العمارة الجديدة

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
24/11/2009 06:00 AM
GMT



توجت أناقتي بعقد ربطة العنق الزرقاء ثم نفحت وجهي بعبق قنينة عطري المفضلة, وانحدرت مغادرا منزلي متمهلا نحو موقف الحافلات, ففي الوقت متسع وسأصل قبل بداية الدوام الرسمي رغم الازدحام المروري المتوقع في أول أيام الأسبوع.

لا ادري ما الذي دعاني إلى الاحتفاء والسرور في هذا الصباح, أهو الشوق لزملائي أم لنشوة العمل في العمارة الحديثة التي انتقلت إليها دائرتي خلال تمتعي بالإجازة.

لم المح في مظهر العمارة الجديدة ذات الطوابق السبع  ما يميزها عن الكائنات الكونكريتية المجاورة لها, غير أن جل زملائي الذين زاروني  خلال إجازتي المرضية قد أسهبوا في وصف هندستها الداخلية الحديثة وسلالمها الرخامية ومكاتبها الواسعة وأثاثها الحديث وأجهزة التكييف العملاقة ومصاعدها الكهربائية الفائقة السرعة والشخصية المحببة لرئيس مؤسستنا الجديد, مما ألهب حماستي.

كانت ثلة من رجال حماية المؤسسة  يحملقون في  لوح الإعلانات الذي ركن في الجانب الأيسر من البهو الهائل, تجاوزت مقاعد المراجعين الفارغة التي احتلت الجانب الأيمن وقبل إلقاء تحيتي على موظفي الاستعلامات الرابضين خلف منضدتهم  الطويلة المتحكمة بمدخل الطابق الأرضي, صاح احدهم: مبروك يا أستاذ, لن تضطر إلى ركوب السلالم فقسم البحوث احتل الطابق الأرضي.

مضى الوقت بطيئا بعد مغادرة أخر المهنئين بسلامتي, كنت تحت وطأة مشاعر الود الصادق والامتنان, فحدثت نفسي أن انتهز الفرصة وأقوم بجولة استطلاعية في أروقة العمارة, إلا أن صوت سكرتير مدير قسم البحوث الذي دوى في سماعة الهاتف أرغمني على التوجه حالا نحو المصعد الكهربائي لمواجهة السيد المدير في مكتبه الذي احتل جزءا من الطابق الثالث.

الهدوء والنسيم المنعش المتدفق من الفتحات المموهة أسبغا على المكان سكينة ورهبة فوقفت أتأمل شبح صورتي المنعكسة على البلاط بانبهار, منتظرا المصعد الأبكم الذي أشارت لوحته الضوئية إلى انحداره من الطابق الأول.

رنة موسيقية لطيفة تزامنت مع انفراج باب المصعد فتقدمت نحوه بهدوء متحاشيا الارتطام بالأشباح التي غادرته مسرعة, غير أن عامل المصعد المتأنق أوقف تقدمي بإشارة حازمة متزامنة مع تكشيرة سوقية, وحالما أدرك العامل استغرابي بادرني قائلا:

-عذرا أستاذ, المصعد خاص.

-أين المصعد العام؟

-السلالم الرخامية للاستخدام العام!

أشاح العامل بوجهه متجها نحو الباب الخلفي الصغير الذي انبثق منه أربعة رجال يتقدمهم رجل مكتنز, أشربت وجنتاه بحمرة صارخة, تناغمت بسلاسة مع بدلته الحريرية التي ارتداها من غير ربطة عنق, وزانت محياه لحية منمقة صغيرة أحكمت مع شاربه الطوق حول فمه, كان يميل برأسه الضخم نحو يساره منصتا لهمسات شاب لم يتم عقده الثالث, متأبطا ملفا جلديا أسود ويتبعه كظله, اتجهوا بخطوات واثقة على وقع (طقطقة) مسبحته الثقيلة نحو باب المصعد المشرع الذي سرعان ما ابتلعهم وانطلق نحو الأعلى.

لم أجد مفرا من ارتقاء السلم الموحش متمسكا بسوره الخشبي الفاخر خشية تعثر أقدامي المرهقة, ممنيا نفسي باستراحة قصيرة حيثما أصل مناطق استدارة السلم.

بلغت الطابق الأول وتابعت الخطى مستجمعا قواي نحو الطابق الثاني الذي أثار استغرابي بتسارع نبض الحياة فيه أكثر مما رأيت في الطابق الأول.

أسندت ظهري على الحائط الصقيل مراقبا عدد المراجعين الغفير الذين شُرعت لهم أبواب المكاتب, وانهمكت باحثا عن تفسير معقول لظاهرة تشابه هيأتهم وسحنهم التي كانت تكرارا مملا لهيئة وسحنة المكتنز المتبختر وجماعته الذين ارتقوا المصعد قبل قليل.

