يـوميات لـطـفـيـة الدلـيمي..ادراك محنـة الـزوال والوجود

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
27/11/2009 06:00 AM
GMT



يقول بول كلي :"الفن يوميات سردية تؤشر إرتحالات انسانية تتصف بالذكريات مشتبكة في الزمان والمكان، وصفات مدنية ومدينية وانسانية". في التتبع الاول تظهر المرأة الشرقية التي تحمل الارث المستفز بالعار والخديعة والعيب الذي ينخر الرؤوس الصدئة ،

 هي تفهم ما يدور بلعبة الخديعة ضد المرأة ،وبنظرتها الثاقبة والواثقة ركلت تلك العقول التي كانت تنطق بالرياء والكذب والزيف ،حملت معها النقاء والعفة والارث الثقافي الذي اكتسبته من تاريخ حافل بالنضال والمعرفة والابداع ،عبرت المدن والبحار والمحيطات لترى اي ارث يمكن ان تكتبه لتسطر كلمات لم تر الخوف. "تداهمني موسيقى جوقة ضاجة في الحي اللاتيني :اسمعهم يهجون مهنتنا ،يهجون الكتب والكتـّاب والكتابة،رجل بزي امرأة يهذي على افق من زهور جيرانيوم واشجار كستناء ،يهجو الكلمات واللغات والشعر والنصوص، ويعلي من مقام الجسد في رقصة الموت التي تسحبه الى ممرات النار ،يسمّينا فاشيست اللغة ،فاشيست اللحظة الآبقة ،فاشيّي العصر مابعد الحداثي .. يشهق جنونا ويتسامق رغبة في هواءالميدان الدخاني مسّورا بدفقات من عطور وعرق ،وبخار كحول ينضح من جلده الذهبي ،من عروقه النافرة،من نظرته الزئبق ،من فمه القابض على جمرة الشهوة ،هجاؤه يحيل الكتب الى عدم ،يحيل الكتّاب الى مشعوذين ،يحيل الكلمات الى هباء زائد،هجاء الرجل الراقص:انوثة مستعارة في اهاب ذكورة مخاتلة ،يطعن النص ،ويلاحق اللغة بهبوب لهب من شعره الاحمر الجعد ونصه الكاسر وعضلاته المتوفزة.." تتصف هذه المجموعة بانتمائها الى النص المفتوح ان جاز التعبير ،فهي نصوص تتداخل في اساليب شائكة ومشتبكة بالقلق والفرح وانزياحات وتداخلات لشخوص وامكنة ،وطيور مهاجرة ،وسفن تخلف وراءها آهات ، تدرك محنة الزوال والوجود ،وتخاطب النهايات واللانهايات ،النشوء والتكوين ،النسغ واليباب ،الضوء والعتمة ،البسمة والفجيعة ،الارتحال في المتاهات المؤدية الى اللامتاهات ،الخروج من الاماكن الضيقة الى الفضاءات والدهشة،والعين التي ترقب السكون والزغب الذي ينموفي الاجنحة الغضة . "مثل إنغريد برغمان ،مثل إديث بياف ،مثل امرأة بارحت الحب الى الموت ،تنهمر الخسارات على المسافات القلقة مابين الافاقة والغياب ،لااحد يحتفظ باحتياطي قيامة تعفيه من مصير الرماد سواي فأنت قيامتي .. في متاهة لارنكا :قلب المدينة مخصب بالموسيقى واعياد باخوس ،تأخذني اوهامي الى حيث يقام في الكنيسة البيزنطينية قداس المساء ،اجتاز الممر الرخامي ،الاعمدة الهيلينية ،البوابات المنحوتة من خشب السنديان ،واجلس على المصطبة العتيقة ،اتجلس معي ؟؟. عيناي غائمتان برؤيا مرورك ،عيناي مطبقتان على نظرتك ،شمعة عملاقة تضيءالمذبح وصورتك تغالب الايقونة المذهبة وتحط في حدقتي وتنام في الافق" . تحاول لطفية الدليمي ان تخترق تواريخ مدن وتواريخ اشخاص وتعبر حواجز الازمنة لتكشف عن عوالم غابرة ومغبرة فتنفض عن عوالمها الايام الصدئة وتستحضر ارواحا وافكارا وتعيد الحياة لها عن طريق الاسئلة ،التي تحاول بها ان تستفز بها النائمين بعدما تسمعهم اقوالهم المأثورة التي نرددها نحن ،اشعارهم التي لاتصدأ، والحانهم وموسيقاهم المستمرة في العزف في الآذان التي تصغي الى ذلك الخيط اللحني الضوئي الذي يستمر في "كونشرتات "بيتهوفن وموزارت وجايكوفسكي،هي تديم لحظة الاصغاء الروحي الى ان تصادفها لحظة النوم في لحظة اللحن. في يوميات بيرن حين تزور متاحفها في الليل ،تسأل نفسها عن السبب الذي لانتيح به الى المواطن العربي الاطلاع على تاريخ الانسانية،التاريخ الذي لم يكتبة المزورون الذين يخلطون الاوراق ويخنقون صوت الحقيقة ،بل هم حفارو قبور لتواريخ حقيقية وطمس اسماء وحوادث وبطولات ، ليست هي المذكورة في الكتب العربية التي زورها الوراقون الذين