المقاله تحت باب قصة قصيرة في
28/01/2010 06:00 AM GMT
فصل من رواية ■ مضت ثلات وعشرون سنة على اختفاء جثته. حدث ذلك بالضبط في السنة السادسة للحرب. لم أنسَه طوال ذلك الوقت، أتذكّره كلما وقعت عيناي على كتاب لماركيز. كان شغوفاً بهذا الكولومبي على نحو جنوني، يحمل كتبه بلغتها الأصلية حتى في الخط الأمامي للجبهة. حين عرّفني إليه فرهاد، قبل مقتله ببضعة أسابيع، قال لي: "أقدّم اليك صديقي سلمان البدر، ولن يغضب إن ناديته باسم ماركيز، فهو مهووس به مثل هوسك بألبرتو مورافيا، ولا يفارقه حتى عندما يدخل إلى الحمّام". كنا يومها نعيش في ملاجئنا على سفح جبل زرار في قليل من الاسترخاء. الجبهة شبه هادئة، بعد مرور مدة على استرجاع الراقم الذي كان الإيرانيون يسيطرون عليه، ولذلك صار آمر سريتنا مرناً في تعامله معنا، فسمح لنا نحن الثلاثة، فرهاد وسلمان وأنا، بالنزول إلى بلدة ديانا، أكثر من مرة، للاستحمام وإجراء مكالمات تلفونية مع أهلنا في كركوك. كان ذلك الضابط من جيلنا تقريباً، برتبة ملازم أول، وله اهتمام بالأدب أيضاً، إلاّ أنه لم يكن يمتلك وقتاً لقراءة الكتب هناك، مقارنةً بنا نحن الجنود، فيكتفي بالاطلاع على الصحف والمجلات الأسبوعية فقط. وإذا صادف أن قرأ قصةً عن الحرب، من تلك القصص القصيرة التي لم تكن تخلو منها الصحف آنذاك، فإنه يهبّ إلى كشف مثالبها، ويسخر أحياناً من كتّابها بحجة جهلهم الحياة العسكرية. وكنا نؤيده في موقفه، تملقاً، علّنا نحظى بمودته ورضاه. في إحدى المرات التي ذهبنا فيها إلى ديانا التقى سلمان صدفةً بصديق له اسمه نصيف الناصري، شاب أسمر له ملامح الغجر، يكبرنا بسنتين أو ثلاث، يرتدي بزة مغاوير مرقطةً، ويتحدث بلهجة جنوبية شبه ريفية، فعرّفنا إليه قائلاً إنه شاعر يكتب قصائد نثر غير مألوفة، ويكره الشعر التعبوي، وله مخطوطة من أربعة دواوين عنوانها "جهشات"، لكنه لم ينل حظه من النشر بذريعة أن قصائده سوريالية تتهكم بالحرب أو تتقاطع معها. وراح سلمان يطري عليه كثيراً، مشبهاً قصائده بقصائد شعراء الحداثة المتمردين في الغرب، ثم انفرد معه في استذكار لقاءاتهما في مقهى حسن عجمي ببغداد، ذلك الذي لم نكن، أنا وفرهاد، نعرف آنذاك أنه ملتقى للأدباء والكتاب. وقبل أن نفترق أستلّ نصيف من جيبه ورقةً وشرع يقرأ لنا آخر قصيدة كتبها، اسمها "رغبات مؤجلة": "قلت لأبي: أعطني نقوداً لأسكر/ فتح فمه فخرج منه أسد جائع/ قلت لحبيبتي: أعطني قبلةً/ فتحت فمها فخرجت منه لبوة/ قلت لآمر سريتي: أعطني إجازةً يا سيدي/ فتح فمه فخرجت منه دبابة./ الأسد الجائع/ واللبوة/ اصطحبتهما معي في نزهة على الدبابة/ ثم عدت إلى السجن مصدوع الرأس". كان نصيف ناقماً جداً، أكثر منا، على الحياة العسكرية والحرب. ومن يلومه على موقفه؟ لقد سلخت هاتان الآفتان، حتى ذلك الحين، سبعة أعوام من شبابه، و"لسّه الحبل عالجرّار". سألته قبل أن نعود إلى ملاجئنا بين صخور الجبل: "كيف تمضي إجازتك الدورية؟"، قال: "أذهب لزيارة أصدقائي، ولا أحقد على أحد، لكنني عندما أفرط في السكر أضع جميع المقدسات في المرحاض". أذهلتني جرأته، وبدا لي ردّه كأنه مقطع من قصيدة، فابتسمت له من دون أن أنبس بكلمة. *** قبل مدة قصيرة رأيت سلمان في المنام، زارني في اليوم نفسه الذي قُتل فيه (الثالث عشر من شباط)، فلم أستغرب ظهوره بسنّه الطرية، التي كان عليها قبيل موته بأيام قليلة، في حين كنت أنا في سني الحالية، السادسة والأربعين، لكن الأمر كان عادياً جداً بالنسبة اليَّ، وكأن عودة الميت/ الغائب إلى الحياة في اللاشعور مسألة بديهية. أخرجني سلمان من بيتي في حي بريادي، وقادني إلى القلعة. لم يتكلم البتة