المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
31/07/2007 06:00 AM GMT
في كل مرة يعود السندباد إلى بغداد من رحلة جديدة لا تختلف كثيراً في تخومها الوجدية وعوالمها المرعبة عن رحلته السابقة وهي رحلة في عالم آفرو – آسيوي يضم اليونان وجزيرة سيلان وتعشعش فيه العقاعق والغربان . وفي كل مرة يحكي لنا عن وحوش مهلكة وكائنات غريبة مؤلفة من شرور مركبة مثل الأنزو والبازوزو وتيامات . ثم يعقب ذلك برواية عن إنفلات سحري من براثن الموت في آخر لحظة .
فعالم السندباد هو عالم الذعر والسحر والخوف والعشوائية ، عالم يقف الإنسان فيه في القلب المضطرب لهيروغليفية الموت والعدمية واللاجدوى حيث يواجه الطبيعة العارية في جانبها المدمر وطاقاتها اللاعقلانية المهلكة ، وحيث تفغر مملكة من القبور افواهاً نخرة تمتد من النجف ومشهد مروراً ببغداد ودمشق وطهران ووصولاً إلى ابي مرة وقد وضع عصا الترحال في ارض السواد وبدأ بجمع رهطه من أقصى أصقاع الغرب ألى أقصى مشارقه. ورحلة السندباد تذكرنا برحلات مشرقية اخرى كثيرة مثل الرحلة إلى ايمار ورحلة شولكي إلى نيبور وهانو الفينيقي إلى هنولولو واوديسوس إلى اقريطش والماجاي إلى بيت لحم وسلام الترجمان إلى سد يأجوج ومأجوج ، فضلاً عن رحلات عديدة مع السيف والبعير عبر جبل طارق وجبال طوروس وزاكروس وباب المندب وراس الرجاء الصالح ثم وصولاً إلى رحلة ابو حامد الاندلسي في بلاد كوكو و رحلة ابن بطوطة إلى بلاد توتو .
والمهم في هذه الرحلات الشرقية ليس الخلطة العجيبة المميزة للمطبخ العربي بين الواقع والخرافة او مشاهدات الرحالة التخيلية او الحقيقية ، بل الإتجاه – وهو مفهوم له أهمية خاصة ليس في الجغرافيا وحدها بل في السياسة وتاريخ الافكار ايضاً اذ تسبب بأنزال حكاما من عروش في أسيا وحولَ حكاما ذكوراً إلى أُناث في أفريقياا وأُرغم رجالاً آخرين على استبدال خيولهم بحمير في مناطق أخرى في العالم … والإتجاه غير ثابت عبر العصور بل نسبي يتغير من عصر إلى عصرٍ آخر . فقد كان الشرق في العصور السومرية القديمة هو الجنوب وكان الغرب هو الشمال . بمعنى ان التوجه جنوباً يعني التوجه إلى الأمل والخير والرفاهية ويعني عكس ذلك التوجه إلى الشمال حيث بحر الظلمات وهو الإتجاه عينه الذي اختاره كلكامش في رحلته الغربية .
وقد ورث المسلمون واليهود والاشراقيين هذه التقاليد فضَلَ الشرق جنوباً والغرب شمالاً . ولأن الأرواح ترتحل إلى الغرب في التقاليد الصوفية وفي الف ليلة وليلة، وكان الغرب شرقاً في الخارطة الروحية لحكيم مرسيه ، ارتحل إلى قاسيون حيث يقف الخضر عند حافة نبع تتدفق منه مياه الحياة – فالشرق هو اليمين والغرب هو اليسار وبينما يشغل اليمن اليمين ، تشغل القيروان اليسار حيث الشر والنكد وسوء الطالع وحيث سقط عاصم ابن الشيخ الهادي بن الخير اليماني في بئر سوداء لاماء فيها ولا كهرباء وإذا كان اليمين مكاناً تزدهر فيه الغابات وتسهر فيه البحيرات ويغني في ظلاله الوارفة السمك فاليسار صحراءُ قاحلة ماحلة ينتشر فيها الجراد وترعى فيها آبال الاجداد …. ، وفي يوم ساخن من ايام آب اللّهاب غادرت بغداد إلى قاسيون فطرتُ في طريق معاكس لذلك الذي سار فيه الشيخ الأحمر فبقيت في مقعدي ملصقاً عينايّ بشباك الطائرة العملاقة التي اخترتها بدلاً من سفينة السندباد فتجاوزت اراضي خضراء مكتظة بالغابات والبحيرات وعرائس البحر وكانت الطائرة تبتلع جزراً لاحصر لها وتخترق ممالك من الفضة المذهبة في مفازات الغيوم المتسابقة كالدخان تحت قدميّ. لم أدر أكانت خيولاً بلقاً أم فيلةً بيضاء أم دلافين تطير بأجنحة تمر عبر نافذتي أم بحاراً ومدناً عامرة جميلة التكوين … كان الوقت نهاراً بعد منتصف الليل عندما هبطت الطائرة الثلجية في ارض باردة تتمتع فيها الاشجار وطيور الماء ببركات الديموقراطية التي جلبها اليهم سمك السلمون والأثداء البيضاء وهي من كل بلاد الدنيا إلى القطب الشمالي أقرب حيث تجلس إلى يمينها روسيا وتستلقي إلى يسارها امرأة تكاد من البياض