محمـد شـرارة بيـن متطلبـات الالتـزام وحريـة الضميـر

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
05/04/2010 06:00 AM
GMT



سافر محمد شرارة من لبنان إلى النجف، تلبية لرغبة والده دراسة المعرفة الدينية، بالتحديد الدين الإسلامي/ الإبراهيمي، وليحصل على شهادة الاجتهاد، فيتمكّن من أن يرتقي بمرور الزمن إلى مقام قاضٍ بين القضاة.
درس نصوص هذا الدين لمدة ستة عشر عاماً، أتقن خلالها المعرفة التي كانت معتمدة من قبل المؤسسة الدينية في النجف، حيث حصل على شهادة الاجتهاد.
غير أنه خلال مرحلة الدراسة أخذ يطلع على الأدب العربي بعامته بما في ذلك أدب الحركة المعرفية العلمانية، التي كانت تتأسس في مصر ولبنان، كما أخذ يطلع على العلوم الغربية. فعّلم نفسه اللغة الانكليزية، واخذ يطلع على مختلف مجالات المعرفة في التاريخ لمفهوم الإنسانية والتنوير والفلسفة بعامتها، إضافة إلى ما كان اطلع عليه وهو طالب من المنطق الأرسطي.
ساوره في هذه الفترة الشك، الذي كان لا بد أن يظهر لدى رجل بطبيعته السيكولوجية، ومزاجه الوجداني وتفكيره الحر، حيث وجد هناك تناقضاً متأصلاً بين النصوص الدينية وما تحمله من معرفة، ومفهوم العلم الذي أخذ يطلع عليه. ووجد أن المعرفة التي يحملها الدين، والتي يعتمدها، تفترض الالتزام برؤية كان فاتها الزمن بقرون عدة قبل أن تظهر. وذلك بسبب التطور المعرفي الذي حققته الحضارات الكبرى في العلوم والفلسفة، ومنها علوم وفلسفة الحضارة الإغريقية التي أخذ يطلع عليها.
فالدين الإسلامي، كغيره من الأديان الإبراهيمية، يفترض أن العقيدة منزّلة، ولذا يفترض مسبقاً الالتزام بنصوص العقيدة، وبما تتضمّن من معجزات، بقدر ما يفترض الالتزام بطقوس لا عقلانية كانت قد فرضت على المؤمن من قبل أربعة عشر قرناً. بينما العلم الذي أخذ يطلع عليه يفترض ان المعرفة هي من ابتكار فكر الإنسان، وهي في حالة تطور وإضافة وإلغاء ودحض وابتكار الجديد منها، في سيرورة لا تنتهي. فالمعرفة، لا تنبني إلا على الشك والمساءلة. وهذا ما يتعارض جوهرياً مع الالتزام والعقيدة، سواء منه الديني أم السياسي.
لقد ظهر الإنسان، والمصطلح عليه بالعاقل homo sapiens، قبل مئتي ألف عام، فتطور وظهر للوجود بفكر يتمتع بثلاث قدرات: المنطق، والأنلوغ analogue، والابتكار، مما جعله يختلف عن جميع الحيوانات الأخرى بامتلاكه لقدرات الابتكار. والابتكار لا يحصل إلا أن يُسبق بالمساءلة والشك، فيسخّر قدراته الأنلوغية والمنطقية ويبتكر رؤى جديدة في مختلف مجالات الوجود، حسب قدرات مراحل تطور الفكر والتراكم المعرفي التي يبتكرها من جيل لآخر، ومن حضارة لأخرى. مما يعني أن نكران الابتكار، والمساءلة والشك هو نكران إنسانية الإنسان.
ومع كل مرحلة جديدة، تظهر معرفة جديدة، تبتكرها قلة من بين أفراد الجماعة/ المجتمع، فيحصل تناقض بين الرؤية الجديدة وتلك القائمة التي يسخّرها المجتمع في تنظيم معيشه اليومي، مما يجعل الرؤية الجديدة تتناقض مع التنظيم القائم، سواء التنظيم الذي يقود تفعيل الدورة الإنتاجية أم تنظيمها، وإدارة العلاقات الاجتماعية الخاصة والعامة. لذا يظهر في المجتمع من يقاوم الرؤية الجديدة، وخاصة منهم الذين يكونون منتفعين من تلك العلاقات والمعرفة القائمة، أو من هؤلاء الذين يحملون فكراً كسولاً لا يرغب في استنفاد جهد وتقبل الجديد واستيعاب متطلباته. وهذا ما وجده محمد شرارة في المؤسسة الدينية بعد أن قضى ستة عشر عاماً.
