في معارضة الواقعية : مقدمة كتاب سياسة الرمز |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات نقدم في ما يأتي النص الذي قدم به الدكتور حيدر سعيد كتابه "سياسة الرمز"
يطمح هذا الكتابُ إلى أن ينجز أربعةَ أمور:
1 ـ إنه يؤرخ لمرحلة انهمكتُ بها في الأشهر القليلة التي تلت حربَ 2003، تتمثل في محاولة اكتشاف كيف يجري استعمال الرمز سياسيا: كيف تكون الرموزُ عناصرَ في خطاب سياسي، وكيف تُتخَذ أهدافا، كيف تُجعَل فضاءات صراع، وساحة للتنافس، والسيطرة، والمعارضة، والمعارك، والهيمنة، والمقاومة. كنتُ، حينذاك، ما أزال أعيش المزاجَ المنهجي الذي شهدته الثقافةُ العربية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، إذ تلقيتُ تدريبا في النظرية النقدية واللسانيات والسيميولوجيا. وبالتالي، كان هذا هو الأداةَ التي أواجه بها ما حدث من تحوّلات منذ 2003. كان مثيرا أن أستطيع أن أتحدّث وأكتب عن هذه المادة الثرّة، الاستعمال السياسي للرمز، بعد سنوات طويلة من تحريم وكبت هذه الطريقة في التعامل المنهجي مع الخطاب السياسي. لقد كان ما يجري في العراق، بالنسبة لي، صورة، أو نصّا، أو خطابا، باللغة الاصطلاحية. وكان تحليلُ هذا الخطاب يتجه إلى اكتشاف الطابع الرمزي الكامن فيه، ولا سيما أن الوقائع الأساسية التي جرت آنئذ كانت تبدو كأنها وقائع رمزية، كأنها تشير إلى أننا أمام لعبة رمزية. لقد أُرِّخ لسقوط نظام صدّام بسقوط تمثال له (وهو واحد من آلاف التماثيل التي تجسِّده والمنتشرة في سائر أنحاء العراق) في ساحة الفردوس بوسط بغداد يوم 9/ 4/ 2003، مقابل الفندق الذي اتخذته وسائلُ الإعلام التي غطّت الحربَ الأمريكية على العراق مقرّات لها. غير أن هذا السقوط لم يكن سقوطا حقيقيا، بل سقوط مجازي، أو لأقل: إن السقوط المجازي، أو الرمزي، هو هنا أهمّ من السقوط الحقيقي، أو بالأحرى وبدقة: إن السقوط الحقيقي يستلزم أن يُعبَّر عنه بطريقة مجازية. لقد كنّا أمام عملية رمزية بكل معنى الكلمة: كان سقوط التمثال (كناية) ـ بالمعنى الذي يستعمله النقدُ الأدبي ـ عن سقوط النظام. وقد أُرِّخ لسقوط نظام سياسي، ودولة، بسقوط ما يُسمّى في السيميولوجيا (علامة أيقونية) لزعيمها، وهي هنا التمثال، الذي هو علامة مركّبة: التمثال رمز لصدّام، وصدّام رمز للنظام. غير أن الأهم في سقوط التمثال هو أنه رسالة. ولذلك، يكون (المتلقي) عنصرا ضروريا يكمل أركانَ عملية الاتصال الرمزي. وهكذا، كان المهم في تمثال ساحة الفردوس هو أنه يقابل مقرّات وسائل الإعلام، التي ستتولى نقلَ هذا السقوط إلى العالم كله، ليكتمل بناءُ المجتمع الذي يتداول هذا الرمز. لقد كانت هذه اللحظةُ الافتتاحية لعراق ما بعد صدّام تعبيرا عن سيرورة رمزية ضخمة سيعيشها العراق. في (كتابهما الاستعارات التي نحيا بها) الصادر سنة 1980، حاول جورج لايكوف ومارك جونسون أن يوضِّحا أن الاستعارات تحلّ محلَّ الحقائق، وأن نظامنا المفهومي والإدراكي أصبح يقوم على هذه