ونحن نذرع شوارعها الملتوية وأزقتها الضيقة طوال ساعتين. كان متعطشاً فقط لرؤية أبنيتها القديمة وبيوتها المتلاصقة، وكأنه سائح يطأها للمرة الأولى. وعندما اجتزنا من تحت قوس مدخلها الغربي "توب قابسي" (كلمة تركية تعني "باب المدفع") لنهبط درجاتها الحجرية صوب نهر الخاصة، طلب مني أن أساعده في تذكّر ما حدث بعد وصولنا إلى البصرة. قال بصوت متكدّر: "ذهني مشوش، لا أستطيع أن أرتّب الأحداث في رأسي. أتذكّر أننا تركنا مواضعنا المحاطة ببقايا الثلج في جبل زرار ساعة الغبش، وهبطنا راجلين إلى السفح، حيث كانت في انتظارنا عجلات الـ "إيفا". وبعدما اكتملت السرايا تحركت في رتل عسكري طويل صوب مقر الفوج الخلفي. في الطريق ألقينا نظرةً أخيرةً على بساتين الجوز والبلوط والتين في ناحية سيدكان الجميلة، وتنهدنا متحسرين لأننا فارقنا جداولها المتلألئة، كشرائط الضوء، وطراوة أشجارها المغتسلة بندى الليل. وأتذكّر قبل ذلك أنني نُقلت إلى سريّتكم حديثاً، لكن لا أدري من أين، ربما من مركز التدريب أو من فوج آخر في اللواء، كل ما أعرفه أن ذلك حدث قبيل أسابيع قليلة من حركتنا إلى الجنوب. في طريقنا إلى أربيل كنا بضعة جنود من أهل كركوك، أربعة أو خمسة لا أتذكر، نستلقي كالهشيم على تل من "اليطغات" (جمع كلمة yatak التركية التي تعني "السرير") في العجلة، وكنت أنا أحدثكم عن أسرة بوينديا العجيبة في رواية ماركيز "مئة عام من العزلة"، وأنتم تقهقهون بعبثية، وكأننا ذاهبون إلى نزهة في أبي الخصيب، وليس إلى حرب...". حين انزلقنا إلى الشارع الرئيسي، الممتد بين أقدم جسرين في كركوك، أمسكت سلمان من ذراعه، فتوقف عن الكلام. قطعنا الشارع المزدحم بالسيارات إلى الرصيف الثاني بصعوبة شديدة، واتجهنا شمالاً. مررنا من أمام محلات تبيع الدجاج الحي، وأنواعاً مختلفة من الطيور والحيوانات الأليفة، في أقفاص معدنية وخشبية، ثم ولجنا حديقة واسعة أقيمت على أنقاض سينما قديمة اسمها "الخيام"، تقع في محاذاة الضفة الشرقية للنهر. كانت أشجارها مشذبةً ومنسقةً بمهارة، وممراتها مرصوفةً بالطوب الرملي الملون، وفي وسطها تنتصب نافورة دائرية مزينة بالموزاييك. بدت لي الحديقة في الحلم كأنها شريحة من مدينة عصرية مترفة، في حين هي حقيقةً فضاء مهمل تعشعش فيه القاذورات. جلسنا على مصطبة خشبية، فشعرت بلذة الدفء تسري في أوصالي، ووجدت نفسي مجذوباً، بصورة لا تُقاوَم، إلى ألسنة النار الأزلية المستعرة في حقول بابا كركر، هناك شمال المدينة. يحدث لي هذا عادةً في فصل الشتاء، إحساساً مني بأنها سليلة إلهة آشورية حسناء تمنح الدفء للمدينة، وفي الصيف لا أطيق النظر إليها، أشعر بنفور شديد تجاهها لأنها تذكرني بالجحيم. أما سلمان فقد بدا تائهاً وهو يرنو إلى سور القلعة، وشرفات بيوتها العالية، وأعمدة الرخام التي تنوء بحملها. بعد دقائق أدرت وجهي إليه، وشرعت أروي له: "يوم عرّفني فرهاد إليك أخبرني أن أسرتك نزحت من بلدة حدودية إلى حي تسعين، وأنك أنهيتَ دراستك الجامعية في بغداد، وساقوك إلى الجيش قبل أربعين يوماً. ولم تُتح لي بعد انتقال فوجنا إلى الجنوب فرصة الحديث معك، إلاّ مرات قليلة، حتى يوم مقتلك في أم الرصاص، أما فرهاد فقد كان، حسب ظني، على مسافة قريبة منك لحظة إصابتك. قال لي إنكما أكلتما علبة جبن، وقطعاً من البسكويت المملح مع جرعات قليلة من عصير التفاح قبل بدء الهجوم بساعتين، وقد أطلعته أنت على فكرة زواجك بعد انتهاء المعركة. وكان في مقدورك أن تتزوج بالفعل لو لم ترتكب حماقةً بصعودك إلى الساتر. وأي حماقة! كان ينبغي لفرهاد أن لا يدعك تفعلها، فهو يعرف أن خبرتك الميدانية صفر، وعالمك محصور بين غرائب ماركيز وطلاسمه. هل نسي ما حدث له، هو أيضاً، في جبل زرار حين جاء إلى الجبهة للمرة الأولى؟ لكن فرهاد أكد لي في ما بعد، ونحن نستذكر تلك الأيام العصيبة من معارك الفاو، أنه كان منهمكاً طوال الوقت بتسديد قاذفته، ولم يشعر بوجودك على مقربة منه، وحين اشتد الهجوم على السرية اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد في مقدور أحد أن يعرف من قُتل ومن جُرح ومن وقع في الأسر. وقد أصبت أنا خلال الانسحاب بانهيار عصبي، فنقلوني إلى مستشفى الميدان، ومكثت هناك يومين، ثم أمروني بالالتحاق بوحدتي، رغم أني كنت بحاجة إلى أسبوع كامل لأستعيد وضعي النفسي الطبيعي. لم أعرف بالطبع أين تقع الوحدة، لكني كنت متأكداً من أنها دُمّرت، ولا بد أنهم يعيدون تنظيمها في القاطع الخلفي. أرشدني إلى موقعها عريف في الانضباط العسكري، وكان الوصول إليها سيراً يتطلب نحو ساعة ونصف الساعة. في الطريق لم أكن أفكر إلاّ فيكما أنت وفرهاد، كنت مرعوباً من فكرة أن لا أجدكما بين الناجين في الفوج، وأخذت استذكر أيامنا، نهاراتنا وليالينا في سفح جبل زرار، مكابداتنا وأحلامنا ومخاوفنا، أماسينا المعتمة والموحشة في الملجأ الذي يشبه القبر، ومحاولاتنا التغلب عليها بالحديث عن النساء، ومغامراتنا الجنسية مع المومسات والصديقات، وعن الكتب التي قرأناها لمورافيا وماركيز ومحفوظ وغادة السمان وحنا مينه وكامو وكازنتزاكي وايتماتوف وتشيخوف وبراتوليني وكاواباتا... وعن ساعات الحراسة المهلكة في البرد. بلغت مقر الفوج وقت الظهيرة، فوجدتهم منهمكين في توزيع الجنود الجدد على السرايا، تعويضاً عن الذين قتلوا أو أسروا أو فقدوا في الهجوم. قصدت على الفور جماعة "القلم" (تسمية تُطلق على المسؤولين عن الشؤون الإدارية في وحدات الجيش العراقي)، فلم أجد سوى العريف هرمز، هل تذكره؟ ذلك الشاب الكلداني ذو الأصابع المبتورة. سألته عنك وعن فرهاد بلهفة، فأخبرني أنك استشهدت، وأن فرهاد نجا مع اثنين وعشرين جندياً فقط من جنود سريتنا. وفي اليوم التالي أمرني الضابط الإداري للفوج قائلاً: "أكرم، أنت من مدينة سلمان... خذ جثته من مستشفى البصرة العسكري، وسلّم جثته لأهله، ولك خمسة أيام من غير إجازتك الدورية". ولا أدري لماذا وقع الاختيار عليّ وليس على فرهاد، رغم أن صلته بك كانت أوثق وأقدم من صلتي بك. وصلت إلى البصرة قبل غروب الشمس، فوجدتها تنبسط إلى أقصى امتداد البصر مع انتشار رغوة مياه الأمطار في الشوارع، وحين خيّم الليل صار من الصعب تحديد أبعادها. تتلوى كالقطيفة الناعمة على جنب الشط، ويبدو السائر على أرصفتها كمن يحث الخطى صوب جرف بارد في صيف لاهب. أتفقتُ مع أول سائق وافق على إيصال التابوت إلى كركوك. طلب الكلب مئة وخمسين ديناراً، فقلت له: "المبلغ كبير، أية وطنية هذه؟"، أجابني: "المسافة بعيدة... أبعد من الكويت خمس مرات، وليل الشتاء محفوف بالأخطار". بعدما خرجنا من قلب البصرة أخذت عجلات السيارة تلتهم الطريق، غير مكترثة برشقات الماء التي تسكبها السماء، ولا بصفعات الريح القوية على هيكل السيارة، وهذا ما جعلني قلقاً على وضع التابوت، فالحبل الرفيع الذي ربطه به السائق أعجز من أن يقوى على الثبات أمام شراسة الريح، وأخذت أفكّر في عاقبة ما سيؤول إليه ذلك. لكن السائق، الذي بدا لي وجهه الخمسيني أشبه بقناع مشقق، حاول أن يفرغني من هاجسي أكثر من مرة، كان يسألني عن اسمك، وعن صلتي بك، وعن المكان الذي قُتلتَ فيه، ونوع السلاح الذي فتكَ بكَ، فأقول له: "اسمه سلمان، ولقبه ماركيز، وأنا مأمور بإيصال جثته إلى أهله في كركوك"، لكنه كان يمضي من جديد في إشعال فتيل الأسئلة: "من يكون ماركيز هذا؟ أنا سامع باسم مار متّى فقط، هل كركوك أكبر أم البصرة؟ أيهما أكثر نفطاً؟ وهل صحيح أن الناس في كركوك يجيدون ثلاث لغات؟"، ولا يصمت إلاّ حينما أفضح غباءه وجهله. عند مشارف بلدة العُزير استأنفَ ثرثرته: - والدي ينحدر منها، وقد سُمّيت بهذا الاسم لأن قبر النبي عزير فيها. هل تعرف قصته؟ لم أجبه، شغلت نفسي بمسح زجاج الباب، وأخذت أحدّق إلى المرآة الجانبية، فقال: - قصة عجيبة، لقد أرسل الله إليه عزرائيل فقبض روحه وروح حماره، وأماتهما مئة عام ثم أحياهما من جديد... لو حدثت هذه المعجزة اليوم لما صدّقها الناس، أليس كذلك؟ توقّع أن أثني على كلامه عن طيب خاطر، وأسرُّه برغبتي في سماع القصة بالتفصيل، لكني تعمدت إهماله، وواصلت تحديقي إلى المرآة، فغيّر الموضوع بعد برهة، وطفق يحدثني عن مغامراته مع صبايا البلدة أيام شبابه، ثم عن صولاته الجنسية مع غجرياتٍ في حي الطرب، واحدة اسمها ملايين، وأخرى لميعة، وثالثة تسواهن، ورابعة غزلان... وبين حين وآخر كان يضحك بشدة، ويتمايل كما لو انه يشاهد فيلماً هزلياً. إلاّ أنني كنت أصغي إلى الخارج حيث لا شيء سوى عويل الريح، وفرقعة سياط المطر، وصرير ماسحات الزجاج. كنت أتساءل مع نفسي: "هل يدرك هذا الثرثار أن بين التابوت والسقوط شعرة واهية؟"، وتنثال في رأسي هواجس شتى: "السقوط في الماء... الإفلات من قبضة الحبل... التشظي... اللوح تلو اللوح... شظايا بحجم الكف... كل شظية تستقر في موضع، فترتوي مساماتها من وحل الأرض. كيف يحدث هذا؟". وفجأةً هوى التابوت، فأخذتُ أصبّ على السائق نار غضبي: "ألم أنبّهكَ إلى أن الحبل ضعيف، والريح لعوب تنصب لنا شباكها؟ قلتُ لك مراراً إن قلبي يرفّ عليه، لكن ثقتك البلهاء بنفسك أعمت بصيرتك، وجعلتك لا تأبه بمخاوفي. أتذْكرُ حين قلتَ لي ونحن في أول الطريق: دع عنك هذه المخاوف فقد ربطت بهذا الحبل توابيت كثيرةً؟ بماذا تبرر الآن ما حدث؟". في البدء نظر الكلب إليّ بوجه تبخّر دمه، ومثل من قفز لسانه من فمه لم ينطق ببنت شفة، ماذا يقول؟ عيناه أصيبتا بالهلع وهو يستقبل نظراتي الغاضبة الحادة، وبعدما خرج من السيارة، وتجلل بالماء، أخذ يلقي اللوم على الطبيعة. أجلسناك في المقعد الخلفي، وكان الوحل يغطي كفنك. أنا كنت كتلةً ملتهبةً من الغيظ، وذاك الجالس خلف المقود، كجذع شجرة متآكلة، مسكون بالإثم، كل نأمة تصدر عنه تفضح إحساسه بالخوف. لكنه ادّعى بعد سنتين، حين التقيته صدفةً، أنك أنت الذي جلست، قال لسائق آخر يعمل معه في خط البصرة - بغداد: "كانت الجثة راقدةً في كفنها، ثم استقامت جالسةً مثل جني، من دون أن تندّ عنها أي حركة، ولم أجرؤ على إعادة النظر إليها في المرآة، كما أنني لم أستطع أن ألفت نظر المأمور إليها لأني خشيت ألاّ أكون دقيقاً في ما لمحت، أو أن يكون خيالي قد اشتطّ فصوّر لي الأمر على ذلك النحو، ولكي أبدد هلعي أخذت أستفز المأمور بأسئلة كثيرة... عشرات الأسئلة. وكان يعنّفني أحياناً، ويجردني من أيما إحساس. يقول لي: "هاجسك الوحيد في الحياة هو المال. حلّت لعنة العصر في نفسك فأصبحت تلهث، مثل كلب مسعور، كأن بينك وبين الموت بحراً من الجليد لن يذوب إلى الأبد". لقد كذب السائق الحيوان. كان يزدرد توبيخي له بصمت كأنه جدار أصم، ثم يستأنف أسئلته المملة، وكنت أظنه يفعل ذلك لامتصاص نقمتي عليه، ولم أدرك حقيقة الأمر إلاّ حينما فوجئت بصوت أجش مفعم بالحرارة، كجسد فتاة نائمة، ينساب خلف ظهري. كان ذلك صوتك، وقد تغير كثيراً، بل لم يكن يشبه صوتك وأنت حي على الإطلاق، حتى أنني شككت في أنك سلمان. - أحقاً كنت أتكلم وأنا ميت؟ - نعم. قلتَ إنك كنت تفعل مثلنا تماماً، تضغط على الزناد، وتلقم بندقيتك بالرصاص، وترفع رأسك وتخفضه، بين حين وآخر، وتدعو الله في دخيلتك أن تكون القذائف، التي تلتقط أزيزها المقبل إلينا، متجهةً إلى ناحية بعيدة كي لا تصيبنا". ربت سلمان يدي وقاطعني قائلاً: - أجل تذكّرتُ الآن. كان إلى يميني صبّار. عريف ضخم الجسم، يكبرني بعشرين عاماً، وله يدان كالعصفور الدوري، ووجهه يشبه وجه الغجري ملكيادس في "مئة عام من العزلة"، لكن من دون لحية، وإلى شمالي كامران، فتى كردي رقيق يصغرني بأربعة أعوام، ويجيد إطلاق النار أفضل من كريستو بيدويا في "قصة موت معلن". كان صبّار يحلم، مثل الجميع، بانطفاء نار الحرب ليبني بيتاً صغيراً لأطفاله الستة على ضفاف نهر الغرّاف، وكامران يحلم بانطفائها ليغادر بيت أخيه في حي رحيم آوا، آخر ما تبقّى له من أسرته، إلى مكان فيه بحر شاسع، وطيور ملونة لا تفزعها لعلعة رصاص، ولا نباح كلاب شرسة، وبينهما كنت أنا لا أحلم بشيء سوى الخروج من تلك المعركة سالماً ليتسنى لي تحقيق أمنيتي في كتابة رواية بمستوى "خريف البطريرك"، والزواج من نورهان، فتاتي التي وجدت شبهاً بينها وبين مرسيدس، زوجة ماركيز، أيام شبابها. لقد منحتني أربع سنين من المحبة، ولم أمنحها غير لوعة الانتظار. - هل تذكر ما قلته لي عنها؟ - لا، ماذا قلت؟ - قلتَ: "لا بدّ أن تكون الآن راقدةً في فراشها. عيناها تلمعان ببريق أشبه بالتماع الحمّى، وهي تصغي إلى مذياعها الصغير لتتبع أنباء الهجوم أولاً بأول، متضرعةً إلى الله أن يجعل النار من حولي برداً وسلاماً فهل كنت أنانياً لأنني لم أكتب لها شيئاً قبل موتي؟ قل عني يا صاحبي ما تشاء، لكني أريد الآن أن أكفّر عن ذنبي، فابحث عنها، ستجدها في بيت عتيق من بيوت القلعة، خلف كاتدرائية أم الأحزان، كُتبت على جداره بالطباشير كلمات أغنية تركمانية تقول: "ثلاث شجيرات في أسفل القلعة/ تتمايل مع النسيم/ في معصميّ قيود وفي رقبتي أغلال/ لا تشد سلاسلي فذراعاي تؤلمانني". وانقل لها عن لساني أني كنت أحبها أكثر من حب فلورينتينو أريثا لفيرمينا داثا، وقد اشتد كثافةً حينما قربت إلى الموت، وأني حفرت صورتها في قلبي، وكنت عازماً على تنفيذ وعدي الذي قطعته لها في أول إجازة أنالها. لكنها الحرب، ماذا أفعل؟". - لا أتذكر أني قلت ذلك. - نعم قلتَ، وطلبتَ مني أن أخبرها بأنك متُّ من دون ألم، سوى ألم فراقها، شيء ما ثقب رأسك، ربما كانت رصاصة، أو شظية، لم تكن تعرف. كل ما كنتَ تعرفه أنك كنت منبطحاً مثل الجميع، وقد جفّ لسانك من الغبار والعطش، وفجأةً وجدت نفسك منتصباً على ساقيك، مشاعاً كشجرة في رصيف مزدحم، فشعرتَ بدوار يطحن رأسك، وصار الفضاء منفياً من حولك كأنه غير موجود. سحبك أحدهم من ساقك اليمنى، فانزلقت قدمك على سفح الساتر الترابي، وظلت الأخرى ثابتةً كموجة عالية. امتدت يدٌ أخرى لتسحبها فهوى جسدك كله مترنّحاً، وارتطم رأسك بالأرض، وقذفتَ من فمك كتلة دم دافئةً... وتكاثف ضباب أحمر في عينيك، وأخذ يفقد لونه شيئاً فشيئاً حتى صار مظلماً. عندها أدركتَ أنك مقتول مثل سنتياغو نصّار، واستسلمت لموتك. ذلك ما قلته لي، ولم أسألك من يكون هذا المجنون، إلاّ أني حدست أنه إحدى شخصيات ماركيز الروائية، فأنت لم تكن تشغل بالك سوى شخصياته. وكنا لا نزال في النصف الأول من الطريق، ولا شيء يوحي إلى أن السماء ستكف عن شراستها، ولا الريح عن هيجانها، الفضاء كله صار مكفهرّاً، خيمةً واسعةً من السواد، تخترقها بين حين وآخر مصابيح برّاقة، كعيون القطط، لسيارات عسكرية ومدنية. أنت لم تتكلم بعدئذ، أحنيت رأسك داخل الكفن كما لو أنك غفوت. الطريق طالت بنا فحسبتُ أن الوقت دهر لا ينتهي. كانت تجتاحني لحظات من الذهول، ويتضاعف