يتلقفون فضلات موائد سهرات الليالي الحمر في قصور الامراء ،تتحسر لطفية وتمنح نفسها فرصة للامنيات لعلها ترى في يوم ما في بلدها مثل هذه الطقوس ،فترى بيتا للجواهري ،ومتحفا لجواد سليم ، وترى ابواب المتحف الوطني مشرعة ابوابه الى ساعة متأخرة من الليل بعدما رجعت بقدرة الامن المفقود "المسروقات الاثرية "بعد ندم –الحرامية – فاسترجعوها . اسماء كثيرة تستحق ان نقيم لها المتاحف ،ولكننا نقيم " متاحف للدموع " فقط بحيث نعرف حجم الخسارات التي يتركها لنا السياسيون عندما تشتبك البنادق او اللوريات المفخخة،وعندما تمر في يوميات بغداد " اقف وساحة التحرير ورائي مأهولة بالرعب والدبابات والنساء الملفعات بالسواد،اشجار الصفصاف تنوح على الضفاف وسفينة نوح –زيوسيدرا-تغرق في اليم ولا تلوح منها سوى قلوع ممزقة ،تغرق السفينة بمن فيها والكل يفتك باللحظة الممكنة والكل يطعن الوقت فيغرق الجمع في اللجة". الرسام السويسري فرديناند هودلر: تطرح لطفية الدليمي موضوعة غواية الجسد في –الايروس- وتتابع مجريات حياته ،بعد ان يفقد جميع افراد عائلته في مرض –السل-ولم يتبق له سوى الفقر ،لكنه يبقى يطارده فيختطف منه حبيبته –فالنتين غوديه –داريل – التي يفتك بها السرطان ،ولكن الذي يثير فضول الكاتبة هذا الاهتمام اللامتناهي من قبل متحف –بيرن –الذي خصص جناحا خاصا لعرض لوحات –هودلر-وتطلق عليها اسم قاعة الحب –الايروسي-التي يعود رسم اللوحات الى القرن التاسع عشر،تعلق عن لوحاته المبهرة بالدهشة"شاء هودلر ان يقاوم بايروسية صاخبة ويتقدم خطوة على مكائد الموت " الجماليات هي التي تمرغ انف الموت بالتراب لان جميع الفنون لاتخضع الى سلطة الموت لذلك تبقى الفنون الشعلة الازلية للحياة وتركل الموت على انفه ،بالرغم من انه لايستكين ويخطف الارواح بدناءة حيث يقهقه في الحفر المظلمة ،ولكن الجماليات تمارس الاتصال الفني بين كل الفنون غير آبهة بالموت لان جميع الارواح تلوح في اللوحات وفي القصائد وكذلك في الروايات والسمفونيات وفي جميع الاختراعات التي اخترعها الانسان . في حوار داخلي مع جان كوكتو، بعنوان –الكتـــّاب فاشيست اللحظة المارقة ،هناك مقولة طويلة اقتبس منها جملة مهادنة"كل الذين كانوا يحاذون خطوتي تآكلوا في الصمت او هادنوا السماء والاسماء،فمضيت بلا احتياطي من رفقة،ابعثر التاريخ على الحدود القصوى للنسيان واتماهى مع المشردين مترحّلة في دخان الامم،دونما خرائط توجز لي طريق الجلجة " في بيت الشاي تتمحور الاشياء وتظهر الارواح التي لايمسسها الموت ويكون هناك حوار –dialougeيستثني الزمن ويتصدر العبارات التي تتكون من الاستعارات المانحة للحظة صورة ابهى من الواقع ،فيقع الاثنان في بهجة الحضور المكاني والزماني ،وتمنح لطفية سعة اللحظة المحسوبة من عمر الزمن الى جان كوكتو –مطلا من صورته الداكنة على جدار بيت الشاي وهو مارق من رفات الموت يهمس لنا لاتكابدوا كل هذا العناء ايها الناسخون فالسماء لنا جميعا. كل الامكنة التي مرت بها الكاتبة كانت لها اعتبارات صادقة ومؤثرة ولم تمربها مرور الكرام بل كانت تؤسس نصوصا وتؤشر لحظات واشياء مرئية وغير مرئية نابضة بالحيوات غير جامدة حتى وان كانت على هذه الشاكلة هي تمنحها الصدمة في النص الايحائي وتمنح ذلك الجمود الحركة وهذا الصدأ البريق وتلك العتمة الضوء وهذا الانكفاء السمو ،انها يوميات في نصوص مفتوحة مع الزمن والمكان واللغة بطريقة مبهرة تقلب بها المعادلة لاصطياد نص لايخضع الى اسم ولمن يمنح الاجناس الاخرى حق الانتماء الى هذه النصوص "انا امرأة تجازف كل برهة وتراوغ موتها ،اتجول بين ظلال الوحوش البشرية التي ترفع سيوفها الصدئة تحز بها رقاب الخارجين على الخرافة والذاهبين الى سلطة العقل امضي قدما في مجازفاتي الخطرة" حقا ان لطفية الدليمي تذهب الى سلطة العقل ولكنها تحلق بأجنحة الفراشات لتؤشر الالوان والمياسم المورقة لتمنحنا شذى اللغة المغمسة ببحر الخيال .