حدائق الوجوه لمحمد خضير: ما يستعاد من الكلام تصطاده الكتابة

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
25/03/2010 06:00 AM
GMT



كل كاتب عربي تمنى أن يكون جاحظ زمانه،وبعد أن أصبحت الكتابة في الغرب فعل استطراد، أو غدت سردا حراً وإخباراً متقطعا وموضوعاً يطل على مواضيع لا حد لها، فقد ضعفت تلك الحجة التي تقول أن فوضى الكتابة تنسب إلى العرب وحدهم،والجاحظ خير مثال على افتقادهم المنطق والعقل المنظم.
خطر ببالي هذا الخاطر وأنا أقرأ مقابلة مع محمد خضير حول كتابه الجديد " حدائق الوجوه" الصادر عن دار المدى، فهو يرى ان كتابته هي إرث مكانه : بصرة الجاحظ والحريري وسواهما.
ولكن من يقرأ محمد خضير منذ بداياته، بمقدوره إكتشاف نازعين لديه : الدقة والتنظيم،والإختزال الشديد. ربما تؤرقه اليوم تلك المطالب التي تزحم سمعه،عن موعد كتابته الرواية المنتظرة،ولكنه يقول ان النصوص القصيرة المؤطرة في حكاية كبرى هي الأقرب اليه. وهذا ما فعله في عمله الأخيرة "حدائق الوجوه".
أول ما يطالع القارىء في "حدائق الوجوه" مكوث حركة النص في دائرة مغلقة، دائرة كلما حاول الكاتب كسر ثلمة فيها، وجدها تلتحم لتلتم على نفسها وتحصر الصوت في هدأتها، في سكونها،بل توجسها وخوفها.
هذا الكتاب محاولة تتحدد بجانب البحث عن الماضي، ماضي التلقي لدى محمد خضير، ماضي القراءات التي امتزجت بتجربته الشخصية. إضاءات لسيرة ناقصة، سيرة ثقافية وسيرة تدور في عالم متقشف وزاهد بالأقوال والأفعال معا، ولكنه ماضي المكوث بين المعري وطاغور وجبران خليل جبران وبورخيس، الكاتب الذي شلّ أعمال محمد خضير منذ أن قرأه.
حدائق السارد في هذا الكتاب، مسارح تتناوب عليها أقنعة الشخصيات، ولكن تلك الأقنعة في ثبات تواترها، تكاد تكون واحدة،بوسع الكائنات أن تتجاذب في مجرة واحدة، لأن أقنعتها تقتضي كتمان هويتها، فهي في تطوافها بين الزهور والرياحين، تؤلف مركّبا من المتشابهات،كل قناع يمضي في رحلة حياته الرمزية من الولادة حتى الممات.
علينا والحالة هذه أن نستل طاغور من تثائب النسيان، مثلما تقتضي منا القراءة أن نستدعي جبرانا من ذاكرة الرومانس الرخوة، كي نتمكن من العودة إلى البدايات الرائعة التي خط فيها محمد خضير سفر مجموعته الصغيرة الأولى، متجاوزا وليس محاذيا كل تلك القراءات. لا نحتاج إلى الكثير من الفطنة،كي نفهم سر تسمية هذه النصوص التي تنتظم في نص واحد "حدائق الوجوه" لا لأن كاتبه استعاره من بيت منسي للسياب كما قال في غير مكان، بل لأن حلم الأنا السارد، هو حلم دائرة المكان، البصرة التي تكاد أن تكون عقيدة السارد نفسه. يتحول المكان إلى عقيدة عندما نغفل عنه إلى ما يمثله من رموز. نوع من الهروب إلى نقطة ثابتة في أزمنة متغيرة. عندما يشعر الكاتب بثبات الرموز، يتوق إلى البحث عن لقى تشحذ إيمانه.
ثلاثة مراكز في دائرة النص، الأول مكنى في حديقة شرقية،حيث تمسك هندستها بناصية النص،ثم ظلال أشباح الماضي الشخصي، وهي تعبر الوثيقة إلى حياتها الداخلية،والمركز الثالث في الدائرة يتحدد في تصوير نصوص الآخرين على هيئة أفعال.
وفي الظن أن مسرح الأقنعة هذا، مسرح غزير وثر، لا لما جاء فيه من فنون لغة وبلاغة، وصور متخيلة أو مستنسخة أو متناصة، بل لأنه يمسك بالمرايا الشخصية للكاتب نفسه، وهي تلعب بعروض ألغازها أمام القارىء.