وجد في الدراسات الجديدة التي أطلع عليها، أن المجتمع يتعرض إلى مخاض فكري واجتماعي، بسبب المستجدات، لحين تتمكن الأكثرية من استيعاب متطلبات التعامل مع الجديد، والعيش المريح معها، أو تقبلها بالقدر المناسب، ولحين تتعرض هذه الرؤية الجديدة إلى تعديلات مناسبة لكي تنضج. وما أن تنضج وتستقر يقدم فرد أو أقلية على مرحلة جديدة من الشك والمساءلة فيبتكرون رؤية جديدة أخرى. وهكذا فإن مجتمع الإنسان هو دائماً في مخاض التغيير من تقبل ورفض الدورات المتعاقبة. وما أن يستقر لحقبة ما، حتى يبتدئ في دورة جديدة من الشك والابتكار. ولقد اطلع محمد شرارة على هذه الرؤية في الأدب الماركسي. فأصبح بالنسبة له، الدين والعلم مقولتين متناقضتين جذرياً، غير قابلتين للتسوية. واعتبر أن ما حصل عليه من معرفة أثناء الدراسة، بقدر ما كانت معرفية يقينية، خدعة لا أكثر، لم يكتشفها بوضوح إلا بعد أن أكمل الدراسة وحصل على شهادة الاجتهاد ونضج فكره. فأقدم على خلع العمامة، وأصبح الشك والمساءلة بالنسبة إليه هما نهج التقدم المعرفي.
فرضيتان
لقد نزع العمامة، ليس لأنه انتقل إلى خانة المعرفة العلمية فحسب، بل لأنه كان مصمماً منذ البدء أن يسخّر المعرفة في خدمة المجتمع. لقد حمل هذه الرؤية الإنسانية منذ الطفولة، وقد توافق هذا المنحى الأول من صباه، مع الرؤية الدينية التي أخذ يدرسها في النجف. وحينما كان المفهوم العام لهذه الخدمة، هو قيادة المجتمع إلى الخلاص، كما في الرؤية الدينية بعموميتها والتي اطلع عليها في البيئة البيتية والتي تربى عليها منذ طفولته، أصبحت الآن بالنسبة إليه، خدمة المجتمع عن طريق المعرفة العلمية، بدلاً من خلاص الإنسان، المؤجل إلى يوم الحساب. فأخذ ينضج هذه المعرفة عن طريق المطالعة في الدراسات الفلسفية التي اخذ يبحث عنها سواء في اللغة العربية أم المترجم منها إلى العربية. إذن كانت النقلة بعد نزع العمامة تسعى إلى خلاص ضمن تقدم معرفي اجتماعي يبنى على مصداقية منطقية.
لم يكن مناخ جنوب لبنان خالياً من الهزات والعنف الذي تمثل في الاستعمار الفرنسي. لكن الناس رغم ذلك اتسمت طقوسهم بنوع من الفرح المتمثل في الزجل والشعر وطقوس الفرح الخاصة. مقابل ذلك، كان الجو في جنوب العراق المتمثل بالتقية وإظهار الظلم بالاحتفال بعزاء الحسين واللطم والاستمتاع بالبكاء والنحيب. فالمعيش الذي صادفه محمد شرارة في المجتمع العراقي يتألف من دورات من سكون رتيب، في مقابل بكاء وعزاء، لا يعرف طقوس الأفراح إلا قليلاً. لأنه مجتمع لا يتمتع باستقرار حضاري يدوم في الزمن، من غير غزو وهدم وعنف السلطة المستجدة.