امتلأ جوفي بفضول مؤلم, ترى ما الذي جعل رواد الطوابق العليا يتشابهون إلى هذا الحد المقرف, وكيف وصلوا إلى الأعلى من غير المرور بالطابق الأرضي ذي المصاعد الخصوصية والسلالم الرخامية المهجورة؟

لم ترتق تحليلاتي للظاهرة العجيبة إلى مستوى يرضي فضولي, فرضخت لعجزي وأقنعت نفسي أنني فزت على الأقل بحكاية ستثير عاصفة من تساؤلات أصحابي.

تلقفني سكرتير رئيس القسم معاتبا من غير اكتراث بأعراض الإرهاق التي بانت على محياي من جراء تسلق سلالم ثلاثة طوابق, سلمني أمرا خطيا ممهورا بإمضاء رئيس القسم, يوجب فيه إجراء كشف فوري على سطح العمارة وتقديم تقرير عن مستوى خطورة التشققات التي اكتشفت حديثا, ثم أمرني بمرافقة احد المهندسين لانجاز المهمة حالا.   

تقدمني زميلي المهندس متجها نحو المصعد غير ملتفت لحديثي عن خصوصية المصعد, كان رجلا رشيقا طليقا شديد الشبه بهؤلاء الذين أثاروا فضولي لكنه لم يتجاوز عقده الرابع بعد.

استقبلنا العامل ببشاشة وتراجع نحو ركنه صامتا, فضغط زميلي المهندس على زر الطابق السابع فانطلق بصمت وبسرعة فائقة ليرسو بهدوء معلنا بلوغنا الهدف بنغمة موسيقية تزامنت مع انفراج بابه, ذهلت للفارق الشديد بين هذا المصعد الحديث وتلك التي استخدمت قبل عقود حين كان يسمح للجميع ارتقاء المصاعد العامة في دوائر الدولة.

زكمت انفي المزبلة الجاثمة فوق سطح العمارة فأسرعت إلى منديلي لاتقي خبث رائحتها متعللا بإصابتي بمرض الربو غير أن زميلي المهندس انهمك في فحص السطح خائضا في الأوساخ كأنه يجول في حقل أزهار, ابتعدت عنه قليلا ومضيت أقارن بين هذه المزبلة وتلك التي اعتلت سطح بناية المؤسسة القديمة.

طويت دفتر الملاحظات الصغير وغادرنا نحو المصعد مراقبا اللوحة المثبتة على يسار بابه التي تتلألأ بضوء يتقافز بين أزرارها المرقمة, وحين أوشك المصعد على الوصول انتبهت لنظرات صاحبي المهندس الممتلئة تعجبا, فتهيأت لتلقي أسئلته التي ستشوبها حتما مسحة ارتياب, ومع ابتسامة خبيثة سألني:

-أستاذ منذ متى لم تلج مصعدا؟

-قبل أن ترى النور يا صاحبي!

-لماذا؟

-كانت المصاعد ضيقة وعاجزة عن استيعاب التجمهر المزمن عند أبوابها, فأبت كرامتي أن أريقها على أعتابها الصدئة, وبعد حين صدرت أوامر عليا بمنح البعض حق ارتقاء المصاعد دون الآخرين فلم أسى لذلك لان عشقي للعمل والعيش في الطوابق السفلية والتصاقي بالأرض أزهدني بتلك المصاعد التي لا تختلف كثيرا عن النعوش المتحركة.

-وماذا لو دعيت إلى الأعلى لأمر ما؟

-في حالات نادرة كنت ارتقي السلالم التي لم يزاحمني فيها أحد!

-هل وجدت اختلافا بين هذا المصعد وتلك التي شبهتها بالنعوش؟

-بالتأكيد هذا المصعد احدث تقنيا, لكن يؤسفني احتكار البعض للمصاعد رغم الوعود التي كانت تبشر بفتح المصاعد للجميع بعد الانتقال إلى العمارة الجديدة لكن لا شيء تغير, فروح البناية القديمة رافقتنا إلى هنا. وألان هل انتهت أسئلتك؟

-لماذا؟ هل أثقلت عليك؟

-كلا, لكني ابحث عن تفسير لظاهرة أثارت فضولي.

-قصدت خبيرا, فأنا عايشت إنشاء هذه العمارة واعرف أدق تفاصيلها.

-ليتك تخبرني من أين يأتي هؤلاء الذين اكتظت بهم مكاتب الطوابق العلوية رغم خواء مدخل العمارة الرئيس؟

-سيدي هذه ظاهرة تفشت بعد حلولنا في هذه العمارة, فكل الراغبين بالارتقاء إلى الطوابق العليا يتسللون عبر سلالم الطوارئ والبعض القليل منهم تخصص باختراق المداخل الخلفية الخاصة المؤدية إلى المصاعد الكهربائية, أما الذين يحاولون دخول العمارة من بابها الرئيس فمصيرهم التفسخ في قاعة الانتظار.

-لكن لماذا هم متشابهون كالتوائم.

-حقا!! هذا ما لم انتبه له.         

        

adnanaldarraji@yahoo.com

15\5\2009