على قراء محمد خضير أن يقرأوا خلف المرايا وليس أمامها. لا يهم اكتشافهم إلى أي جيل ينتمي هو، في لحظة ولادته، ووالده الصياد وأمه الطفلة، ولا عشقه لجسد مومس موشوم، ولا حياة معلم عاشها في الأهوار، كل تلك الحكايات لا تجدي نفعا في فك الأقمطة عن شخصية كتومة مثل شخصيته. ولكن عليهم بادىء ذي بدء، ملاحظة الكيفية التي يخوض فها معترك الكتابة حين تستعصي عليه بتوتراتها، فهو مقبل ومدبر على أمر يراه عسيرا، ذاته المتعالية تمنعه من أن يقول أقل ما فيها،وهو المعّلم الذي دخل نظام الأزمنة المتبدلة في مكان ثابت. تمارس اللغة معه عنادها الأخرس، وتشاغله وتشغله الأشكال البيانية لولادة العوالم الجليلة، وتطوح به وظيفة الطلاسم التي اكتملت في نصوص الآخرين. لذا سيكون بمقدورهم، بمقدور من يقرأ نصه في المستقبل، تحديد نظام التفكير وهو يصنع نماذجه ويحولها إلى مثالات.
اللغة في "حدائق الوجوه" تقوم بدور جدير بالإنتباه، لا بالبعد اللساني الذي أفسد هواء غرف النقد وهو يدور مثل مروحة صدئة، بل لأنها تنبثق من الموضوع وتسايره، ليس المهم دلالاتها، وصورها المحالة على أفكار، بل فعلها حين يحاذي فعل اللغة عند الآخر. سنسمع مفتتحه في الكلام :" لايعلم عليم من البشر أيّ الإستعارات أقدم في تشبيهات هذا العالم، فتأليف كتاب يحوي هذه الاستعارات ـ منذ اختلاقها حتى اليوم ـ سينتج سفراً بحجم (مكتبة العالم).
لكن الذي يتدبر المعنى في تشبيه الشاعر رودكي للبشر (بالضيوف في خان العالم) تتداعى أمام ذهنه استعارات متشابهة عن أدوارنا في لعبة لاتتوقف على (رقعة شطرنج الحياة) كما يقول شاعر آخر، أو اجتماعنا في (حديقة العالم) حيث صنّف بستانيّ طاعن في السن وجوه البشر في خمائل بديعة التنسيق، وحيث نحن كما يقول جلال الدين الرومي (ثمرات نصف ناضجة في شجرة العالم) ، بانتظار النضج والقطف. في هذه الحديقة، المدغلة المماشي، المستديمة الأثمار، يهيم بستانيو العالم ـ وما أكثرهم ـ بين الوجوه المتدلية، وهم يستمعون إلى تسبيحها المتردد ليل نهار بشعر السياب :
" اليك يا مفجّر الجمال، تائهون / نحن، نهيم في حدائق الوجوه"
والأرجح إن تلك الاستعارات التي تبرق في نسيج النص، وترن داخله، تبدو وكأنها تختبر حضورها في غياب المكان والزمان، بين أن تتنحى بعيداً لتحفظ بكارة النص ومرونة وجوده المستقل عنها، أو تكون ضيفا مبجلأ يرفع القول إلى مصاف الشارة.
حركة الكتابة تمضي في جمع حصادها من حكايات مبعثرة، بين حلولية وتقمص وتصوف. تُستحضَر الشخصيات وتُمسرح أقوالها،او تُحول الذكريات البسيطة والمرويات اليومية إلى حكمة تتصل بالموت والحياة، فما يبحث عنه الكاتب هو حُجُب الكتابة وألغازها،أو حكمتها الشرقية التي تستدرجها نحو فخاخ التسامي. فبورخيس يزوره في منامه، ليكتشف قوة التراسل بين أرواح الكتابة الكونية :" نحن مهيؤون للقاءات حقيقية على المجرات الهوائية، في أحلام الحدائق العالمية، حيث لا أسماء ولا صفات ولا وجه ، وانما موجات دقيقة (ميكروويفات ) من الأصوات والصور، أقنعة مزدوجة الذاكرة"
ويرى الكاتب انتسابا في نصه إلى مدرسة طاغور،حيث رياضة الصمت ويوغا التأمل،وواجب النظر إلى كلية الوجود في أصغر المخلوقات، حسبما يقول،" إذ يشتمل روح النص على روح العالم"
من هنا بمقدور قارئ محمد خضير أن يمسك محنة نصه، وهو منذور لما فوق الكتابة من مهمات.