فـي مدح منديل الجيب.. كـلـمـة هـيـرتـا مـولـيـر فـي أسـتـوكـهـولــم |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات "هل عندك منديل جيب؟"، تسأل أمي كل صباح عند باب الدار، قبل أن أخرج إلى الشارع. ولأنني لم أملك منديلاً، كنت أذهب مرة أخرى إلى الغرفة، لآخذ واحدا منها. لم يكن عندي منديل جيب كل صباح، لأنني كل صباح إنتظرت السؤال. منديل الجيب كان الدليل على أن أمي تحميني كل صباح. في الساعات والأمور اللاحقة من اليوم أكون معتمدا على نفسي. السؤال: هل عندك منديل جيب تعبيرا عن رقة غير مباشرة. الرقة المباشرة ستسبب الإحراج، لأن ذلك لم يكن موجوداً في صفوف الفلاحين. الحب تنكر على شكل سؤال. فقط بهذا الشكل يُقال الحب بجفاف على شكل صوت آمر مثل مسكات يد تعمل في الحقل. غلاظة الصوت، هي تأكيد على الرقة. كل صباح كنت في المرة الأولى أقف عند باب الدار بلا منديل جيب وفي المرة الثانية بمنديل جيب. فقط بعد ذلك أخرج إلى الشارع، كما لو كانت تصحبني الأم مع منديل الجيب". بتلك الكلمات بدأت صاحبة النوبل لهذا العام الروائية الألمانية الرومانية الأصل كلمتها التي القتها في الأكاديمية السويدية في أستكهولم في يوم الإثنين المصادف 7 ديسمبر الماضي. الكلمة التي بدت بمثابة نشيد يتغنى بمنديل الجيب الصغير، بينت كيف أن قطعة القماش الصغيرة تلك، التي ربما لا تثير الإهتمام بالنسبة للعديدين، كيف أنها يمكن أن تأخذ معنى ابعد من الدور التقليدي الذي تلعبه في حياة الفرد. الطريقة التي ألقت بها هيرتا مولير كلمتها، واللغة الرقيقة القريبة من الشعر بكل ما حوت عليه من تحميلات ابعد من معناها الظاهري، كل ذلك أكد من جديد القدرة التي تملكها الكاتبة الألمانية الرومانية الأصل بوزن كل كلمة تقولها، كل شيء في كلماتها كان محسوباً، سواء فيما تعلق بالموضوع، موضوع منديل الجيب الصغير، أم بتذكر بعض المواقف التي إرتبطت بالمنديل الصغير ذلك، سواء بإختيار الكلمات التي تعبر عن قوة شعرية، أو بالنتائج التي قادها إمتلاك المنديل من عدمه. وفي طريقة تعاملها مع اللغة بدت صاحبة "أرجوحة التنفس" كأنها إستعارت رقة الأم معها. هي الأخرى بدت لغتها خشنة، فضة، فاضحة، صادمة وفي أكثر من مناسبة، لكنها في كل ذلك، مثلها مثل فلاحين إقليم "بنات" الألماني في رومانيا، عبرت عن علاقتها الرقيقة في الكلمات التي إختارتها لوصف "الساعات والأمور اللاحقة من اليوم"، بل كأنها مثلهم تقبض بإحكام على عدتها اللغوية، مثل "مسكات يد تعمل في الحقل". وعن طريق ذلك تروي لنا هيرتا مولير القصة تلو القصة، كل تلك القصة، التي تبدو لمن يسمعها في البداية أن لا علاقة لها بمنديل الجيب الصغير، لكنها لحظات قليلة وسيكتشف المرء العلاقة الحميمة بين المنديل وبين الحكاية التي تُروى. وبدلا من أن يسمع المرء في حفل تسليم النوبل منها كلمة "نارية" تتحدث عن تجربتها الروائية وبشكل مباشر ككاتبة، صورت لنا قصة منديل الجيب الصغير الذي تحول إلى تجربة أدبية خاصة بها. أمها كانت تذكرها كل صباح عند باب الدار وقبل أن تخرج إلى المدرسة، ولاحقاً إلى العمل، بأخذ قطعة القماش الأهم في الحياة معها، قطعة القماش التي وجدت نفسها في كلمة النوبل في أشكال متعددة: "فَرشة للجلوس، غطاء رأس، أرواح ميتة، دعامة للذاكرة، كفن للموتى، رسالة حب وطاولة كتابة متنقلة". منديل الجيب، القطعة التي تتحول على يد هيرتا مولير إلى منديل سحري، والتي سبق لها وأن لعبت دوراً درامياً في قراءاتها الشعرية في عام 2001 خلال الأيام الأدبية التي تنظمها مدينة توبينغين كل عامين، لم تفقد بريقها بعد كل هذه السنوات، على العكس، كان إختيار صاحبة النوبل لها لكي تكون بطلة كلمة النوبل موفقاً، لأن في وصف هذه القطعة الصغيرة، في التغني بها وبهذه الصورة التراجيدية تكمن تجربتها ككاتبة عاشت تحت قبضة نظام ديكتاوري لا يعرف الرحمة. أنه الشعور اليومي "المهدد" بالغربة هذا الذي يجعل كاتبة في وضعها ترى الأشياء بعين أخرى، الشعور بالإنسحاق، بالنوستالجيا، كأن المرء سيودع للأبد كل ما وقعت عليه عيناه قبل لحظات. من