المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
24/12/2009 06:00 AM GMT
" كيف نجح كافكا في تحويل ـ المكتب ـ هذه المادة الرمادية المضادة للشعر الى روايات ساحرة؟". ـ ميلان كونديرا. " ليس المكتب مؤسسة غبية: إنه أقرب الى العجيب منه الى الغباء". ـ كافكا، رسالة الى ميلينا. تحاول المؤسسة السلطوية منذ قرون الاقتراب من وظيفة المؤسسة الدينية(وليس الدين نفسه)من خلال الرموز المكرسة والديكور والقانون والأفراد والعمل والقيمة والنتائج والقدرة ، والداخل الى المؤسسة السياسية، سواء مؤسسة السلطة الحاكمة أو حتى مؤسسة الدولة الملحقة بها يخرج بالانطباع نفسه والقدرية نفسها حين يخرج من مؤسسة دينية، لأن الآلية واحدة في الحالتين: الخضوع والتحكم والقوة وجبروت العدالة: والعدالة حين تتضحم بهذا الشكل تصبح شكلا وجوهرا مؤسسة لابشرية ومستألِهة. وبما أننا نتحدث حتى الآن عن الدخول الى المؤسستين والشعور والنتائج المصاحبة، يجدر ان نلفت النظر( على غرار المؤسسة نفسها حين تلفت النظر لرموزها لأن الخطاب نفسه سلطة لالفات النظر) الى ان الداخل إما أن يكون متهما بخطيئة ما( سياسية أو دينية وفي أحيان كثيرة يتم الدمج بينهما) أو لتبرئة الذمة من خطيئة ، وليس من الضروري أن يكون ملماً بها في كل الأحوال، لأن هذا الالمام لا ينفعه بشيء بل قد يكوم مضراً لأن السلطة تملك غول الأرشيف وهو يعرف عن الفرد أكثر مما يعرف عن نفسه، وقد يكون الداخل لإحدى المؤسستين يطلب المغفرة أو الأمان: كلاهما يوفران هذا النوع من الخدمات ويُشترط في طالب الشيء أو العون اخلاصا وولاءً وتعهداً: قد يكون في حالة المؤسسة السياسية على صورة خطاب أو طلب خطي أو بصيغة مقابلة وفي الحالة الثانية بصيغة خطاب ندامة شفاهي أو على صورة اعتراف: وفي احيان كثيرة تكون سماء المؤسسات كافة مغطاة برموز سلطوية تملأ السقوف والحيطان ولذلك فحتى طلبات المغفرة والعون والشفاء والأمل تمر تحت أبصار رموز بشرية أرضية وقد تتضمن الصلاة نفسها أملاً في الخلاص من المؤسسة السياسية أو من غيرها. الدور الذي يقوم به رجل المؤسسة أو المسؤول هو في الأصل دور"رجل الدين": كلاهما وكيل قوة، واحدة كبرى في السماء، وأخرى على الأرض، مع ان السماء افق مفتوح للجميع، وغالبا ما يتم المزج بين القوتين في برنامج واحد ورموز واحدة كأن يُنسب الزعيم الى سلالة نبوية في العرق والدم واذا لم يكن الأمر كذلك بالاصطفاء واذا لم يكن الأمر كذلك فإنه القدر أو المشيئة الربانية أو التاريخ... والخ: لا عشوائية في حضور الرمز الأعلى وسلطته بل العشوائية في وجود هذا الكم المتراكم من الناس والأحلام والمدن والصخب المزعج عن الطعام والمأوى والحرية. الشيء الوحيد الذي لم يقم به زعيم المؤسسة السياسية في كل الأزمنة هو التواري عن الأنظار والتخفي والاحتجاب، لكن تحت اغواء الكاميرات صار وجهه مكشوفا أكثر، لكنه ليس أي وجه، لأن هذا الوجه الظاهر هو في الأصل يعكس السلطة المحتجبة خلف قناع أو أقنعة ـ خطاب، مؤسسة، قوانين، أجهزة، رموز ـ ويحاول الرمز التشبه بالالهي الحاضر في كل مكان، لأن زعيم المؤسسة يملك السلطة المطلقة في مصائر البشر، وحين يدمج سلطته أو مؤسسته بالمؤسسة الدينية في العلن أو في