تضحى " منارة ممسى راهب متبتل " وبدلاً من " اهلاً بكم في وادي النيل والنخيل " قرأت فيها قطعة تقول " اهلاً بكم في بلد البحيرات الالف وملايين النقالات " والمقصود ليس نقالات الجرحى والموتى بل هواتف محمولة . تلكم هي بلاد فنلندة او " سومي " كما يسميها اهلها لم اجد في هذه البلاد تاريخاً أو ماضٍ حضاري تجثم على صدره الثيران المجنحة أو أُسود برؤوس آدمية – ولم اجد فيها اسماء مشايخ وجلجلوتيات صماء عمياء ترمي بثقل آدم وحواء على كتفي اسماء غريبة لها قعقعة عجلون بن جعلون وحشرجة سحيم عبد بني الحسحاس وخرخشة مرداس بن هماس بن شمعلة بن حندج بن العرندس اليربوعي وعجعجة القعقاع وهو يعاقر الخمرة في قصر تاخورنق مع المنخل اليشكري والزبرقان وحنظلة بن طنطل المعّجوني ، كما لم اجد طغاة وعملاء ومزابل … وحيثما سرت فيها اجد مقعداً يدعوني للجلوس عليه أو شجرة تخاطبني للسير إلى جوارها ورأيت فيها كلاباً تغني وخيولاً تتبادل الأنخاب أما الجمال الأنثوي فيها فكان اشبه بالحليب الابيض الذي يتدفق من أضرع أبقار سوداء في شرقنا العقيدي التي تكتر فيه الجثث مجهولة الهوية فاقدة الرؤوس أو الرؤوس معروفة الهوية فاقدة الأجسام … وهو جمال نادر يتعشق فيه الحسن بالسخاء والوداعة بالكرم فقلت لنفسي الجميل هنا كريم والقبيح هناك بخيل … وخطر ومهلك ومقزز ،عندئذٍ قفز في ذاكرتي السندباد البحري … فمرة رسا على ظهر حوت كاد يغرقه وأخرى كاد يلتهمه وحش احادي العين وثالثة امتطاه شيخ البحر ورابعة صار قاب قوسين أو ادنى من الموت عندما دفنه حيا امير سرنديب إلى جانب زوجته الميتة . وهو في كل رحلاته كان يتجه جنوباً أي بعد سومر وأكد وديلمون حيث تتحول نقاط الماء إلى لآلئ المحار في سجون الأعماق وقبل بابل واشور – ولم تكن في سومر قوانين عقوبية كانت بلادهم تغمرها المياه والاسماك والتمور من كل نوع وكان فيها عرائس بحرٍ ترقص وتستحم كثيراً. ترى هل كان الإتجاه في عهد سومر هو عين الإتجاه في عصرنا أم أن الارض انقلبت فصار اعلاها اسفلها واسفلها اعلاها … نعم لربما انقلبت الارض رأساً على عقب فقد كانت الكتابة في عهد سومر من الشمال إلى الجنوب وغيرت إتجاهها مرتين الاولى في عهد بابل واشور حيث كان إتجاهها من الغرب إلى الشرق والثانية في عهد بغداد ودمشق حيث اتخذت إتجاهها من الشرق إلى الغرب – بمعنى ان الإتجاه تغير من الشمال إلى الجنوب ومن ثم من اليسار إلى اليمين ثم من اليمين إلى اليسار تباعاً ولم تكن السماء في سومر وبدايات أكد قد التصقت بالأرض مثل العدسة اللاصقة بالقزحية او الذبابة الملحة في رموش الاطفال عند مطلع الشمس في فجر المزابل … ويقيناً فإن ما اصاب الإتجاه اصاب اللون فأصبح اللون الاخضر في ادراك السومرين ازرقاً في ادراك البابلين واسوداً في ادراك العرب الجاهليين . عندئذٍ دخلنا طقوس الصحراء حيث يشعل السندباد وابن بطوطة والشنفري ومعهم شرحبيل بين حسنة عطور منشم التميمية … وهُوَ عالم شحيح وقبيح وكالح وخطر وعشوائي … عالم توطنة الشياطين والوحوش فيه تعبد وتقدم لها القرابين – اما عالم الشمال الذي زرناه فهو عالم اليمن والبركة حيث عدن واليمن وسومر قديماً – ان هذا يفسر تحول الكتابة من الشمال إلى الجنوب – من اعلى إلى اسفل إلى إتجاه آخر من الغرب إلى الشرق – أي – من اليسار إلى اليمين ثم من الشرق إلى الغرب أي من الشرق إلى الغرب أي من اليمين إلى اليسار كما هو الحال في كتابتنا العربية – كيف يمكن لنا ان نحل اللغز فيكون لعدن في جنوبي العراق مكانها من الجنة – وكيف تحول الجميل الكريم قبيحاً بخيلاً واصبح النهر طيناً والغابة صحراء بدءاً من بابل وحتى بغداد حيث تزخر الضباع وتزدحم الحيات من كل نوع … ثمة تفسيران اما ان تكون الارض انقلبت فاصبح شمالها جنوبها وجنوبها شمالها أي اصبح غربها شرقاً وشرقها غرباً ويسارها يميناً ويمينها يساراً ام نحن انقلبنا فاصبح يسارنا يميناً ويميننا يساراً أي بكلمة اخرى نحن نسير على رؤوسنا ويسيرسكان الاقاليم الشمالية على ارجلهم .
كان هذا كله موضوع الحوار مع سوري عائد من بوسطن إلى موطنه في اللاذقية … وعندما اقتربنا من شمالي سورية سألته :
- ماترى في هذه الصحراء القاحلة الماحلة التي لاماء فيها ولاعمارة ولانبت من أي نوع ؟ فأجابني :
- عدنا ليس من مكان آخر بل من زمان آخر .
- نعم نحن في اقصى شمال العالم حيث تسخن القلوب وتخمد العواطف ويبخل القبيح وتأكل الصحراء مثل سعلوة اولادها كما فعل بعل بأطفال أرواد وأوغاريت منذ الفي سنة او اكثر .
- قل لي ما التاريخ اليوم ؟
- انه يوم من شعبان 1426
لقد التقيت في جنوب العالم حيث كنا " انانا " وكانت تمتطي اسداً لازوردياً … تطلعت اليها فوقي فطلبت منها ان تنزل قالت : اصعد انت واجلس خلفي واستروح جسدي وعطري وهوائي والتفع فصلات شعري هُن دفئي وهن ردائي وأن أردت طعاما فهذا رطب المشخاب
- وهل صعدت وأكلت رطبا؟ سألني صديقي السوري !
حطت الطائرة في مطار الشام كان الجو وعث والأفق غباروقفنا في طابور الأجانب محزونين فنحن سورية والعراق لكن العنف والأفلاس طردنا الى جنوب الدنيا في خارطتها الأكدية. كان المجتمع العربي ينتظرنا بالصيحات وسواق التاكسي يتناهبون حقائبنا فهذا يسحب يدي والآخر يحمل حقيبتي. أهلا وسهلا ببلدكم سورية الأخ عراقي؟ نزلت ساحة المرجة لأسمع من جديد بغداد بغداد ! نفر وننطلق...اخي تحجز السيارة؟
- تساءلت هل بغداد التي سأذهب اليها بغداد التي يتوسطها دجلة ...ومنها انطلق الى مدن بلادي التي يتوسطها هي الأخرى دجلة أو التي يتوسطها الفرات ، فأسير أو أطير أو ارمي نفسي في مياه النهر عند الغابة وأعوم قريبا من الجاموس المنتفخ مثل قرب الماء السوداء الواثق مثل طفل في اول ايام العيد حيث يلتم الأهل والأصدقاء وتذهب الأسر لزيارة موتاها ... ! نظرت الى صديقي السوري الذي رافقني الى ساحة المرجة...
- نعم الى بغداد ...نعم...ها تذكرت ...! سألتني عن عشتار هناك في الطائرة ونسيت ان ارد ! نعم ... صعدت خلفها فأعطتني قبله عطرة مثل برعم ثم غفوت وصحوت … فإذا بي مرة اخرى امام تيامات … وعينيها لاتجريان ماءاً كالعادة … بل دماً وطيناً وبينهما وحولهما عينان داميتان وعبوات ناسفة وسيارات مفخخة ورائحة نتنة لاتُطاق … وعبثا بحثت عن مردوخ، كان يقف في طابور الوقود في محطة الخلاني بينما تزني تيامات وقد فقدت جبروتها مع شيخ البحر وشيخ النمل وشيخ الجراد في رحلة السندباد التالثة... وكان السائق مابرح يصيح وبصوت مبحوح هذه المرة:
- بغداد ... بغداد... وللبيت انوصلك: اعظمية، كاظمية، سيدية ، مدينة، بياع... بغداد ...بغداد... طبعا هاي ان وصلنا سلامات! بغداد
كاتب عراقي مقيم في النرويج
|