إذن علينا أن نرجع إلى تاريخ العراق، بلاد الرافدين، وهي أرض تتمتع بوفرة المياه، وأرض زراعية خصبة نسبياً، غير أنها محاطة من الشرق والشمال بجبال تسكنها قبائل محاربة غازية، ومن الجنوب قبائل بدوية لا تمتهن حرفة سوى غزو الآخر. وربما كان المؤرخ هنري فرانكفورت أول من أشار إلى العلاقة الجغرافية التي تميز أو تفرد بها مجتمع وادي الرافدين. فمنذ أن ظهرت الحضارة هناك، والتي كان نشوؤها من بين أولى الحضارات الزراعية، حيث بنت مدنها وحضارتها. ولا تمرّ بضعة قرون، حتى تسترخي قوى قادتها، أي قوى قيادة المجتمع، فتتعرض إلى غزو من القبائل الجبلية، أو بحركة مشابهة مصدرها البدو الذي يهجم على جنوب العراق، فتقدم هذه الحشود، وتحطم الحضارة القائمة وتدك مدنها ومؤسساتها. لذا أصبح تاريخ العراق عبارة عن دورات متناوبة من تعمير وهدم خلال تاريخه الطويل.
ولم يحكم المجتمع العراقي نفسه بنفسه منذ أكثر من أربعة وعشرين قرناً، ولم يجد الفرصة الزمنية التي تدوم فتمكنه من تحقيق الاستقرار الكافي زمنياً ليتمكن من تنضيج صيغ الحكم والتوصل لتسويات فئوية مناسبة، وطقوس مسترخية. وحصل هذا بعد أن انهارت الإمبراطورية البابلية، وأصبح العراق تحت حكم الفرس، ثم عرب الجزيرة وبعدهم العثمانيون وأخيراً القوات العسكرية البريطانية في أوائل الحرب العالمية الأولى.
لقد دخلت الجيوش الإمبراطورية البريطانية العراق في بداية الحرب العالمية الأولى، فحررته من السلطة العثمانية، ووجدت مجتمعاً متخلفاً معرفياً، علمياً، صناعياً، زراعياً، فنياً وتعليمياً. ودار الجدل ضمن الإدارة البريطانية، فيما يتعين إلحاق العراق بإدارة الهند كجزء من الإمبراطورية البريطانية هناك، أم جعله مستعمرة مستقلة؟ وانتهى الأمر إلى دولة مستقلة، لها عضوية في عصبة الأمم. فأقدمت الإدارة البريطانية على تنظيم الدولة وتأسيس متطلبات المجتمع المدني، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية وتشجيع الزراعة والصناعة وتأسيس جهاز أمني، وتأسيس مجلس نيابي، فظهرت الصحافة وتشكلت الأحزاب، وبدأ يظهر في العراق كادر يؤلف دولة ناشئة حديثة.
غير انه إصلاح أنبنى أصلاً على تناقض تأصل في سياسة الإدارة البريطانية، يهدف إلى التعمير والاستغلال في آن واحد. فمن جهة سعت ونظمت الإدارة البريطانية بناء الدولة والمجتمع المدني، وغيرها من الإصلاحات، وبقدر ما سيصبح العراق متقدماً، هدفه أن يتوافق مع الاقتصاد البريطاني، ويتوافق في الوقت نفسه، مع مصلحة العراق. غير أن هذه الإدارة استقطبت أيضاً بعض العسكريين المخضرمين من الموالين لها في إدارة الدولة، لتتمكّن من تسخير إمكانيات قدرات المجتمع لتأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية المحلية والمحورية. لقد بني العراق الحديث منذ البداية على هذا التناقض في المصالح. فمن جهة تمّ اختيار السلطة من قبل الفئة الموالية للإدارة البريطانية التي استلمت قيادة المجتمع وكانت مدعمة وموالية لها، تلك الفئة التي كان غالبها العسكر العثماني ومن ضمن الطائفة السنية، فاعتبر هؤلاء موقعهم في السلطة الجديدة للدولة العراقية، كما لو كان حقاً مفترضاً ورثوه من تركيب الدولة العثمانية، ومن جهة أخرى، تمّ تأسيس البرلمان وظهور الصحافة والأحزاب. فأخذت هذه المؤسسات تنتقد احتكار السلطة، وعدم تداولها، وكبت حرية الصحافة، وإرهاب السياسيين المعارضين، ومنهم خاصة الليبراليين، الذين أخذوا يظهرون في الساحة السياسية وفي الصحافة. فاقتنعت هذه المعارضة، بمختلف صيغها، أن تأخر تطور العراق يرجع إلى سوء سياسة الإدارة البريطانية، وتدخلها في مختلف شؤون إدارة العراق. كما أدى وعي أفراد الفئة المتعلمة، وسعيها إلى المطالبة في الاستقلال الكلي. غير أن هذه الفئة أهملت إشكالية تخلف المجتمع العراقي، وهو العنصر الثاني في تركيب المجتمع، خاصة الريفي منه الذي يمثل غالب المجتمع العراقي، والذي يحمل ذاكرة العوز والاضطهاد لعشرات القرون. مما أدى منذ العشرينيات، الى ظهور حركات شعبية وقبلية مسلحة، ضد الدولة سواء في الجنوب أم الشمال، فأربكت إمكانية استقرار العراق. وجابهتها الدولة بقمع في مختلف أنحاء القطر.