ارتباكي، وأتمتم بألفاظ غريبة، فتتكسّر أنفاسي مثل زجاج هش، وتغيم نظراتي وأنا ألتفت إليك بين حين وآخر، متسائلاً: "أكان الصوت صوته أم وهماً تلبسنا أنا والسائق دفعةً واحدةً؟". أردت أن أمدّ يدي لألمسك فلم أستطع، وتساءلت في سريرتي، وأنا أنظر بطرف عيني إلى السائق القابع كالقنفذ إلى يساري، "كيف تطاوعه نفسه على قيادة السيارة باتزان بعد هذا الذي رآه وسمعه؟". وخيّل اليَّ أنه يكتم في داخله ذعراً لا تفوقه إلاّ رهبة الموت. أخيراً وصلنا إلى مدينة كبيرة، فاقترحتُ على السائق أن نبحث عن مستشفى عسكري نتزود منه تابوتاً وعلَماً نلفّ به جثتك. رفض، أول وهلة، خائفاً، لكني أسرعت إلى تهديده بعاقبة تسليمها إلى أهلك من دون تابوت، فأذعن. كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلاً، والسماء ما انفكّت تجلد الأرض بسياطها، والريح تصفع الوجوه بقوة. ولَجنا شوارع مغمورةً بالمياه، استوقفْنا أحد المارة، دلّنا على المكان، اجتزنا جسراً مضعضع السياج، واجهَنا مبنى كثير الأشجار ذو بوابة كبيرة، تدلف إليه حافلات عسكرية مغلقة النوافذ، ربما تكون مملوءة بالجثث، ولا يخرج منه أحد. أوقف السائق السيارة في ركن مظلم، ترجّلنا كلانا، سلّمت على حارس البوابة الواقف تحت المظلة كتمثال شمعي، كان يداري وحدته بغناء الأبوذية، فقطع غناءه على مضض وأفسح لنا الطريق، قطعنا شارعاً طويلاً، التصقت ثيابنا على جسدينا من شدة البلل، فاحتوتنا رعشة برد. وصلنا إلى قلب المبنى، قابلنا حارس عسكري آخر، دقّق في الأوراق التي أحملها، حجز السائق، كونه مدنياً، في غرفة رطبة تنبعث منها رائحة بول، وأرشدني إلى الداخل. عدت بعد نصف ساعة وبيدي ورقة تأذن بإدخال السيارة. قطعنا الشارع الطويل ثانيةً، امتلأت أحذيتنا بالماء، فتناغم زعيقها مع صفير الريح وحفيف الأشجار وطقطقة أسناننا. بلغنا البوابة الخارجية، سلّمت الورقة الى الحارس، فقرأها وهزّ رأسه. أسرعنا إلى السيارة، الضوء الضعيف الذي كان يتسلل إليها من عمود الكهرباء انطفأ، فتح السائق بابه أولاً ورمى نفسه على مقعده، ثم دخلت أنا، فغمر نور المصباح الصغير في سقف السيارة وجهينا، استرقنا في آن واحد نظرة خاطفةً إلى جثتك، فشهق أحدنا، وندّت عن الآخر صيحة قوية بلغت أسماع الحارس الواقف تحت المظلة، هرع إلينا شاهراً سلاحه: - ماذا حدث؟ قلتُ: - كان هنا واختفى. أقصد صديقي الـ... قال: - أليس له اسم؟ قلتُ: - بلى. اسمه سلمان. هزّ يده في الهواء، وقال ساخراً: - ظننت أن عقرباً لدغتكما. لا تقلقا، ربما ذهب ليقضي حاجته في إحدى الزوايا. قاطعني سلمان مذهولاً: - اختفت جثتي؟ لمن العظام إذاً في القبر الذي يحمل اسمي الآن؟ - ستأتيك القصة. قبل أن يكمل الحارس كلامه، نادى عليه حارس آخر جاء إلى المظلة، تواً، بدراجة هوائية، فتركنا وذهب إليه، سلّمه سلاحه على عجل وأخذ منه الدراجة، وانطلق صوب المستشفى، تاركاً إيانا غارقين في صدمة وحيرة لا قرار لهما. لم يأبه بنا الحارس الجديد، بل انشغل في خلع معطفه المطري الأسود، ونفض الماء الذي تسرّب إلى بزته العسكرية. عقب ربع ساعة من الصمت المطبق، المغلّف بالذهول، سألت السائق، الذي ظلّ مسنداً رأسه إلى مقود سيارته: - ماذا نفعل الآن؟ رفع رأسه بتثاقل وحدق إليّ بعينين يملأهما الشرود، وبعد لحظات انفرجت أساريره، وقال: - جاءتني فكرة. إنها الحل الوحيد لمأزقك. - مأزقي وحدي؟ - أنت المأمور وأنا سائق فقط. - حسناً! - نأخذ التابوت من المستشفى، ونبقى في المدينة حتى نهار غد. - وماذا سيفيدنا ذلك؟ - نذهب إلى المقبرة، وننتظر حتى يأتوا بجثة لدفنها. لا بد أن تكون للمدينة حصة من المعركة الحالية. - ثم ماذا؟ - في الليل نستخرج الجثة ونضعها في التابوت بدلاً من جثة صاحبك. تملكني الغضب فقلت له: - هل تعرف لو كان في إمكاني قتلك لوضعت جثتك أنت في التابوت؟ - لن تفعلها. أنت شاب مثقف لا ترتكب جريمة. - أليست سرقة جثة من قبرها جريمة؟ - بلى، لكنها أخف. ثم أنها ستُدفن مرةً ثانيةً، فلا يحاسبك الله في الآخرة. - وكيف سيكون موقفي إنْ أراد أهل سلمان رؤية الجثة؟ - قل لهم إنها مشوهة. ممزقة. ولا يصح أن تفتحوا الكفن. ترددت في قبول فكرة السائق الشيطانية، وأخذت أفكر في خيارات أخرى، فلم أعثر إلاّ على خيارين، أحلاهما مرّ، إما أن أعود إلى وحدتي العسكرية وأعترف لهم بما حدث، وإما أفرّ من الجيش نهائياً، وأترك خلفي لغزاً محيراً". فجأةً دوى انفجار قوي على مبعدة من الحديقة التي نجلس فيها، فاهتزت المصطبة تحتنا، وفرّت العصافير من بين الأشجار. توقفتُ عن الحكي، وأدرت جسدي إلى الخلف، وأرسلت بصري إلى الجهة التي بلغنا منها صوت الانفجار، رأيت سحابة دخان كثيفةً ترتفع في الضفة الثانية للنهر، فافترضت أن سيارةً مفخخةً انفجرت أمام مبنى حكومي أو حزبي. التفتُّ لا شعورياً إلى سلمان، وجدته هادئاً لا يتزحزح، مستغرقاً في التحديق إلى القلعة بعينين هائمتين. لكزته في خاصرته فلم يبدِ أي رد فعل، أمسكت بذراعه وهززتها، على مهل أولاً ثم بعنف، لكنه بدلاً من أن يلتفت إليَّ هوى على وجهه إلى الأرض، مثل دمية خفيفة دفعتها الريح، ثم اختفى فجأةً، مخلّفاً وراءه على العشب ورقةً صغيرةً يخاطبني فيها: "صديقي أكرم، ظننت أن الحرب انتهت، لكنّ ظني خاب. أنا ذاهب إلى مكاني، ولن أعود مرةً أخرى. قل لنورهان أن تخفف من حزنها، فالحياة مستمرة في تدفقها مثل تدفق ماركيز في رواياته، ولا يضيرها إن ذبلت نبتة أو جفّ جدول صغير فيها. وقل لها أيضاً إنني آسف لعدم تمكني من تحقيق حلمها الذي انتظرته طويلاً". أفقت من النوم فجراً وأنا لا أزال تحت تأثير الحلم. شعرت بصداع يضرب أسفل رأسي، مصحوباً بانقباض في القلب، أسىً على موت سلمان البدر مرةً أخرى. سكبت قليلاً من الماء في قدح وابتلعت حبة مسكّن، ورحت أفكر في محتوى الحلم، محاولاً تفكيك رموزه، لكني لم أفلح. لا أدري على وجه الضبط لِمَ ظهر لي سلمان، ولماذا لم يقدني إلى الحي الذي تسكن فيه نورهان ونحن نذرع القلعة؟ وكيف رويت له أنه تكلم وهو ميت؟ يا له من حلم عجيب! ألا يكفي أن لغز اختفاء جثته لا يزال يؤرقني؟ ربما حلمت به لأني وقفت، قبل أيام، عند القبر الذي يحمل اسمه خلال مشاركتي في دفن أحد أقاربي، أو لأني رأيت نورهان في السوق الكبير بعد ذلك بيومين، فظلّت صورتها عالقةً في ذهني. كانت تبدو متعبةً، مهملةً نفسها، وأنوثتها شبه ذابلة، تتسوق برفقة ابنتها الوحيدة زينب، الطالبة في كلية الآداب، وهي تغطي رأسها بحجاب كحلي، ولا تزال ترتدي السواد على مقتل زوجها مراد، الذي تزوجَته بعد انتهاء الحرب مباشرةً. كان زميلي في مدرسة المصلى الثانوية، أنا درست الآثار في الجامعة وأصبحت باحثاً في مديرية آثار كركوك، في حين التحق هو بكلية الشرطة، وتدرّج إلى رتبة عقيد، لكنه أصبح خارج الخدمة بعد الاحتلال، ثم تدبّر له عملاً مع شقيقه صائغ الذهب في سوق القيصرية، وقُتل في تفجير مقر الجبهة التركمانية. قالت لي نورهان يومها إنها لم تفارق القلعة، ولن تفارقها حتى الموت، فأجبتها: "أنت مثل أمي، تقول لو أعطوني قصراً في المنطقة الخضراء لما تركت حي بريادي". عبّرت لي نورهان في ذلك اللقاء، بأسلوب غير مباشر، عن ندمها على رفضها الزواج مني (كنت قد ارتكبت حماقةً بطلب يدها بعد مرور عام على مقتل سلمان، لكنها اعتذرت متعللةً بأنني صديق له)، وسألتني إن كنت سعيداً في زواجي أم لا، ففاجأتها