السر فهو لا يفعل أكثر من تعميق الحصار على مخلوقاته المزعجة. الاقبال اليوم على العمل في اطار مؤسسة أو حزب أو منظمة يشكل شعورا طاغيا لدى الغالبية بعد أن أُنتزع أو أُقتطع من العراقي الجزء الجوهري من مشاعره الفردية وبُتر عالمه الشخصي الشفاف والحميمي وبعد أن صُوّر له أن هذه الفردية والعزلة الانسانية الداخلية والاستقلالية الذاتية ليست على وفاق مع مناخ المنظمة العام أو السلطة، بل أبعد من ذلك تم تصوير عزلته عن الاندماج في المؤسسة والجموع على أنها ضرب من السلوك اللانساني واللاسوي، لأن السوية في الاندماج لا في التفرد، الاندماج صهر والغاء للفردية، والمؤسسة ذوبان في الكل أو التلاشي: وقد عمقت مشاعر الخطر اليوم من الهروب الى المؤسسة والحزب والمنظمة والقبيلة، وكل خطر داهم أو وشيك يتطلب ملاذاً عاما في حال غياب القانون لأن الذات العارية لا تستطيع أن تقف وحيدة في وجه العاصفة: بمعنى أدق أُعيد العراقي بالتدريج الى مرحلة طفولية من تاريخ الانسان حيث حلّت المنظمة اليوم محل الكهف مع فارق وحيد هو مشاعر ذنب عاتية لم يعرفها الانسان الأول. بعد الاحتلال برزت ظاهرة البحث عن وثائق في سجلات الأجهزة الأمنية المحترقة يحاول العراقي من خلالها العثور على قرار بكونه مجرما أو أخا لمجرم (حسب التوصيف السائد يومذاك) او لمحكوم بالاعدام أو في الأقل كان سجينا، أي كل ما يثبت كونه (مذنبا) في النظام القديم، ومن لا يعثر على مثل هذه الوثيقة عليه أن يبحث عن شهود تؤكد انه كان مذنباً، بل ان هذا الذنب الذي كان يرفضه وينكره هو ذنب حقيقي وانه هو نفسه ارتكبه عن عمد وقصد في حكاية طويلة ملحمية تظهر اليوم لأول مرة صدقا أم اختلاقا، وان من واجب المؤسسة الجديدة( عكس المؤسسة القديمة) الاعتراف له بذلك الذنب الذي صار يطالب به بعد ان كان ينكره وقد اختلفت تسميته وطبيعته وغرضه ومضمونه وأخلاقيته. صار العراقي يتنقل بين سلطتين، واحدة ينفي ذنوبه أمامها، وأخرى يؤكدها، اي ان حياته صارت سفراً بين الذنوب التي تُفسّر في كل مرحلة بصورة جديدة: ماذا يعني بعد ذلك الحديث عن التوازن والعقلانية والقانون؟ صار الأصل هو البحث عن (الذنب) السياسي لا البراءة كما في السابق، فلا ذنب أو براءة خالصة بذاتها بل في التأويل وخطاب السلطة واختلاف المواقع: أي استدعاء للعراقي في كل الأزمنة القمعية من قبل مؤسسة سلطوية يجعله يقوم، خلال الطريق، بمسح عام للذنوب الموجودة فيه ويقوم بمراجعة تفاصيل حياته العادية بل وأحلامه ونكاته ونزواته المرحة. في حال رفض المؤسسة الجديدة الاعتراف له بهذا الفعل أو الذنب القديم، فهي ترفض الاعتراف به هو، وهذا اقرار غريب على أن المواطنة في الحالتين وفي المرحلتين لا تبنى على أساس القانون والحق الطبيعي في الأرض والشراكة في الحرية والثروة والعدالة بل على أساس يختلف في كل مرحلة: المؤسسة القديمة تطالب المواطن الاعتراف بذنبه بحقها حتى لو كان على شكل نوايا مبيتة، ويعلن عريه، اي يكشف عالمه الداخلي، لا ذنبها بحقه لأن المؤسسة لا تخطئ، والمؤسسة الجديدة تطالبه اثبات ان هذا الذنب القديم أو الفعل القديم بحق المؤسسة القديمة كان حقيقيا، لذلك يقضي كثيرون منذ سنوات أيامهم في البحث عن وثائق عن قرارات