المقاله تحت باب في السياسة في
11/03/2010 06:00 AM GMT
هل يمكن أن يتصور المرء سياسيا يتبوأ مكانة النضج وهو لم يقرأ رواية أو لم يشاهد فيلما سينمائيا أو مسرحية أو باليها أو سيركا، أولم يستمع إلى سيمفونية موسيقية. كيف يمكن لهذا السياسي أن يرتقي في موقفه من الوطن والناس إلى مستوى القيمة الجمالية للحياة وعلى ضوئها يعرف معنى النعم ويعرف معنى القرار الذي يتخذه بشأن وطنه ويعرف كيف ينظر للحاضر بعين المستقبل وكيف ينظر للماضي بعين الحاضر والحاضر بعين الماضي؟! لقد جاء تدهور الوطن العراقي بسبب غياب الثقافة. وبدلا من أن يعرف ساسة العراق معنى الكتاب ومعنى الموسيقى ومعنى السينما والمسرح والبالية والأوبرا فإنهم عرفوا معنى التنكيل وشكل المشانق ومؤسسات السجون. بل وبسببهم هاجر المثقفون العراقيون وتناثروا في أنحاء المعمورة حتى توفي قبل شهور الشاعر أنور الغساني في كوستاريكا ولم يسمع به أحد! فكيف يمكن لسياسي عراقي أن يلتفت نحو مثقف مبدع يعيش في بلد ناء بعيد ربما ليس فيه سفارة لعدم حاجتنا إليها وعدم حاجتهم إلينا ليصل هذا المثقف العراقي إلى تلك البقعة من الأرض ويموت هناك ويدفن هناك في رحم الأرض الباردة بعيدا عن الوطن. هذا السياسي العراقي الذي لم يسمع بمثقفين داخل العراق ولم يقرأ نتاجهم ولم يستمع إلى ألحانهم الشجية وأفلامهم الروائية والوثائقية، بالتأكيد سوف لن يسمع بالشاعر والمثقف الكبير أنور الغساني عاش ومات ودفن في كوستاريكا! طلب مني هاتفيا أحد المسؤولين أن يشاهد فيلم "المغني". وفهمت أنه يريد أن أبعث له بشريحة دي في دي ليشاهد الفيلم! سألته واين تشاهد الفيلم وصالات السينما في العراق مهدمة؟ كنت أتوقع من الدولة العراقية أن تدعو الممثلين العراقيين الذين شاركوا في هذا الفيلم الذي يكشف سيكولوجية دكتاتور يقتل ضيوفه في ليلة عيد ميلاده ويطلب من المغني أن يغني في الحفل ووجهه نحو الجدار. أن يصار إلى دعوة الممثلين والفنيين على المسرح بحضور المخرج أو حتى بدونه! وتدعى الدولة ببرلمانها ورئاساتها وحكومتها ليشاهدوا الفيلم ويصار إلى تكريم العاملين فيه وأن تقدم الدولة العراقية الشكر لمؤسسة الآرتي الفرنسية التي أنتجت الفيلم عن دكتاتور نيابة عن الدولة العراقية! تناوب، أو تسلط على الوطن ساسة نعرف بعضهم، وبعضهم لا يعرفوننا. مطلوب منا أن ننشر أخبارهم في الصفحات الأولى من المجلات والصحف وتتصدر أسماؤهم نشرات الأخبار فيشعرون بالزهو والسعادة متناسين أن للتاريخ شروطا لا يجوز تناسيها! الذي لا يعرف الثقافة والمثقف لا يعرف معنى الوطن ولا المواطنة، ويصبح وجوده في السلطة محض افتراء. دعونا نعترف وبدون مكابرة ولا ادعاء "إن الوطن يتدهور" والادعاء بالديمقراطية هي كذبة يعرفها الجميع. فمناقشة قضايا الوطن والناس ورسم سياسة عادلة وسليمة يناقشها ويهندسها ويقرها أو يرفضها برلمان، إن هذا البرلمان قد تأسس بطريقة ليست ديمقراطية ، طريقة تسببت في كوارث اجتماعية واقتصادية وبيئية وثقافية. وإذا أردنا أن نعزو سبب هذا التدهور فهو يعود بالأساس إلى جهل الساسة العراقيين لدور الثقافة في بناء شخصياتهم. إن الكثير من الساسة ومؤسساتهم السياسية تأتي برامجهم خالية من الرؤية الثقافية، فتجد المعالجة السياسية والمعالجة الاقتصادية ولكنك لا تجد الموقف من الثقافة. وهنا يصبح الموقف واضحاَ لأن عدم تدوين الرؤية الثقافية يدلل على فراغ أصحاب البرامج السياسية ثقافيا. وهذا الأمر لا يتعلق برؤوس السلطة وحدهم بل أيضا بكل التدرجات السلطوية في البلاد. وبسب هؤلاء وبسبب انعدام الحس الثقافي وعدم توفر الأرضية الثقافية في تكوين شخصياتهم وصلنا إلى مرحلة التدهور والتي تقود بالضرورة إلى جفاف في مياه الفراتين وشاطئ العرب وإلى جفاف في دموع الأمهات من كثر ما ذرفت وإلى جفاف في مزارع العنبر وإلى جفاف في مياه الأهوار وإلى جفاف في قراءة واعية للتاريخ وإلى جفاف في حبر كتابة مستقبل الوطن العراقي. كامل الجادرجي كان مصورا فوتوغرافيا يلتقط اللحظات الثابتة من الزمن بقيمة فنية عالية ولذلك كان يجيد إدارة الصراع وتحديد الموقف من الأحداث بروح عالية من الوعي والقدرة المتفوقة. ويعطي من وقته لفنه الكثير. وكان يقرأ صحف البلاد وقصائد الشعراء وروايات الكتاب. رجالات العهد الملكي يحبون المثقفين ويستمتعون بأغاني المطربين ولذلك كان نهر الفرات يفيض ولا يجف .. كان النهر دائما يمتلئ ويفيض ولذلك بنوا السدود لاستثمار الماء الفائض واليوم تجف الأنهر ويموت الناس عطشا في بلاد ما بين النهرين. من عشق رجالات الزمن الملكي للثقافة فإنهم عرفوا كيف يسيرون الحياة وينظمونها بهدوء ونعومة لم ينغصها سوى أصحاب الإيديولوجيات الذين قادوا الوطن للخراب لأنهم لا يدركون ألق الثقافة ومدها التليد. أدعوكم أيها الساسة العراقيون الذين أنتم خارج الحكم في الأقل، ان تقرأوا رواية لكاتب عراقي أو قصة قصيرة لكاتبة عراقية وأن تقرأوا ما يدونه الشعراء من أحاسيس ومشاعر وأن تشاهدوا فيلما سينمائيا وهذا يتطلب إعادة بناء صالات السينما تلك التي لا نعرف من تجرأ على تهديمها محتقرا ومتجاوزا كل مشاعر المبدعين وكل مشاعر المواطنين. إن بلدا بدون ثقافة ليس وطنا. عندما تسقط السياسية يسقط النظام وعندما تسقط الثقافة يسقط الوطن! وتذكروا أن شاعرا مهما من شعراء الحداثة في العراق قد هاجر إلى كوستاريكا هذا البلد النائي البعيد وكتب شعره هناك ولم يقرأه أحد منكم ثم مات هناك ودفن هناك وحيداَ ولم يسمع به أحد منكم. إسمحوا لي أن أدون اسمه هنا .. اسمه "أنور الغساني" عراقي من كوستاريكا.
|