المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
14/02/2010 06:00 AM GMT
في كتابه (الأدب والارتياب) يعتبر عبد الفتاح كيليطو المؤلف كيفما كان شأنه هو محل ريبة صريحة أو غامضة... ويقول إنه إذا سلمنا بأن القارئ عدو، فالنتيجة الحتمية أن كل كاتب في وضعية شهرزاد وكل قارئ في وضعية شهريار ولهذا قيل: "لا يزال المرء في فسحة من أمره ما لم يقل شعراً أو يؤلف كتابا" . ويقول كيليطو أيضاً: بصفة عامة كان المؤلفون العرب يعلنون في مستهل مصنفاتهم أنهم كتبوا تلبية لطلب او أمر صادر عن جهة ما، وكأنهم، كشهرزاد، بحاجة ماسة الى ترخيص حجة أو عمدة أو شخص ذي سلطة. وفي (الليالي) لا تأخذ شهرزاد الحكايات على عاتقها وإنما تنسبها الى مؤلف غير مسمى وتستهلها بعبارة "بلغني أيها الملك السعيد ..." وقد يكون مردّ هذا السلوك إلى التواضع أو الحذر أو الرغبة في إعلاء شأن الكتاب. وهو في بعض الحالات يكتسب صيغة هزلية، كما في مقدمة (البخلاء) للجاحظ، أو درامية لا تخلو من مسحة هزلية كما في مقدمة (الإمتاع والمؤانسة) للتوحيدي.. أما إبن حزم الاندلسي فإنه كصريع الحب يخشى الرقيب والعاذل والواشي فيقدم كتابه (طوق الحمامة) وكأنه صادر عن صديق طلب منه إنشاءه وقد يكون هذا حقيقياً أو تماشياً مع هذا التقليد الذي نجده في الكثير من الكتب القديمة، إذ يسعى الى تحميل هذا الصديق مسؤولية تدوين الكتاب أو على الأقل يسعى لتخفيف دوره الشخصي عندما يوحي بإنه كتب كتابه تحت الضغط. وهكذا في (حي بن يقظان) أيضا ًلم يأخذ ابن طفيل مبادرة التأليف على عاتقه، بل هو يصرح ومباشرة بعد المقدمة بإن ما سيقصه منقول من كلام سابق لكتّاب سبقوه، موحياً بأنه يكتفي بترديد ما قاله السلف الصالح، ولكن ليأتي في الخاتمة فيقول إنه خالفهم وتفَوه بما لم يتفوهوا به. ويستشف كيليطو من افتتاحيات الكثير من المصنفات قلقاً مرده التزام الحيطة والحذر والإحساس بأن الكتابة مليئة بالمخاطر، فقد افتتح الجاحظ كتاب (البيان والتبيين) بالتعوذ من فتنة القول سائلاً الله أن يجنبه من السلاطة والهذر ومن العي والحصر. أما بيدبا فعندما انتهى من تأليف كتابه (كليلة ودمنة) وقرأه أمام ملك الهند أوصى بمنعه من التداول وحجبه بعيداً عن الأنظار.. لقد خاف عليه من التطفل معتبراً أياه ملكاً مقتصراً على بلاد الهند. كان هذا هو المنع الأول. أما المنع الثاني فهو عندما أقام بيدبا عقبة أخرى بوجه الكتاب، إذ أنه حسب ابن المقفع (الذي قام بترجمته من الفارسية إلى العربية) قد حمَل كتابه قراءتين، الأولى سطحية للسخفاء، والثانية عميقة للحكماء، قائلاً في المقدمة إن ظاهره لهو للعوام وباطنه رياضة للخواص. مع هذا النوع من الحذر نشأت الكتابة التي تحيل الى خطابين متميزين، وبدأ عهد الرسالة التي تحتمل دلالتين واحدة ظاهرة وأخرى مخفية، أي هو نمط من الإنشاء مبني على الكتمان والإخفاء.. ويردّ كليليطو هذه الحيلة إلى الاحتراس والخوف من المضايقة والاضطهاد، ويقول إنها تعمل، سواء في نطاق الأدب المكتوب حيث المصدر محدد ومسمى، كما في مقامات الهمذاني التي تبدأ كلها بعبارة (حدثنا عيسى بن هشام)، أو في نطاق الأدب الشعبي حيث أن المصدر غير مسمى، كألف ليلة وليلة التي تُستهل بعبارة (بلغني أنّ) أو (يُحكى أنّ)، رغم أن هذا الأدب الشعبي هو في الغالب خالٍ من أسماء المؤلفين. في كتابه (أبو جاسم الكرادي) يلجأ الفنان والخطاط والشاعر العراقي محمد سعيد الصكار(صاحب الأبجدية الطباعية المعروفة بإسمه) إلى حيلة مشابهة عندما يضع ملهاته الساخرة على لسان صديقه وابن محلته البغدادية (ابو جاسم الكرادي).. وهذا التخفي هو القناع الثاني الذي يستعمله الصكار. أما القناع الأول فكان عندما صدرت المخطوطة بنسخ محدودة في المنفى باسم مستعار