المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
21/03/2010 06:00 AM GMT
مفتوناً بها، أتساءل: كيف يمكن أن تكون مدينة على هذه الدرجة من الأنوثة؟ ليس كمثلها شيء. لقد سلبني جنونها القدرة على المقارنة. الجميلة بين الجميلات هي ليست واحدة منهن. قبحها الراهن ليس منها. هي موجودة لذاتها. قبل أن يكون الجمال ومن بعده. ليست مكانا ليوصف بمعماره. هل عشت فيها يوم كانت مجرد قرية عثر عليها المنصور من طريق المصادفة، حالماً بعاصمة امبراطورية؟ هل كانت حكاية اللحم الذي لا يفسد حقيقية؟ أمضت بغداد حياتها وهي تقاسي لعنة كونها بغداد ليس إلا. وارثة بابل المطارَدة باللعنات. ذلك سبب مضاف. ارث عذاب يؤرق اليتامى. لن يكون هناك سوء فهم. كانت بغداد هي بوابة العصر الذهبي الوحيد في التاريخ. هذا يكفي لكي تكون مكروهة. غنجها يدعو الى العته. مرّ المغول بها. يكفي أن المغول مرّوا بها، سبباً لترملها. تهزّ ردفيها ذاهبةً الى بيت الجيران. قبل أكثر من نصف قرن، أعلن حسون الأميركي وهو ابن الاعظمية، عن رغبتها في عولمة مهذبة ومشفقة، سبقه في ذلك يوسف عمر حين غنّى "يا حلو يا بو سدارة". وكان فيصل، ملكها القادم من الحجاز عبر سوريا، هو اول من ارتدى السدارة. المغول لم يتعلموا العربية في بغداد. بسببهم، امتزجت مياه دجلة بالحبر فشرب العراقيون الحكمة. الله يعرف بالتأكيد ما لا يعرفه الجغرافيون. لم يكن المنصور معنياً بوسط العراق، بقدر اهتمامه بمركز الكون. كنتُ موجوداً هناك دائماً مثل شبح. كانت هي الأخرى موجودة هناك دائما مثل شبح. أشبه بغداد، هي تشبهني، لا فرق. هاربان مثل شبحين. كان نوري جعفر يمشي عشرة كيلومترات قبل أن يصل إليَّ. يمضي عالمُ المخّ ذاك، رحلته تلك في حفظ أبيات من المتنبي. كنت أفكر في آثار خطواته على الطريق. كم كلمة من المتنبي سقطت هنا أو هناك لتجعل الطريق أكثر رقةً؟! من المؤكد أن الطريق التي مرّ بها نوري جعفر لم تعد هي نفسها من بعد مروره. شيء ما تغيّر فيها. بغداد في عصرها الذهبي كانت تتغيّر كل لحظة. لنتخيّل الطرق المتشابكة التي اجتازها كلٌّ من بشار بن برد وأبي حنيفة وأبي نؤاس والحلاج والجنيد والتوحيدي والفارابي والمأمون والكندي وأبي العتاهية. هناك كلمات لا تزال حية في تلك الطرق. كلمات لم يلتقطها أحد. هي لقى تقيم تحت الحجارة. نظرة حب واحدة توقظها. نظرة ليست بغداد في حاجة إليها. فهي ليست أرملة. بغداد تعشق خطواتها التي لم تلقها بعد. الفاتنة تقيم في ما لا يُرى من جمالها. وهو الجمال التي تفصح عنه الكائنات اللامرئية الكامنة في الكلمات الملقاة على الطرق. ولأن لشارع الرشيد، وهو قلب بغداد، الحصة الكبرى من ذلك اللمعان الخفي فقد كان خرابه متوقعاً. قد قيل: من لم يزر شارع الرشيد فكأنه ما زار بغداد. بعدما نُهبت المتاحف وأُحرقت المكتبات وسُرقت المخطوطات والوثائق واللوحات، فإن عراقاً بلا ذاكرة تاريخية، يعني في الضرورة محو شارع الرشيد، أو على الأقل تحطيمه بصرياً. يقول الخبر المصوّر: "هدموا جزءاً من شارع الرشيد، خان الباشا أو خان النبكة". رأيتُ الحفرة واسعة فيما المكائن تلقي الاسمنت فيها، وما من معالم للشارع الذي أعرفه. إذاً، ها هم يحفرون الأرض بحثاً عن جذور الكلمات المخفية وهي رايات أرواحنا. كنا نحصي أعمدة ذلك الشارع ونفشل في العدّ بسبب جمال نسائه. كنا نقول مطمئنين: "الشارع موجود في خلوده أما تلك