الاستعارات. ما أحاوله، هنا، هو أن أوضِّح أنه ـ مع ذلك ـ ثمة سيرورة للمجاز، من حيث هو مجاز محض، ثمة صراع وتنافس على المجازات بما هي، لا بما أنها (حقائق). أدرك أنه قد يكون لا انفصال بين الحقيقة والمجاز، وأن الحقائق تولَد ومعها مجازاتها، ولكن ـ أيضا ـ هناك حياة للحقيقة داخل المجاز، هناك واقع لا يتنفس إلا من خلال المجاز، بما هو مجاز، رمزي. وإذا كان التأريخُ يتشكّل (بحسب نظرية إدوارد سعيد ذات الأصل الفوكوي، التي شكّلت وعيَ هذا الجيل من المثقفين العراقيين في التسعينيات والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين) من حركتين هارمونيتين: هيمنة، ومقاومة، فإن الحقل الذي أضع نفسي فيه، هنا، هو السلوك المجازي لهاتين الحركتين: مجاز الهيمنة، ومجاز المقاومة. 2 ـ غير أن مقالات هذا الكتاب ليست تمرينا منهجيا، كما أن ما حدث في العراق ليس مجرد نص، أو صورة. إنه دماء، وأرواح، وعنف، وخراب. لقد كان هذا الإيمانُ يتزامن مع تحوّل منهجي شهده العالمُ عن البرود النظري الذي طبع الحقبةَ الفكرية التي يمكن أن نصطلح عليها، إجمالا، (البنيوية). كنتُ أنتقل، تدريجيا، من سياسة الرمز إلى سياسة الهوية والإثنية والتعدد. هذه المقالات هي شاهد على انهيار المرويات الكبرى التي أسّستها ثقافةُ الدولة الوطنية. وهي، أيضا، جزء من عمل نقدي يحاول أن يراجع الثوابتَ التي رسّختها هذه الثقافة، والتي أوصلتها إلى لحظة الأزمة، والتفكك بالتالي: الهوية الأحادية للبلاد، المواطنة الأصيلة، التأريخ الوطني القائم على تمجيد العسكر، فكرة (الاستقلال)، الدولة الراعية، الموقف المتحفّظ من الحداثة، العلاقة العدائية مع الآخر. لقد كان هذا هاجسا منتظما في سائر مقالات الكتاب، غير أنه لم يكن في مدار اهتمامها تحليل كيف تشكّلت هذه الثقافةُ تأريخيا، وما هو السياق الذي رسم محتوى ثقافيا للدولة العراقية على هذه الشاكلة. وهو ما سأحاول أن أطوّره في عمل لاحق. ما كان يهمني، هنا، هو أن نرسم الشك، باستمرار، في هذه المقولات والثوابت. لأقل: إن مقالات هذا الكتاب هي تمرين على عمل أوسع يحاول أن يكتشف الآليات الثقافية التي اعتمدتها الدولةُ لبناء هوية البلاد، بما في ذلك النظم الرمزية التي تبنتها، والكيفية التي حدّدت بها قيمَ الوطنية، والطرق التي حدّدت بها محتوى ذاكرتها، وكيف روت التأريخَ الوطني، وكيف بنت رؤيتها للآخر، وما إلى ذلك. ويرتبط بهذا، على نحو صميمي، تحليل ظاهرة الدكتاتورية، التي أعتقد أننا لم ننجح في بناء حركة نقدية جادّة لتفسيرها وفهمها، على غرار ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كان الاتجاهُ العام هو اختزال الدكتاتورية في شخص صدّام حسين وتبرئة السياق الثقافي والاجتماعي الذي أنتجها واحتضنها. هذان العملان (نقد ثقافة الدولة الوطنية، وتحليل ظاهرة الدكتاتورية) يندرجان في تحدٍّ أشمل يواجه العراقيين، يتمثل في طريقة التعامل مع الماضي، إذ لم تتمكن السنواتُ التي تلت سقوطَ نظام صدّام من بناء اتفاق تأريخي على كيفية قراءة الماضي، سواء في تقييم أحداثه، أو في توفير العدالة لأطرافه، أو في رسم سياسات يجري من خلالها التعاملُ مع مؤسساته وتراثه. لقد ظلّ كلُّ ذلك مثارَ خلافات وشقاقات وطنية عميقة. إنه ناتج من أن الماضي لا يزال حاضرا، بشخوصه ومفاهيمه وتراثه، ولذلك، تحوّل إلى فضاء للصراع. ثمة صراع جادّ في العراق على كيفية قراءة الماضي وتقييمه. وهكذا، لم يصبح الماضي مادة مستقلة، قابلة للنقد والفحص. إنه لا يزال جزءا من الصراع السياسي. وعلى نحو أكثر تجريدا، إنه جزء من أزمة الذاكرة المنقسمة. لقد نحّت الطريقةُ التي سارت بها الأمورُ منذ 2003 (العنف الأهلي، وضعف الدولة، والمحاولات العسيرة والمتعثرة لبناء توافق وطني على مؤسسة السلطة) إلى الوراء هذه المهمةَ النقدية للفكر العراقي. ولذلك، يكون مهما أن نذكِّر ـ دائما ـ بأهمية هذا العمل. 3 ـ تحاول مقالاتُ هذا الكتاب أن تجرِّد ما هو أبعد من زمانها. ولكن للمقالة زمانَها المغلق، الذي يعني أن لا حياة لها خارج زمانها، ولا معنى لإعادة نشرها، في كتاب أو ما شاكل. ولذلك، تحاول هذه المقالاتُ أن تجمع الأمرين: أن ترى في الحادث السياسي إشارة زمنية على بنية ثابتة وسيرورة طويلة، وأن تكون جزءا من الجدل العام، أن تشير ـ باستمرار ـ إلى الديناميكيات الطويلة والمعقّدة، التي تمثِّل الأحداثُ السياسية تعبيرات عنها، وأن يكون للكتاب نسيج جدال سياسي زمني، يريد أن يكون جزءا منه وطرفا فاعلا فيه، وهو ما يجعل هذه المقالات تتمسك بزمانها الذي لا يمكن أن تكون خارجه. وفي النهاية، هذا الكتاب ابنُ زمانه، لا يعقّه. إنه جزء من سجالاته وجداله وأفكاره وشقاقاته. والفكرة التي يروَّج لها بأن الكتاب لا يحدّه زمان ما هي إلا ضرب من الميتافيزيقا. 4 ـ يقدِّم هذا الكتابُ وثيقة عن الطريقة التي كانت تُناقَش بها صورةُ العراق، دولته، وثقافته، ومجتمعه. إنه نوستالجيا، استعادة للحماسة والاندفاع اللذين طبعا عملَنا وتفكيرَنا في العراق، استعادة للحلم، بكل طموحه، وشبابه، وفوضاه، ونزقه، الحلم الذي تكسّر حين بدا العراقُ هشّا أمام الأصولية، التي اجتاحته بقسوة، وحين فتحت الحريةُ البابَ لصراع أهلي دامٍ، وحين بات ثمنُها باهظا إلى درجة لم يتخيلها أحد: مئات الآلاف من الضحايا، وكل هذا الخراب. كان هذا نتيجة طبيعية وحتمية لعقود قاسية عاشها العراقُ تحت نظام شمولي، وحروب طاحنة، وكبت، وانغلاق، وهو ما حاولت سائرُ مقالات الكتاب أن توضّحه بطرق مختلفة. ومن ثم، لم يُهزَم الحلمُ لأن الواقع أنضج منه، والحلمُ مجرد مثال، غير واقعي، على نحو ما يحاجج منظِّرو الواقعية، بل لأن الواقع هو أكثر وحشية من الحلم. وهكذا، كان انكسارُ حلمنا يشكِّل انكسارَنا، ولم تعد تلك الحماسةُ سوى ذكرى بعيدة، لم يرثها سوى محاولات خائبة في تعلّم (الواقعية). هذا الكتابُ، إذن، ليس تذكارا لهزيمة، وليس مجرد توثيق، ولا إدامة نقاش لموضوعات كبرى. إنه، أولا، دفاع عن حلم. |