وهكذا اعتبرت غالب الفئات المتعلمة والمعارضة مع شريحة واسعة من المجتمع، التي أخذت تقرأ نشراتها وصحفها في مقاهي المدن الكبيرة، أن مشكلة العراق تنحصر بنقطتين: أولاهما الاستعمار البريطاني، وثانيهما جهل الفئة الحاكمة، وإصرارها على احتكار السلطة، وكلتا الفرضيتين صحيحة، لكنها لا تؤلف كامل الحقيقة.
في هذا المخاض السياسي، ظهرت تنظيمات سياسية أخرى، منها ليبرالية، منعت من الممارسة العلنية، وتعرّضت إلى إرهاب السلطة. فتأسس الحزب الشيوعي العراقي في هذا الظرف السياسي، وجاء بقيادة متعلمة، من الطبقة المتوسطة في المجتمع، تمثلت بـ حسين الرحال وعاصم فليح وذي النون أيوب وغيرهم. تعرضت قيادة هذا الحزب منذ يومها الأول إلى إرهاب السلطة. ولم يمض وقت طويل على تأسيسه حتى وجد نفسه عاجزاً عن الاستمرار في العمل شبه السري. وأصبح متعذراً على المتعلم من الطبقة الوسطى الاستمرار في قيادة الحزب. فانتقل الحزب إلى الممارسة السرية التامة، مع قيادة جديدة تتحمل المعيش والممارسة السرية المضنية. في هذه الأجواء السياسية، جاءت هذه القيادة الجديدة، التي أصبحت تروّج العنف مقابل عنف الدولة، فتنكرت لدور الأحزاب الأخرى الوطنية، وأصبح كل من يعارضها أو ليس ضمن سيطرتها، هو عميل استعماري، أو برجوازي (بالمفهوم السوفياتي السلبي) خارج النضال الوطني. أدّت ممارسة إلغاء الآخر في كثير من الحالات إلى تشتت قوى المعارضة. ووجدت الشيوعية في نظام الاتحاد الحالة المثلى لخلاص البشر، ولذا انجذب إليها الكثير من قادة الفكر في العالم، ومن بينهم العراقيون المتعلّمون.
رؤى أخرى
في هذه الحقبة التي كان يدرّس فيها محمد شرارة في المدارس الثانوية في محافظات العراق، بدأ يفتش عن رؤى أخرى غير الدينية التي وجدها متخلفة وتتناقض مع التطور المعرفي، رؤى وفئة جديدة يشاركها في رؤى الوجود، حيث يتمكّن من تسخير قدراته الأدبية والمعرفية لتحقيق أمنيته في خدمة المفاهيم الإنسانية، ويسهم في تقدم المجتمع العراقي. أخذ يقرأ ما كان ينشر عن أعجوبة تكوين مجتمع الاتحاد السوفيتي، لا في نشرات الحزب الشيوعي العراقي فحسب، وإنما في الكثير من كتابات قادة الفكر التقدمي في العالم العربي والغربي الذين كتبوا، في الأدب والسياسية وعلم الاجتماع، المترجم من الأدب الغربي، وما كتب من قبل الفكر التقدمي في الأدب العربي الحديث، الذي كان يحرّره كتاب الحركة التقدمية الداعية للحداثة والتغيير في كل في مصر ولبنان وغيرها من البلدان العربية. فأخذ يطالع في الأدب الماركسي، خاصة أدب القرن التاسع عشر الذي كان رائجاًَ لدى الحركة التقدمية العالمية آنذاك، ووجد فيها رؤى الخلاص التي كان يحلم بها حينما قرر نزع العمامة.