اعدام مباشرة بحقهم أو حق ذويهم أو قرارت سجن أو حتى سجلات تُهم، فلم تعد البراءة من هذه التهم هي الهدف(كما في الحالة الأولى) بل اثبات التورط السياسي أو غيره في العمل الذي كان يسمى ذنبا أو جريمة أو خيانة والخ وهلم جرا. كمثال على سلطة الأرشيف( وهي تعكس آلية التوثيق السلطوي الوجه المكتوب للسرداب) أعطيتُ وكالة رسمية مصدقة للحصول على وثيقة الأحوال المدنية لكن الوكيل فوجئ من قبل مسؤول السجل المدني حين قال: ( ان "الموما اليه" قد أُعدم كما هو مثبت في سجل الأحوال المدنية منذ الثمانينات) اي انني ميت في الأرشيف وحياتي لا معنى لها أمام صلابة السجل وعكس كل منطق على الحياة أن تثبت وجودها أمام الأرشيف أو سلطة الموت لأن الأرشيف أخضر كالايديولوجيا والحياة رمادية، بل على الحياة أن تثبت نفسها أمام الموت حتى لو كان موتا ملفقا في سجل، لأن الموت الملفق القادم من سلطة أهم من حياة حقيقيه خارجها، فليست قيمة الحياة تنبع من ذاتها بل من "استعمالها" السلطوي، وحين لا تكون كذلك تُلغى أو تُقتل وتُحذف من السجل اذا تعذر فعل ذلك في الواقع: ليس المهم طريقة الموت وشكله سواء كان حقيقيا أم رمزيا، الأهم هو توثيق الموت في الأرشيف لأن كل الكائنات والأشياء تزول الا هذا لأنه ذاكرة السلطة وهذه تتناسل عبر الأزمنة من خلال ذاكرة الضحايا: اي تستمر في التشويه والتشوّه. يتوجب عليّ، أولا، أن أثبت كوني حيّا، وبعد ذلك كوني مذنباً بحق السلطة، ثانياً، ومن ثم أحصل على الوثيقة، ثالثا، فتركت كل شيء، لأن الدخول في هذا النفق يعني المرور بكل الدهاليز والمكاتب البيروقراطية في أردأ نموذج، وهذا يعني بكلمة أخرى أمام رواية بوليسية لا أول لها ولا آخر:" ليس المكتب مؤسسة غبية: إنه أقرب الى العجيب منه الى الغباء". يعمل البعض اليوم عبر البحث في الأرشيفات عن وثائق لاثبات ذنب قديم، في حين يسعى آخرون كي لا يكون في سجلاتهم ما يورطهم بذنب جديد حين تنقلب الامور، غدا: اي ان العراقي في هذه المراحل المتعاقبة لم يعد يهتم بالحياة والسعادة والحرية والأمل والحداثة والتنمية بل للهروب من ذنب في مرحلة أو لاثبات ان هذا( الذنب) حقيقي في مرحلة ثانية، ولعدم التورط في ذنب التعامل مع المؤسسة اليوم في مرحلة ثالثة: صراع الأرشيف يعكس عمق الصراع في البنى الحاكمة والبنى الخاضعة وكيف يقوم الأرشيف السلطوي، في الحكم وبعده، وفي دورة جديدة، بدور حارس المؤسسة من الخطر والفوضى والنسيان، وبتعبير جاك ديدريدا: (يقوم بحراسة السلطة، والارشيف هو ذاكرة السلطة سواء كانت قمعية أم شمولية) وتقوم سلطة الارشيف بدور ملائكة السماء لأن الملائكة على الكتفين تؤرشف كل شيء ومعهم على الأرض رجال الأمن في تسجيل افعال الناس للعقاب أو الثواب هنا وهناك. انضمت الي هؤلاء المؤرشفين سلالة جديدة متربصة لكل ما هو عادي وعابر وشخصي وحميمي وعائلي وفردي حتى صار الكل يتربص بالكل ليس في عقائده الكبرى بل في نواياه وما لم يقم به أو ما ينوي أو يحتمل انه قام به أو ما يحلم ويتوهم انه قام به، بمعنى انتهاك كل الحياة الخاصة في سلوك من التشفي والتلذذ والاغتصاب المرضي العلني ببلادة اجرامية سافرة منقولة، حرفيا، من عوالم السلطة الشمولية في تمزيق لا أخلاقي بشع