الفاتنة فإنها لن تكون موجودة إلا لمرة واحدة في العمر". تهلكنا تنورة قصيرة ويلذّ لنا أن نذوب في إيقاع حذاء ذي كعب عالٍ ونرتقي سلّم الغيب كلما ازاحت الريح شعراً عن رقبة. ما لم نكن نتوقعه أن نلتفت فلا نجد تلك الجدران التي تركنا عليها موسيقى أصابعنا. لقد تعرضت بغداد في العصر الحديث مرتين للدمار النووي بسبب القصف الأميركي عامي 1991 و2003، غير أنه ما كان في إمكاننا أن نتخيّل أن ذلك القصف في إمكانه أن يصيب شارع الرشيد بضرر. ما هذه البلاهة؟ ألأن شارع الرشيد بعيد عن كل منشأة عسكرية؟ وهل كانت القنابل النووية التي ضربت بغداد موجهة إلى أهداف عسكرية؟ نضحك على أنفسنا مثلما يريدون. كنا نظن أن خطواتنا ستبقى على أرصفة شارع الرشيد. على الأقل سنعثر يوماً على نغم تلك الخطوات. مثلما عثر الامبراطور الصيني الأخير على أثر من فراشته في جوف كرسيّه القديم. في الماضي، يوم كنا نخترق ذلك الشارع إيايا وذهابا، كنا نظن أن العولمة تبدأ من المتر المربّع الذي تبدأ به بوابة "أورزدي باك"، مخزن البضائع الذي ترتاده الطبقات الراقية. وكانت "عوينات آسيا" في "حافظ القاضي" تذكّرنا بأهمية النظر القوي، فيما كان المصوّر الأهلي يعرض علينا وقائع لم نعشها. كان الزهاوي نائماً على كرسي وسط صحراء مندلي في انتظار الشاعر الهندي طاغور القادم من ايران. رأيت محمد مهدي البصير وهو يلقي كلمة الثورة في "جامع الحيدرخانة". هل حلمتُ ذلك المشهد، حين صار من الصعب عليَّ أن أثق بحواسي؟ "صيادون في شارع ضيق"، بحسب جبرا ابرهيم جبرا، يراقبون ثرثراتهم وهي تصنع مزيج حضارة كان في طريقه إلى التصدير إلى كل مدن الشرق العربي. الحداثة بدأت هنا. "اسطوانات حوريش"، كان مخزناً للموسيقى في بداية الشارع من جهة "باب المعظم"، فيما كان هواة الموسيقى على موعد مع مخزن آخر للموسيقى يقع في بدايته من جهة "الباب الشرقي"، هو "جقمقجي". كانت الموسيقى وهي مثوى كل خلاف عقائدي، تحفّ به إذاً من شماله ومن جنوبه. عام 1977 تعرفتُ الى غالب هلسا في ذلك الشارع، وكان مطرودا من مصر. سيذكر في ما بعد أنه كان محظوظا إذ كان الجزء الأول الذي تنفس هواءه من مدينة منفاه، يقع في رئتيها. بغداد كلها كانت دائما هناك. المقاهي، البنوك، المتاجر، الاسواق، شركات النقل، مخازن الالبسة، المكتبات، وكالات السفر، المصورون، محال العدد والأدوات الاحتياطية، المطاعم، دور السينما، الملاهي، الحانات، المباغي، المساجد، والتكيات، قبل أن تقدم الحسينيات باعتبارها اختراعا ايرانيا، المخابز، حيث ما من خبز ضُربت به الامثال مثل خبز "باب الاغا". يقول المغني البغدادي: "سودنوني ها النصارى". وهو يقصد الفتيات المسيحيات الخارجات من عقد النصارى في طريقهن إلى الصدرية، حيث سوق الخضر. فاكهة إلهية طازجة تبعث على الالهام. من خلف زجاج "مقهى البرلمان" كنا نتأمل "جامع الحيدرخانة" الذي شيِّد عام 1819. لا نرى مرتاديه من المصلّين بل كانت زخارفه التي هي جزء من البناء تسحرنا. كان التاريخ الأدبي يصنع خرائطه في المدينة من خلال المقاهي التي يرتادها الأدباء. يوم ظهرنا منتصف الستينات، كان "مقهى البرلمان" هو البقعة التي يتوجه إليها الحداثيون بعدما أفل نجم "مقهى المعقدين" و"مقهى البلدية". في طريقنا إلى المقهى كنا ننظر بإشفاق هو نوع من السخرية إلى رواد "مقهى الزهاوي". كانوا عموديين مثل قصائدهم، اما "مقهى البرازيلية" فقد