هو( موسى الكرادي)، وعن ذلك يقول الصكار في تنويه للحقيقة والتاريخ في نهاية الكتاب: "صدر من هذا النص عدد محدود لا يتجاوز الخمس عشر نسخة وزعت على بعض الأصدقاء عام 1988 بعنوان (ابو جاسم)، تأليف موسى السيد صالح الكرادي، منشورات ساعة الصفر ببغداد، وقد نشرت بعض صحف المعارضة العراقية نصوصاً منه، من بينها جريدة (المجرشة) للفنان فيصل لعيبي وجريدة (المستقل) للشاعر نبيل ياسين." هذه المقامة الصكارية المتخفية نجدها تطبيقاً معاصراً لما ذهب اليه كيليطو في كتابه (الأدب والارتياب) من التزام السلف بالحيطة والحذر من القارئ العدو... ذلك أن الخطر ماثل والعدو بالمرصاد، ومن ثم لا بد للكاتب أن يتذكر على الدوام أنه يخاطب بالضرورة متلقياً معارضاً ومعادياً. ووفق ملاحظة مفاجئة يجدها في كتاب الحيوان للجاحظ، فإن القارئ هو عدو الكاتب. ولا يكتفي محمد سعيد الصكار بكتابة مرافعته الشعرية الساخرة منسوبة إلى (ابوجاسم الكرادي) (الوجه الآخر للصكار) ولكنه يقدم لنا أيضاً مقدمة تعريفية بأبي جاسم الكرادي إمعاناً في الإيهام بأنه شخص آخر له اسمه وعمره وعنوانه وجنسيته وصفاته..... الخ وأن موسى الكرادي هو الذي يروي هذا العمل وليس محمد سعيد الصكار.. إنه، أي موسى الكرادي (الصكار)، سيقف خلف الكواليس عامداً ليتفرج معنا على ما يحدث بعد أن يدعو صديقه (أبو جاسم) إلى ليلة من ليالي العمر في قصر من قصور الحكام. يصبح المؤلف والراوي شاهدين على تلك الليلة الليلاء التي لعب فيها الخمر في الرؤوس، فينزل أبو جاسم كالصاعقة فوق رؤوس الجميع، ويفرغ ما في قريحته الشعرية من أحكام بحق من حضر تلك الحفلة، إبتداءً من الصحفي الى الغجريات والوزراء والمسؤولين والنواب، ثم أخيراً السيد (بهجو أفندي) بطل المسرحية الذي يتلقى، في مسك الختام، شتائم من العيار الثقيل. "والله، إن المرء ليموت شهيداً في مثل هذه الليلة. ورأسِك لأطلقن لساني فيهم بكلام تعتز به الكرادة,ويلهج به العراقيون." هكذا "دقت الطبلة ورفع الستار"، وبدأت الحفلة الموعودة واكتمل في رأس أبي جاسم الكرادي سيناريو الساعات المقبلة التي سيهجو فيها جميع الموجودين ويفضح زيفهم راميا (طينة) كل مدعو على (خده) كما يقول المثل العراقي. فيعمد الى تفريغ ما في جعبته من أزجال وأمثال وأشعار كنت أظن بعضها أمثالاً عراقية قديمة لأكتشف فيما بعد أنها تآليف الصكار التي يختلط فيها العامي بالفصيح بطريقة مرحة وخفيفة الظل . بسخرية لاذعة تقوم هذه المرافعة التي يأخذ فيها أبو جاسم دور الإنسان الشريف ذي اللسان السليط ويمنح نفسه الراحة والأمان بالحديث دون قيد أو شرط فيفضح جميع الموجودين ويعري تواريخهم وماضيهم المشبوه. فهذا حافي وذاك خرافي، وهذا صايع وذاك ضايع، وهذا حرامي وذاك محتال، وشيئاً فشيئاً يتكهرب الجو، وأبو جاسم يفتح الصفحة تلو الأخرى ليصلي الجميع بنيرانه و(يفجّخ) رؤوسهم بكلام حاد كالحجارة، وآخِرُ من تصيبهم تلك الحجارة بالأذى هو كبير الجلسة (بهجو افندي) الذي وجد نفسه في موقف لا يُحسد اليه أمام سلاطة لسان (ابو جاسم)، لتنتهي تلك المقامة بالعودة إلى موسى صديق أبو جاسم الكرادي الذي جاء به إلى الحفلة فيقول له الحاضرون كل الذنب ذنبك.. أنت الذي جئت به لينكّد علينا مجلسنا ويفسد ليلتنا. هنا تكتمل لعبة الصكار بالاختفاء وراء قناعين، الأول موسى الكرادي والثاني أبو جاسم الكرادي.. وبتلك الحيلة يصبح النقد الساخر اللاذع هو بطل الحكاية بلا منازع، مما يجنب العمل مؤاخذة كون الحكاية مروية بصوت واحد هو صوت القاضي الذي يصدر الأحكام من طرف واحد ويعلو صوته فوق أصوات الجميع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * حكاية أبو جاسم البغدادي: محمد سعيد الصكار، منشورات الجمل، كولونيا/ بغداد، 2009
|