لكل ما يدخل في الفضاء الخصوصي: صار الكائن مؤسسة متنقلة وزنزانة لنفسه ولغيره وهذه من مساوئ القمع في تشويه الانسان ومسخه دون أن يدري وتحويله الى ذئب رمادي شرس يعيش في وجار جوّال: إن ميثولوجيا الأرشيف تشكل عالماً غامضاً ولكنه فعال لأننا لا نرى من يكتب وعلاقة ذلك بالمزاج والمبادئ ولا نعرف شكله ولا ندري كيف تصبح هذه السلطة الشبحية قوة مرئية ومتنفذة، بل كيف تتغلغل معاييره في نفوس ضحاياه ويؤسسون علاقاتهم وأحكامهم مع بعضهم بناءً عليها وكيف تتحول هذه السلطة الشبحية الميثولوجية اللامرئية الى المرئي الوحيد في عالم كل شيء فيه يتلاشى، كالدخان؟ التهديد العراقي الشائع بين الأفراد بالأمس واليوم يقوم على عبارة صارت بداهة مثل كل الأشياء المنفرة من التكرار: (سجلك عندي ـ أو: وصلتني معلوماتك... الخ الهراء) وهي تعابير لا توجد في ثقافات أخرى تقدس الحياة الفردية على مستوى القوانين والأعراف والأخلاق، ويشمل هذا السجل الأسطوري كل شيء بما في ذلك حميميات الفرد وخصوصياته التي تحوَّل الى جرائم من خلال سلطة غامضة مرتجلة مشوهة تفسّر وتحكم على هواها: تحوَّل الفرد الى منظمة أمنية ارشيفية بوليسية تعيد انتاج الوظيفة السابقة في استبدال وظيفي مقلوب للأدوار، كما لو أن حياة الانسان ليست مهمة بذاتها لأنه تم تحنيطها في سجل مرة واحدة الى الأبد: هذه واحدة من أشكال ظهور السلطة في نفوس كائنات محطمة متماهية معها بالدور والوظيفة مما يلغي مركزية السلطة الأصلية سواء كانت موجودة أم غائبة التي صارت تعمل بطريقة آلية في أعماق الكائن المتحول الى منظمة عقابية متجولة: صارت الحياة رمادية وحلَّ الأرشيف الأخضر بدل الايديولوجيا والسجن والعقاب وتحولت السجلات الى معسكرات اعتقال ولم يعد العراقي اليوم بحاجة الى سلطة لأنه صار سلطة مصغرة متجولة بكل معاني السلطة من مشروع ومؤسسات عقابية مادية أو معنوية وقوانين وأحكام... والخ. لكن (الذنب) الواضح أو الخفي لا يعمل في الذات بالطريقة نفسها، وكل فرد يفسر ذنوبه الحقيقية أو الوهمية على طريقته الخاصة ويجد لها الحلول الحقيقية أو الوهمية على طريقته، وقد لا تكون الحلول سوى تبريرات لذنب حقيقي أو متوهم وعلى سبيل المثال: عبد الستار زهدي في رواية( اللاسؤال واللاجواب) لفؤاد التكرلي لا يفسر ذنبه بقتل اللص والاستيلاء على سرقته من الذهب في نوبة عمله كسائق في الليل ومعلم في النهار ـ أيام الحصار ـ في بغداد حتى بعد القبض على جاره وشريكه في النهار في السيارة بتهمة القتل ولكنه يبرره، وكل ما يفعله مساعدة جاره على الخروج من المحنة والموت، وهو اذ يقيم تسوية مع نفسه قائمة على أن الثروة تلغي الضمير في زمن ضنك، فلأنه لا يفعل أكثر من تحويل الذنب في طريق غير طريق الاخلاق، ولأن ذنب عبد الستار، كما يراه، هو نتائج لذنب أكبر: ذنب السلطة أو ذنب العالم الذي يحاصره، ومن يدري ربما اشباه عبد الستار زهدي يقفون اليوم في طوابير لاثبات كونهم قتلة في الزمن السابق من أجل الحصول لا على البراءة من القتل بل لاثبات كونهم قتلة خارج المؤسسة السابقة: الصمت في الزمن الماضي عن جرم أو ذنب قد يكون مفيدا في التوظيف المعياري الجديد. أما الشخص الروائي في رواية(سواقي القلوب) لأنعام كجه