كانت الرؤية العامة بين الشيوعيين والكثير من التقدميين، أن ما يحصل في الاتحاد السوفيتي، وما يؤسس هناك، يؤلف قاعدة لخلاص البشرية، ولذا انجذب إليها الكثير من قادة الفكر في العالم، ومن بينهم العراقيون المتعلمون. وكان عرض الرؤية الشيوعية في تلك الحقبة، غالبه يبنى على الرؤى الماركسية بصفتها وليدة حركة التنوير، التي تضمّنت مقومين أساسيين، برؤية واضحة:
1 ـ تحرير الإنسان من الفكر الغيبي وتأثيراته، وتحرر الشعوب من الاستعمار ومن العوز الاقتصادي، الذي عانت منه غالبية المجتمع العراقي وبخاصة مجتمع الريف، وكما كان في العالم عامة.
وبذلك يتحقق تساوي جميع أفراد البشر في الحقوق، لا في الأحوال الشخصية فحسب، بل في الحرية وحق العمل.
2 - تحقيق نظام جديد اقتصادي سياسي بحيث يكون هدف عمل الفرد الاستمتاع، بدلاً من العمل المضني، وينتقل الفرد من نوع عمل لآخر حسب مزاجه، كما أن هذه الرؤية، وهذا العالم المثالي سيتحققان على واقع الكرة الأرضية، بدلاً من الانتظار الى ما بعد الموت بخلاص موعود.
غير أن الأحزاب الشيوعية تبنت قاعدة ثالثة نادراً ما أشار إليها كارل ماركس، وهي مسألة الانتقال من الرأسمالية إلى المجتمع الشيوعي، حيث يتطلب نوعاً من الدكتاتورية، أشبه بتلك الرومانية، بناء على تجربة كميونة commune باريس 1871. غير أن لينين جعل منها دكتاتورية البروليتاريا. وعن طريق هذه الدكتاتورية يصبح الحزب الشيوعي الحركة السياسية الوحيدة التي ستحرر العالم من العوز والاستعمار. مما يجعله التنظيم السياسي الذي سيتمكن من إزالة الفئات الحاكمة الفاسدة في العراق والعالم العربي، لأنه الحزب الذي يحمل رؤية الخلاص السريع من غير مساومة.
انجذب الكثير من المتعلمين والأحرار من قادة الفكر في العالم العربي إليه. وقرر محمد شرارة أن ينضم إلى الحزب الشيوعي، كما انضم من قبله الكثير من زملائه العراقيين المتحررين، والذين كانوا ينشدون التغيير إلى عالم أفضل.
وهكذا تأسس اصلاً النظام الشيوعي بصيغته السوفياتية، على دكتاتورية البروليتاريا، التي تتضمن تناقضاً تأصل فيها، التناقض بين مبدأ حرية إرادة الفرد الذي انبنت عليه ليبرالية التنوير، ومن ثم الماركسية، في مقابل دكتاتورية الحزب.
لم يقلقه آنذاك هذا التناقض، باعتبار ان الاتحاد السوفياتي كان في طور التأسيس، وكان محاصراً من جميع الأنظمة الرأسمالية، ولم يكن له سبيل إلا في اللجوء إلى مثل ذلك النظام، الذي أسهبت النشرات السوفياتية في إبراز إنجازاته، إضافة إلى تنظير فلسفي وسياسي جاء به قادة الحزب من أمثال لينين وغيرهم. واعتبرت الدكتاتورية مرحلة زمنية قصيرة، هدفها ووظيفتها تنحصر في تأسيس وتثبيت النظام الشيوعي، مقابل الأنظمة الرأسمالية. فلم تكن مسألة الدكتاتورية واضحة وما يترتب عليها واضحاً، لا بالنسبة إليه، ولا بالنسبة إلى غالب الذين انتموا إلى الحزب الشيوعي، كجزء من الحركة التقدمية بين قادة الفكر في الغرب أو البلدان العربية.
بينما ما كان يحصل حقيقة في الاتحاد السوفيتي هو خرق ابسط المبادئ الأساسية لحقوق الانسان، وطمس الفكر المتحرر الحقيقي، في استبدادية كانت تنافس الفاشية آنذاك. ولم يكن كل هذا غائباً عنه فحسب، بل كان غائباً عن الكثير من قادة الفكر المتحرر والتقدمي العالمي.
