في حين تقص أحداث العراق اليوم نفسها على نحو عفوي يحفل بالفانتازيا، وهذا ما حاولت الكاتبة استثماره، وإن حبسته في قفص المقولات.
|