جي القادم من منفاه الباريسي بعد غربة طويلة من الوطن بتهمة سياسية، فلقد عاد الى الوطن أو ما يسمى كذلك مع جثة ساري( أو سارة المتحولة الى ذكر بعد عملية جراحية وقتلها الغامض في باريس) وهو اذ يعود، إنما يوهم نفسه ان هذه العودة قد تشفع له مع جثة: ليست حياته بنفسها كافية لتبرير الدخول الى الوطن لأنه في الأرشيف الرسمي( مذنب) بل جثة أخرى هي التي تبرر معنى العيش، وبمعنى آخر: ان جثة سارة هي بطاقة الدخول الى الوطن وليست هوية الانسان الطبيعية والقانونية، وحتى هذه العودة المصبوغة بشهامة ما قد لا تكون كافية لتبرير( ذنب) العائد من منفاه بل قد تكون ذنبا اضافيا أن يعود مع جثة ولم يتحول هو نفسه الى جثة في حروب لم يشارك فيها أو يطلق رصاصة واحدة على الضباب. هو يقف في نقطة حدودية مع تابوت في قلب ظهيرة ساخنة، يتساءل عن امكانية ان تصل رسالة عاجلة من المركز وربما صورته أمامهم في السجلات عن كونه كان هاربا( مذنبا) أم سيمر الى أرض الوطن؟ هو لا يعرف ولا نحن نعرف هل اكتشفوا ذنبه في المكتب الحدودي أم لا أم في غيره، لكننا نحن الذين نعرف ذنبه ونتواطأ معه لأنه صلة مشتركة بيننا تضاعف من قوة الهوية( المحن تخلق هويات مشتركة كما قيل)لا نملك الا ان نقف معه متضامنين في القلق والانتظار ونقاسمه الهواجس نفسها وهذا يدل على أن مشاعر الذنب صارت تضاعف من روابط الهوية كالفرح والتعاسة والمأتم وكرة القدم، لأن الشخص الروائي والكاتب والقارئ وغيرهم يعيشون على هاجس هذا الشعور وتوقع الانكشاف، وحين تكف المنظمة بالمعنى العام عن كونها خالقة لهذه المشاعر تفقد سطوتها وهيبتها، وهذه مفارقة غريبة، قد يكون سببها الظلم الطويل: فمن يزور الامام الذي لا يشوّر؟ بقليل من الخيال نستطيع أن نتصور أن هذا الشخص الروائي المُنتظِر عند القبض عليه ووضع القيود في يديه سوف لن يقاوم بل سوف يستسلم للمصير المتوقع لأن هذا المصير زُرع فيه، مسبقاً: إنه بكلام أدق لا يستسلم لمصير متوقع، ولكنه يمضي في مصير مرسوم وكان يتخيل ان مرافقته لتابوت قد يلغي الذنب( المنفى) بحق المؤسسة ولا يعرف أن مشاعر المؤسسة هنا وهناك لا توجد في أعماقها لأنها سلطة مسطحة بل توجد في أسنانها لأنها سلطة ذئب وعكس ذلك ستسمى، كما في التقليد العامي والأمثال: "سلطة أبو الخِرَق ـ الأسمال" وفي هذا كل الرعب والتناقض والخيال والألم والغرابة. أما ثائر مجدول مهدي في رواية ابراهيم حسيب الغالبي(اعترافات كائن) فهو غير مستعد لكي يكون صاحب سلطة أسمال، بل تماهى مع النظام المنتج له، ولم يكن مشغولا في الفوضى والحرب والاحتلال بالبحث عن وثيقة تثبت كونه (مذنبا) وضحية وسجينا ومطاردا لأنه غير معني بالبراءة بل بالشرف ولأن هذه المشاعر1:صارت أضخم منه 2: لأنه قلب الدور الى جلاد 3: ولأن النظام والدولة والمجتمع الذي يتداعى لا علاقة له به بل لا علاقة له بنفسه لأنه هو يتداعى مع الجميع، لذلك قرر أن يأخذ الامور على عاتقه ويعمل، بناء على قوانين خاصة به من خلال مسرح دموي، محاكمة للزوجة المتواطئة مع مسؤول من أجل اطلاق سراحه من السجن لكننا لا نستطيع أن نجزم أن اشباهه لم يقوموا بهذا البحث لاثبات ذنوب سابقة، رغم ان محاكمة( اعترافات كائن) هي أكثر المحاكم شيوعاً في السنوات الأخيرة حين تحول الضحايا القدامى الى جلادين وقضاة في محاكم مرتجلة ـ ترى ماذا كان سيفعل بلا ذلك الحل؟ بل اين هو الآن، خارج النص، بعد الحل الفردي؟ هل سيخرج علينا في نص آخر؟ في منظمة؟ عبد الستار زهدي في رواية( اللاسؤال واللاجواب) غير معني بكل هذه الأسئلة لأنه عاش كحكاية في زمن الحصار المركّب، عاش في زمن اللاسؤال واللاجواب، زمن أصم، يوم كانت المنظمة متماسكة من الخارج، والنظام العام قائما، والحدود الخارجية واضحة، والمدن والأشياء والمقاييس تبدو في الظاهر واضحة المعالم، لذلك لم يخطر بباله أن يحاكم أحدا حتى ولو نفسه على جريمة قتل واضحة للص مصادفةً ، لأن عبد الستار زهدي لم يتعفن ويتفسخ تماما ليشهد الإنهيار، فدخل( للمرة الأخيرة في عالمه ولم يخرج منه أبدا) اي انه ثائر مجدول في ساعاته الأخيرة، لأن عبد الستار هرب الى الأعماق الداخلية التي لن يعثر عليه أحد فيها أبدا لتعذر الملاذ ولغياب الفوضى، واذا كان في قلب تماسك المنظمة قد قتل لصاً صغيراً، فماذا سيفعل مع الكبار في ساعات التداعي؟ وماذا مع المُنتظر في نقطة حدودية؟ هل ستشفع له العودة مع جثة وتخفض من ذنبه بحق المؤسسة؟ ماذا نتوقع منه سواء عاد الى منفى ثانية أو خرج من سجن أن يفعل في قلب الفوضى؟ حتى في هذه الحالات الثلاث نجد ان الفعل الموجود المشترك مؤسس على القتل أو الموت: قتل عبد الستار زهدي في رواية (اللاسؤال واللاجواب) للّص، وقتل ثائر مجدول لزوجته في(اعترافات كائن) وقتل سارة في باريس وعودة شخصية(سواقي القلوب) مع جثتها: اي ان الموت هو مقياس للحياة وليس العكس، ومن لا يستطيع اثبات براءته بنفسه عليه أن يثبت هذه البراءة أو أقل منها من خلال مرافقة جثة، أو تحويل الخصم أو الخائن أو الغادر الى جثة كما في الكائن أو على طريقة عبد الستار زهدي تحويل جسده الى جثة والغوص فيها الى الأبد، اي تحويل الجسد الى قبر. هذه النماذج تعطي الانطباع الواضح على ان السلطة حين تتداخل في أعماق ضحاياها تخلقهم على صورتها وتلغي من أعماقهم الألوان الرمادية ونسبية الأفعال والأخطاء والمبادئ والمقاييس، فيصبح الدهاء وليس الضمير هو المعيار( عبد الستار زهدي) ويصبح الثأر هو القانون الوحيد في الفوضى( ثائر مجدول) واما في( سواقي القلوب) فيحاول العائد من منفاه تبرير عودته( بل ذنبه) في كونه عاد وهو يحمل جثة من أجل صفقة أو مقايضة مغبون قد تتم أولا تتم: يعطيهم جثة سارة مقابل ذنوبه على أمل أن يحصل على حريته أو في الأقل حياته، ولم يكن يدرك، في تلك المحنة، ان الجثة الحقيقية التي تتفسخ ليست هي التي في التابوت، بل المؤسسة المرعوب منها، وكانت رائحة التفسخ تزكم الأنوف ولكن أحدا لم يشم لأن الرائحة العفنة نفسها صارت ظاهرة عادية من ظواهر الطبيعة والظواهر الواضحة جدا لا تُرى بل تصيب الناس بما يسميه علماء الاجتماع بـ( العمى الاجتماعي): الآن في أي طابور يقف هؤلاء، في الواقع، وفي اي ارشيف يبحثون؟ عن حريتهم الجديدة المفقودة أم عن ذنوبهم القديمة والمفقودة أيضا؟ هؤلاء الثلاثة هم تجليات لشخصية واحدة: 1: عبد الستارلم يمارس السياسة في المنظمة( الأنا العليا) فبإستثناء حادث اللص العرضي عاش منسجما مع مثل عليا. 2: والعائد من منفاه الباريسي( الذات) مارس السياسة في المنظمة الحزبية وتخلى عنها وتصرف بواقعية مزيج من المبادئ والمتع والمغامرات. 