عربة الغالبي الجهنمية

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
06/11/2009 06:00 AM
GMT



"باريس تطلق الليلة كل رصاصاتها".
ـ البير كامو، رئيس تحرير صحفية المقاومة السرية" كومبا" في أول مقال باسمه الصريح عشية التحرير.

في الفوضى العارمة وجد ابراهيم حسيب الغالبي الوقت مناسبا، وقد يكون الأمر معكوسا، ربما الوقت هو الذي وجد الغالبي مناسبا( هل يسمى الوقت العبودي اختياراً؟) لكي يروي لنا هذه الحكاية التي لا تروى، والحكاية التي لا تروى هي التي تستحق بجدارة الاصغاء والقراءة والتأمل، والفوضى العارمة تعبير سهل ويمكن المرور عليه بكل بساطة ولكن عند التدقيق نجد ما هو أعمق من ذلك: هذه الفوضى المسماة عارمة هي الوجه الآخر للنظام بالمعنى الأشمل والأعمق للنظام في زمان محدد ومكان محدد، فليست الفوضى نقيض النظام بل هي وجهه الآخر، خاصة حين يتأسس النظام السياسي والاجتماعي والثقافي والادبي والاخلاقي والاقتصادي على الفوضى المنظمة، وحين يغيب النظام العام، تقوم الفوضى بالدور المفتوح والعلني الذي كان يقوم به النظام في السر والخفاء والتواري.

هي ليست باريس عشية السقوط ولكنها مدن الخوف تخرج من السكوت الى الانتقام، في لعبة تبادل الأدوار، والحسابات المؤجلة، وهذه من "فوائد" قدوم البرابرة: اعداد مسرح التعرية وتقديم المرايا لكي نرى المخفي من الأدغال العميقة المتوارية. هل حين تطلق بغداد يوما كل رصاصات بهجتها سنجد رواية أخرى عن(اعترافات كائن آخر) وندور في ذات الحلقة المفرغة؟

تتعرض رواية ابراهيم الغالبي الفائزة بمسابقة جائزة الرواية(موقع الروائي 2008)  لأحداث عراقية معروفة: الحرب والحصار والسجن والغزو، والشخص الروائي ثائر مجدول مهدي هو من حيث الظاهر الشخصية العراقية النمطية خلال تلك الفترة، وتحولاته المكره عليها من جندي محارب الى هارب الى محاصر الى سجين بتهمة سياسية الى مراقَب، هي تحولات ومراحل عامة، لكن غير العادي والاستثنائي في تاريخ هذه الشخصية الروائية الطريقة التي قامت بها بمواجهة الامور بعد الاحتلال والفوضى التي تلت، وسلوكها هذا لا يكشف عن شخصية ولدت فجأة بل عن ولادة تمت عبر مراحل: اسلوب تنمية الذئب، عبر القمع، في الانسان، وتحويله الى "كائن" تحول من دور الضحية الى دور الجلاد من خلال التماهي معه، لكنه لم يتطابق مع جلاده الأصلي، وتلاشت ذاته الحقيقية، فصار كائنا آخر نتيجة هذا التزاوج بين مخلوقين مشوهين وكانت النتيجة عملاً وحشياً.

ثائر مجدول أو الكائن لم يصبح قاتلا لزوجته في النهاية الا بعد أن مرّ بنفق طويل من المآسي والانفاق والأوكار المادية والنفسية، وعملية تنمية الوحش فيه جرت بسكوت وبكتمان وغيظ وكبت، وحين زالت المؤسسة من الوجود بعد الاحتلال وخلال الفوضى، عثر في نفسه، كما يعثر الانسان في الطريق أو في أي منعطف، على كائن آخر ليس هو ولكنه يشبهه، خرج من أعماقه: اي عثر على الكائن، والكائن ليس الانسان ولكنه المتحول والشبيه، الكائن المصنّع عبر سنوات من الكبت والغضب والسخط الدفين وفقدان العدالة والجريمة: بمعنى ان هذا الكائن الذي ولد في الفوضى وشهوات الانتقام وفقدان النظام العام،لم يولد، فجأة، ولكنه مرّ، مثل أي مخلوق أو كائن، بمراحل نمو، وكل ما في الأمر انه كان الرحم والكائن المولود، أي ولد من رحمه. هل ولد من رحمه، حقا؟ وهل رحم هذا الكائن غريب ومعزول عن الرحم العام؟ ام انه الكائن الذي ولد من رحم تاريخ مغلق ونزل من بوابة منظومة قيم وبنية اجتماعية ونظام معايير؟

هذا الثائر والمجدول والمنسوج والرقيق والمحكم والقضيف ـ بلا هزال ـ والمفتول جيدا... الخ المعاني الكثيرة في قواميس اللغة، يخرج من السجن بعد صفقة تقوم بها زوجته خمائل الحسناء مع مسؤول حزبي، صفقة تقوم على التضحية بجسدها من اجل انقاذ الزوج الذي يخرج من السجن لكنه هو الآخر خرج بعد اقتطاع نصفه الآخر، فتقول له الزوجة: (لقد فعلوها بك اذن...) تقولها لرجل يجهش في البكاء أمام عري جسدي باذخ.