عاش تجربة السجن والقمع يعرف ذلك جيداً، يعرف كيف أن السجناء يحولون كل الأشياء الصغيرة التي يحصلون عليها إلى سعادات، يمنحونها روحاً أخرى غير تلك التي أريد لها أن تكون. أنها أيضاً اللحظة التي يشعر بها المرء، بأنه إن لم يمت، أو يُسجن، فأنه سيرحل بعيداً ذات يوم، ومن يشعر بالفقدان لابد له من أن يتعلق بكل شيء مهما كان صغره، المهم، أنه يمنحه الدليل على أنه مازال يعيش. المُطارد يُسجل كل ما تقع عليه عيناه، كل ما تركه قبل لحظات وراءه. إنتباهته المضطربة تحول المشهد إلى عالم كامل أمامه، تحول الأشياء الصغيرة المحيطة به إلى حلفاء، إلى عزاء، إلى إشارة، إلى إيقونة مقدسة أو إلى سلاح. أنسنة الأشياء وجعلها خاصة لمن يتأملها، هي في الحقيقة التجربة التي إعتمد عليها الرومانتيكيون، لكنها تتحول على يد هيرتا مولير إلى عامل ثانوي شعري براق يفضح العنف الذي سيطر على الحياة العامة في القرن الماضي. أنها قصة تلامس نياط القلب تلك التي ترويها هيرتا مولير عن منديل الجيب، بهذا الشكل ذكرتنا من جديد بتحقيقات رجال الأمن الروماني "سيكوريتاته" في المصنع الذي عملت به لسنوات كمترجمة في مدينتها تامساور، ذكرتنا بالوشاية وسياسة العزل، برجفة الخوف المميت وبلحظات الوداع. ذكرتنا أيضاً بجدها الخائب الذي أرسل ولده (اباها) للدراسة، وليس لكي يصبح نازياً ويتطوع في الجيش النازي برغبته ليذهب يقاتل على خطوط الجبهة، ذكرتنا بالأب وهو يتزوج، الزوجة تلبس ثوب العرس، وهو ظل نازياً حتى في ساعة زواجه، مصراً على أخذ صورة العرس بالبدلة النازية. ذكرتنا بالأم، التي وجدت في منديل الجيب الصغير ليس التعبير عن حبها للبنت وحسب، بل وجدت فيها رمزاً للمقاومة، رمزاً تعيد عن طريقه كرامتها المهدورة: "قبل مغادرتي رومانيا بوقت قصير إعتقلت أمي من قبل شرطة القرية في الساعات الأولى من الصباح. كانت وصلت الباب عندما خطر على بالها السؤال: هل عندك منديل جيب؟ لم يكن عندها. رغم أن الشرطي كان نافد الصبر، دخلت أمي البيت من جديد وأخذت منديلاً. في غرفة التوقيف كان الشرطي يزعق. فهمها للغة الرومانية لم يكن كافياً لكي تفهم معنى صراخه. بعد ذلك غادر الشرطي المكتب، وأغلق الباب من الخارج. طوال اليوم جلست أمي محبوسة هناك. في الساعات الأولى جلست عند طاولته وهي تبكي. ثم لتنهض بعد ذلك وتبدأ بالتحرك ذهاباً وإياباً في الغرفة، ولتبدأ بمسح الطاولة بمنديل جيبها الذي كان مبللاً بالدموع. بعد ذلك أخذت سطل ماء كان موجوداً في الزاوية والمنشفة المعلقة على الحائط وبدأت بمسح الأرض. كم شعرت بالرعب عندما روت لي ذلك. قلت لها، كيف يمكنك أن تنظفي المكتب؟ فقالت لي، دون أن تخجل، لقد بحثت عن عمل لنفسي، لكي ينقضي الوقت. والمكتب كان قذراً لدرجة كبيرة. لحسن الحظ حملت معي من البيت منديل جيب رجاليا كبيرا نسبياً. الآن فقط فهمت، بأنها وعن طريق إذلال النفس الطوعي أعادت لنفسها كرامتها المهدورة". في كلمتها تلك، ذكرتنا هيرتا مولير أيضاً، كيف أن الكتابة بالنسبة لها "بدأت في الصمت". "في زمن الديكتاتور تحدثت كثيراً، غالباً لأنني قررت ألا أنفخ بالبوق"، كتبت هيرتا مولير، (بإشارة منها إلى جملة جدها الحكيمة وهو يوبخ إبنه الذي أصبح نازياً "عندما ترفرف الرايات، ينزلق العقل إلى البوق")، "لكن الكتابة بدأت هناك على سلم المصنع"، عندما طُردت من مكتب عملها، وجلست صامتة تفكر مع نفسها، أو كما تقول، "حيث أردت أن أصنع من نفسي أكثر مما يستطيع المرء قوله". من يريد سيجد في كلمة هيرتا مولير صرخة صامتة لكل أولئك الذين عاشوا رعب الديكتاتورية، سجناء أو منفيين، قتلى أو معوقين، "كم أرغب في أن أستطيع قول جملة، لكل أولئك، الذين سُلبت كرامتهم في أزمان الديكتاتوريات، في كل الأيام، حتى اليوم، وحتى لو كانت كلمة واحدة. حتى لو كان السؤال: هل عندكم منديل جيب؟ لأن هيرتا مولير التي خبرت النظام الديكتاتوري تستطيع معرفة ذلك من منفاها البرليني، بأن السؤال عن منديل الجيب لا يعني منديل الجيب بعينه، بل يعني الوحدة الإضطرارية للإنسان، حتى وهو يعيش "حراً" في منفاه! |