لذا لم ينخدع محمد شرارة بالرؤية الشيوعية بل اعتقد بها، كما اعتقد بها الكثير من قادة الفكر في أوروبا، من بينهم الشعراء كلوركا في اسبانيا، ونيرودا في شيلي وناظم حكمت في تركيا ومن قادة العلماء هولدين في انكلترا، وغيرهم.
أخذ يساهم في النشاط الحزبي، وانحصر دوره في الكتابة. ولكن هُمش موقعه في الحزب كما هُمش غيره كثيرون غيره من المتعلمين، واعُتبر ان كل من اختلف مع القادة في الرأي، يصبح مناضلاً مزيفاً. وكل من اعترض من بين زملائه على سياسة قادة الحزب، اتهم بالانتهازية والرجعية. فتملكته الحيرة، ووجد نفسه بين نَارين، فهل يسخّر حرية إرادته ويسائل ويعارض، ويتقبل تهمة الانتهازية ويتجاوزها، أم يبقى في هذه الحيرة السيكولوجية، التي يشاهد فيها التناقضات في سياسة الحزب، التي تصل أحياناً إلى أعمال صبيانية، تلغي حرية إرادة الذات، بما في ذلك حق الشك ومساءلة سياسة القادة؟ وهو في الوقت نفسه كان عرضة إلى إرهاب السلطة من خلال كتاباته المناوئة لها.
وجد محمد شرارة نفسه في مثل هذا الظرف، في حيرة من نوع جديد: الالتزام الشيوعي الذي لا يقلّ صرامة عن الالتزام الديني. فالاعتراض على المؤسسة الدينية، يعتبر نوعاً من الهرطقة، بينما الاعتراض على سياسة الحزب الشيوعي يؤدي إلى الاتهام بالانتهازية التي تصل أحياناً إلى درجة العمالة.
لقد عانى محمد شرارة كثيراً في حياته، وهو الإنسان الذي فصل من الوظيفة في العهد الملكي، وسجن في العهد القاسمي، وأسقطت عنه الجنسية في العهد البعثي، وعاش بعيداً عن عائلته لعقد ونصف.
عاد إلى بغداد بعد أن أعيدت له الجنسية العراقية، وفي يوم من أيام صيف بغداد عام 1979، قرر أن يزور سجن أبو غريب. وصل بوابة السجن في صباح ذلك اليوم، وقاده سجّان السجن، كان يقود الزوار الآخرين، إلى قاعة كبيرة، فشاهد رفعة زوج ابنته بلقيس في الملابس البنية المخصصة لنزلاء السجن، والتفت إلى ابنته بلقيس التي صاحبته إلى السجن، وقال لها: «أهذا المصير الذي كنا نناضل من أجله!».
عاد من سجن أبو غريب إلى دار ابنته حياة شرارة، حزيناً، كئيباً، يتأمل عبث الحياة وما أدت إليه. حياة مليئة بالتضحيات في سبيل المُثل التي وضعها نصب عينه منذ بداية تكوينه وتتبعه المعرفي، فتعثرت خطواته فسقط على الأرض، وأصيب بكسر، أدى بعد أيام قليلة إلى جلطة في الدماغ، فارق على أثرها الحياة.
تمثل سيرة محمد شرارة مرحلة في تاريخ العراق، من عشرينيات القرن الماضي لغاية السبعينيات. إنها مسيرة رجل مستقيم متعلم، حر يسعى لإصلاح معيش المجتمع. لم يمارس أي نوع من المساومة في حياته، فتعرض إلى إرهاب السلطة من جهة وإرهاب زملائه من قادة الحزب من جهة أخرى. ولكن رغم ما تعرض له من إرهاب وتهميش حزبي، لم يقدم على نقد الحزب، لا خوفاً، وإنما بدافع الحرص على مسيرة الحركة التقدمية، فالتزم بمبدأ الالتزام. وهنا مصدر الحيرة السيكولوجية والوجدانية، التي تعّرض لها ووجد نفسه في نفس الدّوامة التي وجد فيها غيره من المفكرين الليبراليين.
إنها حيرة رجل يحمل رؤية وجودية مستقيمة حرة، في مجابهة فوضى مجتمع غير مستقر. أبرزتها بلقيس في كتاب «محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر» وسعت أن تعرض هذا التناقض بين استقامة الذات وفوضى المجتمع.