وصلنا إليه وقد صار متحفا. لم تكن أشباح الحداثويين الأوائل من أبطال الخمسينات تكفي لاستدراجنا. لا عبد الملك نوري ولا بلند الحيدري ولا جواد سليم ولا نهاد التكرلي ولا عبد الوهاب البياتي، في إمكانهم أن يُطعموا أفواهنا لغة تكون في حجم التمرد الذي كان يحلّق بأرواحنا في شقّ من الفضاء يقيم في المسافة بين محلة "رأس الكنيسة" و"جامع مرجان". كنا حواريي لغة لا كلمات فيها، حيث كان الأمل الذي اخترعته سبعينات القرن الماضي يعدنا ببانوراما لا تكفي حياة واحدة لقطف لذائذها البصرية والتسامي مع عطرها المبهم. كنت أرى عبد الأمير الحصيري وهو يكلم ملائكته عابراً "جسر الجمهورية" في اتجاه "حانة شريف وحداد". لا أدري لِمَ كان اسم تلك الحانة يوحي لي بالشيوعية. كان الحصيري يردد "انا الاله"، ولم يكن ليشعر بالخوف. كان ولي العهد، فيما الجواهري هو الخليفة. عبقرية متأخرة كانت مصدراً لشقاء لم نكن نفهمه. حين احترقت "سينما علاء الدين" شعرنا أن مبنى جديدا يقام بدلا من مبنى قديم لا يستحق الكثير من التفكير، أما حين احترق "شارع المتنبي" فقد هوى امامنا كون بأكمله. لم يكن ذلك الشارع إلا دربا متفرعا من ذلك الشارع العظيم، لكن ناره كانت تخيف. ذلك لأن الكتب كانت حطب تلك النار. لقد شعرت يومها بالشؤم. فبلاد منكوبة بالاحتلال وبخدمه، لا يمكنها أن تدافع بيسر عن حقيقتها، وفي الأخص ما يظهر من تلك الحقيقة: كانت الصور تُظهر شارع الرشيد فارغاً. وكان ذلك المشهد يؤلمني. الفؤاد الفارغ من الهواء. يومذاك استعاد ملايين العراقيين طفولاتهم وبكوا. ما من أحد. لو أن خليل باشا كان حياً لمحا اسمه من اللافتة التي وُضعت فوق باب "جامع سيد سلطان علي". لم يكن ذلك الشارع جادته التي افتتحها أحد مساعديه عام 1910. بدلا من فتيات بغداد النضرات، اللواتي كن ينغّمن الشارع بوقع "أحذية سعيد حراق" ويفاخرن بارتداء "عوينات آسيا" واقتناء ثيابهن من "اورزدي باك" ويؤثثن غرفهن من "حسو اخوان"، كان هناك قناصون، قتلة اخترعهم المحتل ليكونوا مترجمي لغته العفنة. الهواء الذي تنفسه غالب هلسا لم يعد ممكنا. ما الذي يبقى من بغداد إذا اختفى شارع الرشيد؟ لم يكن ذلك الشارع مجرد واجهة. كان رئتي مدينة صارت تمتد طولا وعرضا، غير أن جسد تلك المدينة لن يكون له معنى من غير ذلك الحبل السري الذي يمتد ما بين "باب المعظم" و"الباب الشرقي". ما من شيء يمكن استعادته. الماضي يشبه الحجر. لربما حلم شارع الرشيد بمستقبل اقل قسوة. كنا نحلم بحاضر أقل ألماً. أحلم في هذه اللحظة العصيبة أن ارى واجهة "فندق نجمة الصباح". لم تكن تلك الواجهة سوى باب يؤدي إلى سلّم وكنا نقف أمام ذلك السلّم المظلم ضاحكين. كان القاص كمال لطيف سالم يحدّثني عن عبقرية المقام العراقي ونحن نخترق شارع الرشيد منتصف الليل ليختم موعظته بإنشاد "منك يفوح العنبر/ واني على فراكك ما أكدر"، كما كان يغنيها رشيد القندرجي، الذي اكتشفتُ في ما بعد أنه كان والد زوجته. أعرف أنهم ينقّبون بحثا عن الكلمات التي نثرتها خطواتنا على الأرض ومضت إلى الأعماق. وأعرف أنهم يسعون إلى هدم الجدران التي تحمل آثار أيدينا، وإلى تلويث الهواء الذي يضمّ أصواتنا، وإلى تمزيق أشباحنا التي لا تزال تمر من تحت أروقة الشارع العظيم، غير أن معرفة الشقاء لا تمكّننا من تجنب المرور بتجربة الألم. إنهم يهدمون شارع الرشيد. جزء عزيز من الروح يغيب .
|