بأنني ما زلت عازباً، وقلت لها بصراحة، لا تخلو من مبالغة مقصودة، أذهلَتها: "رفضك جعلني أتخلى عن فكرة الزواج، اكتفيت بعلاقات حرة مع نساء صادقتهن بعد تسرّحي من الجيش، نساء كثيرات، فتيات وأرامل ومطلقات، منحنني متعةً تفوق عشرات المرات ما يمكن أن تمنحني إياه امرأة واحدة". وكنت أعنيها هي بـ"امرأة واحدة"، لكنني لمتُ نفسي بعدما ودّعتها، أحسست بأنني استخدمت تعبيراً فظاً، وكذبت أيضاً. في الصباح ترددت عن الذهاب إلى بيتها لأنقل اليها رسالة سلمان، لكني حسمت الأمر مع نفسي بعد ساعتين ومضيت. كنت أعرف العنوان جيداً، فقد حضرتُ عزاء زوجها، إنها تسكن في بيت قريب من بيت أهلها، خلف كاتدرائية أم الأحزان. فتحت لي زينب الباب ودعتني إلى الدخول، جلستُ في الصالة الفسيحة نفسها التي قرأتُ فيها الفاتحة، ورحت أتطلع إلى المكتبة المصنوعة من الخشب المعاكس الأبيض، فلفتت انتباهي مجموعة من روايات ماركيز، التي تعمدت نورهان وضعها في الرف الأوسط بشكل عرضي لتكون غلفها ظاهرة للعيان. بدا لي الأمر طبيعياً، وخمّنت أن عدوى الولع بتلك الروايات انتقل إليها من سلمان، مذ ربطتها به علاقة غرامية عميقة. سألتُ زينب عما إذا كانت مولعةً بماركيز أيضاً، قالت: - أنا مغرمة به جداً، قرأته بتحريض من أمي، لكني أحببت روايته "الحب في زمن الكوليرا" أكثر من غيرها. وقد زاد من شغفي به رقة قلبه، فهو يرفض الموت لأبطاله، وإن اضطرّ لقتل أحدهم فإنه يبكيهم كما لو كانوا أصدقاء. - أنا قرأت له فقط "مئة عام من العزلة"، فدوّختني أحداثها وشخصياتها. هل يكره القتل إلى هذه الدرجة؟ تُرى ماذا كان ليفعل لو أنه عراقي؟ - ربما كان سينتحر. أفحمتني بلاغتها في الرد على سؤالي، وشعرت بأنه سؤال افتراضي سخيف، فظاهرة القتل المهولة عندنا ليس لها مثيل إلاّ في عصور التوحش. أجبتها، وفي داخلي إحساس بأن مقتل والدها ترك أثراً بالغاً في نفسها: - يُقال أن القط هو الحيوان الوحيد الذي يقتل من أجل القتل لذاته، وليس من أجل إشباع غريزة الجوع كما هي الحال عند الحيوانات الضارية التي تفتك بالفريسة لتأكلها، لكن بعض الناس في بلدنا صار، منذ بدء الاحتلال، ينافس هذا الحيوان في القتل من أجل القتل، وهو سلوك ليس غريباً على أخلاقنا وأعرافنا فقط، بل حتى على الطبيعة البشرية! تنهدت زينب وقالت: - قرأت أمس في موقع الكتروني اعترافاً لشاب يقول فيه: "قتلت أكثر من ألف شخص، ولم أحزن على أي واحد منهم، ولم أفكر ولو مرة واحدة أن عملي يضر أحداً! ولم أستغفر ربي على أي قطرة دم أسالتها بندقيتي ومسدسي". - هل سألتِ نفسكِ كيف تحوّل هذا الشاب سفاحاً يقتل ألف إنسان من دون أي تأنيب للضمير؟ قالت زينب وهي تذهب إلى المطبخ لتعدّ لي الشاي: - ما جدوى أن أسأل في زمن الخراب؟ بعد مرور بضع دقائق تأكدت من عدم وجود نورهان في البيت، لكني ظننت أنها ربما تكون عند إحدى جاراتها لأمر ما، فهي، كما أعرف، امرأة اجتماعية كثيرة الاختلاط بالنسوة المحيطات بها. وحين استبطأتها سألت عنها زينب، فقالت: - خرجت توّاً وستعود بعد قليل، اتصل بها شخص يُدعى سلمان، وطلب مقابلتها عند قبة "بغدة خاتون" (أميرة اذربيجانية عاشت قبل سبعة قرون، ومرضت في طريق عودتها من الحج، فمكثت في كركوك وتوفيت فيها، وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، فلم يستطع مرافقوها إرجاعها إلى بلادها، فدفنوها في القلعة). سألتها مستغرباً: - ألم تقل لك أي سلمان؟ - بلى، قالت اسمه سلمان البدر. صعقني ردّها، فتسمّرت في مكاني، وقبل أن تأتيني بالشاي عجّلت في مغادرة البيت لأهيم على وجهي، شاعراً برأسي يدور مثل لولب في الفضاء، كما لو أنه مفصول عن جسدي .
|