في روايتها مطر الله..هدية حسين تقرأ كفّ العراق. |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات لعلّ أول صورة تحركت في مخيلتي خلال قراءتي الأولى لـ "مطر الله" للروائية العراقية هدية حسين، هي لطفلة ريفية تنهمك الروائية في ترتيبها وتهيئتها لأول أيام العيد. تدعك جسدها وشعرها بالصابون الذي كان شائعًا في خمسينات وستينات القرن الماضي وتمشط شعرها وتعطّره وتضفره بكرتيلات ملونه رخيصة، ثم تلبسها ثوبًا ريفيًا بسيطًا ونظيفًا وتفتح الباب لها للخروج إلى مهرجان الحياة. تلك الصورة كانت مخاتلة وخادعة. وهي الصورة الأولى التي توحي بها الرواية في أول قراءة رومانسية لها. لكن الصورة تتغير بعد ذلك تبع ما تتركه القراءة من إحساس خاص يختلف تمامًا من متلقٍ إلى آخر. فقد كانت الصورة التالية بالنسبة لي كقارئ هي للروائية وهي تقرأ الماضي والحاضر في كف العراق وتستقرئ مستقبله. رواية خلق؟ نقل أم إعادة خلق؟
تعيد الروائية بذاكرة فنية قلّ نظيرها ترتيب المكان ثانية بعد أن عاد وأصيب بالقفر لعشرات السنين بعد حياة زاخرة، مستعيدة ذكريات بطلها السيد مهران. تضع هدية حسين النخلة في مكانها وبيت مهران بكل تفاصيله ودكانه وفسحة الحطب أمام الدكان المشرف على النهر وبعدها بقية البيوت الملبوخة بالطين والأكواخ المسقوفة بجذوع النخيل والبواري. كذلك تضع الساقية خلف بيت مهران وتمد الأزقة الترابية المتعرّجة لتتخلل تلك الصرائف والبيوت. وأخيرًا تُخرج هدية حسين سكان الحي الجديد لأعمالهم ونشاطهم اليومي. ثمة عناصر جديدة تضيفها الروائية إلى المكان وهي بعض شاحنات النقل (اللوريات) والعربات المصطفة عند السدّة وهي بمثابة التاريخ المسجل على اللوحة وهو أواسط ستينات القرن الماضي موعد الرحيل الجماعي لقاطني تلك المنطقة إلى بيوتهم الجديدة التي منحتهم إياها الحكومة في الأطراف البعيدة لبغداد وليس في بداية وصولهم إليها وإعمارها بالحياة، يوم تحولت إلى مكان له كيان واسم وهوية وجوار. عملية النقل الجماعية تلك تصفها الرواية بأنها عملية إبعاد لخطر هؤلاء الفقراء عن مركز العاصمة إلى أطرافها البعيدة (الفناء الخلفي لبغداد)، ولا تهدف إلى استقرارهم وتحسين حياتهم. أين نضع رواية مطر الله؟ لاشك في أن لمسة الإبداع واضحة في هذه الرواية. لكن، هل تجسّد هذا الإبداع البيّن في أن الروائية قد خلقت تأسيسًا بيئةَ وأبطالَ عملِها الفني أم أنها نقلت كلاً من البيئة والأبطال من زمن الحدث إلى زمننا هذا، أم أعادت صياغة المكان والزمان والأبطال في عملية إعمار وتشذيب جديدة وعلى مستوى رفيع؟ بعض التفاصيل الدقيقة التي سجلتها الروائية يمكن أن تقدّم إجابة على هذا السؤال. إذ لم تكتفِ الرواية ببناء لوحة شاملة للحي العشوائي وتصوير حركة الناس ونشاطهم فوق رقعتها، بل تتدخل في أدق التفاصيل حين تملأ دكان السيد مهران بالبضائع، وأصابعه بالخواتم. كل بضاعة في مكانها على الرفوف أو على أرضية مدخل الدكان. فوق ذلك تتدخل هدية حسين في تفاصيل أخرى مثل ثياب رجال وأطفال وفتيات الرواية وثياب نسائها وزينتهن الريفية البدائية. (واجهة البيت عريضة، يتقدمها من الجهة اليمنى دكان مليء بالبضاعة، رز وسكّر وشاي وحمص وعدس وفاصوليا يابسة، وعلى الرفوف تصطف عُلب مساحيق الغسيل والصابون والكبريت، وسجائر غازي ولوكس، وشموع ولالات وفوانيس وأكياس حناء، وعلى الدكّة الأمامية زجاجات شفافة تحتوي على الملبّس والعلكة والزبيب وحبّ البطيخ وجكليت التوفي والسمّاق وحبة الخضرة وأصابع السمسمية والشكرلمه، فيما تستقر في إحدى الزوايا صناديق المشروبات الغازية، ببسي وكوكا وسينالكو وسيفون.) تفتح الروائية باب مدينتها ليجد القارئ شخصية واحدة تقف على أطلال ذلك الحي العشوائي، هي شخصية السيد مهران بذاكرة مقفرة خارجة في التو من إغماءة طويلة امتدت لسنوات وتغيرت خلالها الأحوال والناس. تضع الروائية أول الأمر ضحاياه أمام عينيه من نساء ورجال، أخوه نصف الشقيق صابر، جارته سعدية وزوجها حامد، زوجته المهملة والرجل الذي قاده السيد مهران إلى مستشفى المجانين في حي الشماعية ليخفي واقعة خيانة زوجية تعرض لها، كذلك الفتاة عفيفة وشقيقتها، وشخصيات أخرى وقع عليها ضرر أقل. ثم تفصّل في استعراض سلوكه مع سكان الحي وعمليات استغلالهم في الغش في الميزان، الغلاء والربا، المعاملة المهينة للأخ ولغيره والمغامرات النسائية التي لا تفرق بين الحلال والحرام. وهكذا تدفعه إلى استعادة قسرية لكل ما يريد نسيانه. مقرنةً كل تلك التفاصيل بـ: (روائح حندقوق وسِعد وخبيز مفروش على الضفاف، روائح دخان معتق من أيام سجائر اللف، روائح جدائل مخضبة بالحناء والمحلب). كل ذلك تستدعيه هدية حسين بحيث لا يشعر القارئ أنه يعيش في حي جاهز بعمارته وقاطنيه، بل يشارك في عملية بناء الحي وذاكرة البطل. ولأن كل ذلك مألوف لأجيال معينة من العراقيين والبغداديين على وجه الخصوص، فإن هذه المشاركة تستدعي القارئ للتفكير في كل هذه التفاصيل والحاجة إلى وجهات نظر تاريخية وسياسية ونفسية واضحة في هذا الإنجاز الروائي المهم، مطر الله! الصدق والعدل كعنصرين جماليين صورة أخرى: يجري هذا الكلام على لسان السيد مهران وهو يقارن بين ما فعله هو وما تفعله الحكومات المتعاقبة منذ عام 1958 حتى زمن الاحتلال والسيارات المفخخة والقتل في الشوارع والمدارس والأسواق. إنه لم يفعل سوى زيادة أربعة أو خمسة فلوس على ثمن بضاعته، وعامل أخوه معاملة الدواب وألغاه تمامًا، قبل أن يتدارك الشيوعي بشير هذا الأخ ويعيد إليه توازنه وشخصيته، بعد أن كان يؤمن بأن البشر صنفان، سادة وعبيد. حتى مات هذا الأخ بعد أن أصبحت له إضبارة في الدوائر الأمنية، وكانت نهايته بعد قتل الزعيم جثة محشورة بين صخرتين تحت الجسر الحديدي من جهة الرصافة. |