المقاله تحت باب قصة قصيرة في
10/04/2010 06:00 AM GMT
منتصف الليل وأنا في مدينة الموتى، والرجال مخطوفون أو مقتولون أو قتلة، والنساء وحيدات، أحسستُ بخفة غريبة تجتاح جسدي وأنبأني فؤادي بأنني قد أستطيع التحليق والتنقل وسط ظلمات الليل، وكأني استعدت قوى بدائية فقدتها البشرية منذ دهور، على الضد مما كنت أكابده في نهارات بغداد وأنا أتعرض للتهديد، وربما للموت العشوائي بانفجار سيارة مفخخة، أو أن يطلق عليَّ أحد الرجال ذوي اللحى الشعثاء نار رشاشته أو يرمي على وجهي ماء النار لأنني أكشف عن وجهي وشعري، كما اعتدت طوال عمري في هذه المدينة المحتلة. أدركتُ أنني صرت قادرةً على الإفلات من الأرض والتحليق في الأعالي، وكأنني من صنف ملائكة خفاف، لكنني أرجأتُ الفكرة المجنونة وفتحتُ التلفزيون ورأيت عازفةً يابانيةً تعزف كونشرتو البيانو رقم 4 لبيتهوفن، سحرني عزفها وغمرني نوع من السلام النادر، وتناءيتُ عن الأرض وما فيها، وملأتني الموسيقى بفيوض من الغبطة، وأنا اشاهد العازفة تتجلى في أدائها، وتذوب على ملامس البيانو متلاشيةً في نشوة الموسيقى، وخُيّل إليَّ أن جسدها الأبيض يمتزج بأسود البيانو، وسواد ثوبها يتلاشى في الملامس البيضاء، حتى اختفى الجسد تماماً، وبقي البيانو يتحرك عازفاً نفسه دونما أصابع تطلق لحنه الصادح. من النافذة الشرقية انهمرت ريح ساخنة رطبة محملةً أشذاء شجرة الياسمين، وتندّى جسدي وقميص نومي برذاذ لم أدرك مصدره، وفكرتُ أن أكتب رسالةً الى الرجل البعيد، لكن انقطاع الكهرباء حال دون تشغيل الكومبيوتر، فوجهتُ اليه نداءً تخاطرياً، وتمنيتُ أن يبلغه ندائي وهو في البلاد القاصية، واستجابت حواسي للمسات يده على جسدي وأنا استحضرها تخيلاً وتذكراً، أصابعه تنبض فوق صدري وتحوّلني رحيقاً حلواً. استدعيتُ تلك اللذة الدافقة في عروقي وتحسستُ جسدي، لكن يدي، يا لله ما بها يدي؟ إنها تجوس في فراغ، إذ لم أحس بلمس يدي على جلدي، وخشيتُ أن تكون الأصابع قد فقدت حسها. تمنيتُ ساعتئذ أن يظهر لي مما وراء الغيب ويطفئ رعبي ليثبت لي أنني موجودة حقا بوجود جسدي، لكنه ما كان سيسمعني إذ ناديته من قلب الكارثة وأصوات الرصاص وحشرجات القتلى تتعالى في الشوارع، مختلطةً بزعيق سيارات الإطفاء وعويل سيارات المارينز المسرعة. بين آونة وأخرى كنت أسمع أصوات الانفجارات وصرخات النساء المروعات في شوارع بغداد، يبحثن عن رجالهن وأبنائهن بين الجثث الملقاة على الأرصفة. لا أبداً ما كان سيسمع ندائي ولن يجدني إمرأةً مجسدةً لها حضور مادي في المكان والزمان المتحولين جحيماً. عدت أبحث عن جسدي الذي تلاشى في كونشرتو البيانو ورياح الجنوب ورجفة رعبي من المسلحين الذين يحومون في الشارع. لم يكن الرجل ليسمعني، فاللغة تحوّلت همهمات خوف تشوّش على نبض القلب. اطلقتُ صرخةً تصادت بين جدران الغرفة، خشيتُ أن يمّحي صوتي بامّحاء جسدي، وعدت أبحث عن جسدي، تلمستُ ذراعي ووجهي وصدري وساقي، فما عثرتُ إلا على المزيد من الفراغ المروع وتحوّل جسدي عدماً، وقلت لو كان حضر فإنه سيضحك من هلوساتي، ولربما كان وجدني وعانقني وأنقذني من انخطافي في هذا الجنون. آه، لا، إنني لا أتوهم، ولست أعاني من هلوسات، ولست أحلم، فأنا متيقظة، وأنا الآن بلا جسد ولا حجم، وأكاد أطير شبه فقاعة أو ملاك باهت أو هباءة تائهة في هبوب الريح. فكيف يجدني عندما يأتي؟ عدت أبحث عن بقايا شيء من جسد المرأة الذي اختفى، وذهبتُ فزعةً إلى غرفة نومي: وقفتُ أمام المرآة الكبيرة في خزانة ثيابي فلم أشاهد شيئاً، ولم ينعكس فيها سوى الجدار ولوحة امرأة نصف عارية تمثل زليخا عاشقة يوسف، رسمها لي طالب فنون معدم بثمن قميص وسروال، حدّقتُ إلى الصورة، فلبثت زليخا في ذهول شهوتها ترمق باباً موارباً يوشك أن ينفتح ليبزغ منه الفتى يوسف، وجسدها يتألق في إشراقة الرغبة، وردياً وصافياً تنضح فتوته من أعطافها. رأيتها تنظر إليَّ حتى ظننتُ أنها تسخر مني وهي تراني بكل حواسها المتوفزة، بينما تحولتُ أنا عدماً وفراغاً، لقد انتهيتُ وبقيت زليخا تتراءى في المرايا، وتتكاثر في الهوى الصاخب، وتصرخ في الازمنة: "هيت لك...". تملّكني الرعب وبدأت أعي محنتي: إنني امرأة استحالت هواء، فماذا تفعل امرأة بلا جسد بحياتها؟ شئت أن أختبر حواسي وأنا في وحدتي، فتحتُ التلفزيون الصغير في غرفة نومي، فانهمرت صور القتلى وملأت الشاشة جثث رجال متيبسة، وأخرى مقطوعة الرؤوس والأطراف، وبعضها أُخصيت قبل قتلها، وجثث جرى تعذيب أصحابها حتى الموت، وانتشى العشب الطري الأخضر بالدماء بينما كانت الغربان والصقور تحوم على ارتفاعات منخفضة تحت شمس ذهبية تتخلل غيوماً لامعةً بحواف بنفسجية زرقاء، والكلاب الضالة تنهش الجثث المتروكة. أطفأتُ التلفزيون وهرعتُ الى حديقتي، وقصدتُ أن أمرّ بين شجيرات اللانتانا ذات الأغصان الخشنة الواخزة، فلم أشعر بوخز أو حكاك، وما رأيتُ في الشارع غير سيارات مسرعة، وسمعتُ انفجارات قذائف الهاون تتردد في الليل وأنا أنحني على زنابق الأماريليس واتنشق شذاها، وأتلمس طراوة البتلات الندية المخططة بالأبيض والأحمر في حوض الزنابق. عدت مسرعةً إلى داخل البيت، وأحكمتُ اغلاق الباب، وارتميتُ على سريري، فلم أشعر ببرودة المفارش ونعومتها، ووجدتُ الوسائد مثل رغوة حرير، ومررتُ بيدي على جسدي فلم أعثر على غير الفراغ، وانشغلتُ باختفاء جسدي عن الحلم بمتع قادمات عندما يعود الرجل الذي غادرني بعدما خيّره الخاطفون بين القتل أو دفع فدية ومغادرة البلاد، كان يزورني خلسةً قبيل رحيله الى الخارج، يأتيني في ليلة اكتمل ظلامها، ويغادرني قبيل الفجر تاركاً جسدي مستغرقاً في نعيم الحب المحرّم علينا، يعانقني لدى الباب ويتنفس عطري، ويرتشف دموعي ويمضي متنكراً في زي بائع، أو مرتدياً رداء برتقالياً كالذي يرتديه منظفو الشوارع. غلبني النوم ويبدو أنني نمت طويلاً، إذ وجدتني استيقظ عندما غمرني وهج شمس باهرة انعكس على زجاج النافذة من خلال أغصان شجرة الليمون وشجرة العنب المتعرشة عليها، ولبرهة نسيتُ ما حدث لي في الليل، لكنني فوجئتُ بغياب كياني المادي عندما وجدتُ الفراش مرتباً وبارداً، كأنه لم يُمس وما ترك فيه جسدي بعضاً من دفئه، فانفجرتُ بالبكاء وخيّل إليَّ أنني أذرف روحي لأنني لم أجد دموعاً ولا وجهاً، وهالني الأمر، وركضتُ في ممرات البيت، وهاتفتُ صديقةً لي وايقظتها من نومها وأنا اصرخ بها: سارة، اسمعيني، لقد اختفى جسدي وأنا غير موجودة، أنظري إلى نفسك هل تجدينها؟؟ سمعتُها تضحك مما حسبته دعابةً أو شطحةً من شطحاتي، فصرختُ بها: - أرجوك تلمّسي جسدك واخبريني ما تجدين، أرجوك أنا جادة في ما أقوله . - اواه من جنونك، دعيني أنم ساعةً أخرى. - أتوسل إليك لا تتركيني أواجه هذا الرعب وحدي، هيا أنظري إلى نفسك وتلمسي جسدك. سمعت صرخة الهلع التي أطلقتها سارة وهي تردد: - أنا غير موجودة، ولا أرى جسدي، لقد أصبحتُ غير مرئية، يا إلهي إنهم لن يروني. آه ، لقد نجونا، ما من أحد سيرانا بعد الآن، ولن نُرغم على شيء، أو نضطر إلى التخفي بعد اليوم. قلت لها: سوف استثمر اختفاء جسدي لأزاول كل الأشياء التي حرمت منها تحت طائلة القصاص، سأقوم بكل ما يخطر على بالي من أفعال ورغبات. قالت: ولن أفكر بعد الآن في الحمية وانقاص الوزن ليعجب مظهري الرجال. فكرتُ أن للحرية أثماناً باهظةً ندفعها من حياتنا، وبدأتُ أثرثر وأغنّي وأتفوّه بكلمات غريبة، واكتشفتُ أن للغة ملذات قد توازي ملذات الجسد، وأن للكلمات فعل السحر فينا. عندما رنّ هاتفي وأتاني صوته من الأقاصي، تحولتُ حقاً رحيقاً، وتمدد في أحاسيسي الغامضة خيط من اللذة العجيبة، سمعتُه يتمادى في مغازلاته غير آبهٍ بأجهزة التنصت على الهواتف، وعابراً حدود المألوف من حواراتنا وبوحنا برغباتنا وأشواقنا، واكتسى صوتانا بتلك الغصة التي تعقب تدفق الرغبات. أنهى مكالمته، فخرجتُ الى الشارع أختبر حريتي بعد امّحاء جسدي، ولم أبصر في الطرق غير الرجال المسلحين وجنود المارينز وبعض الشرطة، وسمعتُ دويّ الانفجارات يلفّ المدينة منذ الصباح، لم تكن ثمة امرأة في أي مكان، رجال ورجال ودبابات، والطرق تتراكض فيها ظلال غير منظورة، لكنني كنت أشعر بحفيفها وهي ترتطم بي، أو تتقاطع معي، أو أشمّ بعض العطر، أو روائح العرق من تلك الظلال التي كانت في ما مضى نساء ينبضن بالحياة، إنما يلاحقهن رعب الاغتصاب، أو القتل على الهوية عند مفارق الطرق. ثم أدركتُ أن حريتي المتحققة هي في الوقت ذاته حرية شبيهة بالموت، فخلاصي من الجوع ومشكلة الملابس، والقسر على ارتداء الحجاب، وسقوط التابوات، والنجاة من الأوبئة التي انتشرت بعد الحرب في المدينة، وعدم رؤية القناصين والقتلة لي، كل ذلك لا يخفف من وطأة عذابي بتحوّلي وهماً، أو ظلاًّ من الظلال الهائمة في مدينة لا يُرى فيها سوى الرجال والقتلة، ومع ذلك وجدتُني أركض، وأصطدم بالمسلحين وجنود المارينز، فلا يطلق احدهم الرصاص عليَّ، ولا يزجرني لأنني أسير بثياب نومي الشفافة القصيرة، لكن هل كنت أرتدي ثياباً حقاً؟ أم كنت أتمادى في التخيل، وأراني أبرهن على حريتي بالخروج على كل الممنوعات؟ كنت في امّحائي أفكر أن النساء حقّقن أقصى حضور لهن بهذا الاختفاء الشامل، على الرغم من أن الحياة غدت شبيهةً بمعسكرات الأسر الذكورية، وهذا ما لم يتوقعه أحد بعد هذه الحرب الطاحنة، وما سبق للبشرية أن مرّت بمثل هذه المحنة المروعة التي تنذر بفنائها الوشيك، فكيف سيتكاثر البشر بعد كل هذا؟ من أين يأتي الصغار وتدوم الحياة بعد اندثار جنسهن في العدم؟ أيقنتُ أن قدر الكائنات الأنثوية أن تحقق اختفاءها، وتتلاشى وتجتاز خرافة العيش وسط المجزرة، وتصدر حكمها الباتر على مصير الرجال الذين سيواصلون العيش كجنس وحيد موكل بالفتك وتدمير الحضارة. يا للخلاص المدمر، أن يبقى الذكور وحيدين في ساحة التقاتل محكومين بقدر العقم الى الأبد، أما نحن النساء فقد تحوّلنا شعباً من الملائكة الخفاف، على الرغم من أن الملائكة مخلوقات خنثوية لا جنس لها ولا رغبات، لكننا احتفظنا برغباتنا – فلا مخاوف ولا مصائر فانية، بل اندغام كامل في العدم الكوني، هتفت في اضطرابي: على الأرض الفناء وللنساء مسرات الغياب.
|