3: وثائر مجدول مشبوه بالعمل السياسي تم تحويله الى كائن غرائزي( الهو) بسبب الذل الطويل. الأول: لم يعد يسأل ولم يعد ينتظر جوابا( عاش في زمن لا أحد فيه يسأل) ولو سأل فما من أحد يجيب ـ اللاسؤال واللاجواب. الثاني: يسأل نفسه عن الذنب والنجاة لأنه لو سأل فلا أحد يجيب أيضا: وحدها المنظمة تسأل وتجيب ـ سواقي القلوب. الثالث: طرح اسئلته الوحيدة على زوجته في المحاكمة الممسرحة ـ اعترافات كائن ـ لأنه في عالم أصم من الضجيج وفلتان مشاعر الانتقام الضارية: هو لا يطرح أسئلة على الزوجة بخصوص العمر والاسم والعنوان لكي يعرف لأنه يعرف الاجابة سلفا، ولكنه يطرح الأسئلة لكي يثبت كونه سلطة: هذه الوظيفة السلطوية للأسئلة انتقلت له وصارت من حقه. ألم يتحول هو نفسه الى مؤسسة؟ اليست هي وظيفة السلطة في تحويل الانسان الى شيء أو مكتب أو نفاية أو وحش؟ سواء الذي كف عن طرح الاسئلة( عبد الستار) أو الذي عرضها على نفسه( العائد من منفاه) أو الذي طرحها على زوجته قبل القتل(ثائر مجدول) فكل هؤلاء لم يحصلوا على أجوبة حقيقية لأن الجواب الحقيقي في علاقات السلطة والفرد يتطلب نوعا من العدالة وهذه غائبة لذلك كانت الأسئلة الخطأ، في الاتجاه الخطأ:وسواء مارس هؤلاء أم لم يمارسوا أو اتهموا بالسياسة، فقد كانت النهايات متقاربة ولا نجاة من استئلاه المنظمة. يمكن القول ان اجساد هؤلاء صارت ضيقة عليهم ولا حل غير الخروج منها لأنها أُفرغت من البشري وعُبئِّت بالرعب وعجزت عن كل محاكمة عقلانية او ما يعرف بالوعي الضدي: هل يأتي روائي يوما لكي يجمع هؤلاء في مكان واحد ونص واحد ولعنة واحدة تسمى، افتراضاً، لعنة الذنب بلا ذنب سوى محاولة العيش؟ ليس في التقليد الروائي العراقي أن يواصل روائي كتابة رواية تتناص مع رواية سابقة لكاتب آخر من حيث انتهى الأول كما فعل روائي فرنسي حين تابع مصير ميرسو في رواية (الغريب) لألبير كامو، او كما فعل الروائي مايكل كننجام في رواية( الساعات) التي تعرضت لحياة الروائية فرجينيا وولف واستعمل البناء السردي لفرجينيا واقام تناصا مع نصوصها الروائية وتخيل حياتها في الساعات الأخيرة بل جعلها حية حتى بعد التاريخ المعلن للموت، وهي التجربة التي قام بها غابريل ماركيز في رواية( ذاكرة غانياتي الحزينات) حين أقام تناصا مع رواية الروائي الياباني ياسوناري كواباتا( الجميلات النائمات) وهذا النوع من التناص هو ابداع وتأليف وخلق من دون محاكاة حرفية. تحدثنا حتى الآن عن الداخل الى المؤسسة بالمعنى الواسع للمؤسسة ولكننا لم نتحدث عن الخارج منها لأن نظام المؤسسة القائم على الدمج والصهر والتذويب والمحو لا يطرد زوّاره أو ضحاياه، وليس الخارج كالداخل، لأن ماكنة الصهر الجهنمية ستعيد صياغته على صورة أخرى ليست الأولى ولكن على خلق مختلف: المؤسسة في الأمس البعيد والقريب (كما في الغد غير المنظور) لم تعترف بامتلاء المكان: الحيّز متوفر دائما لاستقبال الزبائن، طوعاً أوكرهاً، والمساحة في المطحنة موجودة دائماً لأن باب المؤسسة هو نفسه باب السجن والمقبرة والمشرحة وأمكنة العقاب المتناهية في الصغر.
|