العنف الجنسي من آليات عمل السلطة  لأن الجنس استمرارية والسلطة احتكار، الجنس خصوبة وتناسل والملك عقيم، الخصوبة تنوع والسلطة اجتياح، الايروسية لذة والسلطة ثكنة:(لست أدري كيف كان شعورها وهي تحدّق بالمشهد الذي كان أمامها ! نعم رأيتها ذاهلة و عيناها تومئان إلى لهثةٍ ميّتة.كنت أجهش بالصمتِ في وجهها وأحاول أن أبقى ساكناً، ألاّ أحرّك من جسدي شيئاً، فالمقابر تحترم الموتى بصمتها وسكونها الهادئ . وأخيراً اكتفت زوجتي بالقول :- لقد فعلوها بك إذن).

منذ تلك اللحظة يواجه هذا الكائن قسوة التناقض الحاد بين الرغبة بل الشهوة وبين العجز ولم يكن مدركا، أول الأمر، ان خروجه بهذا النصف الباقي قد تم بناءً على صفقة تقوم على مبدأ العقاب الإكراهي نفسه: قدمت الزوجة بدورها نصفها الباقي كتضحية وكقربان( لا يقع منزل الغالبي بعيدا عن أور التاريخية وهو يعرف معنى القربان أفضل من غيره لأنه على أرض القرابين) ولم يكن مدركا أيضا انهما، الآن، ليسا في وضعيتين متناقضتين بل في وضع واحد لأن الإنتهاك واحد والقطع واحد، لكن المشهد يبدو لكليهما عبر مرايا مشوشة أو مقعرة.

هي تنظر الى عجزه كعاهة وليس كجرح نفسي وجسدي وروحي عميق، وهو، في النهاية، صار ينظر اليها، بعد اكتشاف علاقتها مع المسؤول الحزبي هاشم، من خلال المرايا نفسها أيضا،كعاهة وعاهرة وخائنة: هذه طبيعة النظر في المرايا المقعرة لدى المخلوقات المتحولة والكائنة، لأنها لا تنظر الى ذواتها عبر مراياها بل تستعير مرايا الاخرين المشوهة: قد تتحمل الرواية، في قراءة أخرى، تأويلا رمزيا يضع خمائل(الخمائل تعني الشجر الكثيف)المدللة والقعيدة من جلادها، والمقتولة، حباً وانتقاماً، في مسرح معد من قبل الزوج الضحية، في إطار علاقة رمزية أوسع كعلاقة تعاقب سيئة بين الانسان والأرض ، وهو أمر ممكن، لأن القراءة اليوم هي تفجير وبحث واحتمال وحقل رؤيا وتخيل بل وكتابة، لكننا سنغوص في الفوضى.

في الفوضى والسقوط ولد( الكائن) المُنَمّى والراقد والهاجع والمنتظر كغوريلا تولد من الرماد والدم والاحتباس والتربص، فيقرر في تلك الساعات أن يصفي الحساب، لكن مع من؟ مع الزوجة، ويجهز لها مسرحاً شكسبيرياً في المنزل ويلبس هو الملابس الزيتونية التي كانوا يلبسونها خلال استجوابه وتعذيبه: ولد الوحش المتماهي مع الجلاد كما كان متوقعا أن يحصل ـ في روايتنا(سنوات الحريق، 2000)يسأل الراوي أحد الشخوص وهما يجلسان في محطة قطارات بودابيست:" ماذا سنفعل يوما لو عدنا الى بلداننا ونحن نحمل معنا هذه الجروح النفسية؟" فيكون جواب الآخر:" نصير جلادين ـ ص 151". وهذا ما حصل.

في هذا المسرح الرهيب يظهر الكائن الآخر المختفي ويطرح الأسئلة على الزوجة بعقلية جلاد وباللغة والنغمة والاسلوب نفسه:( اسمكِ الثلاثي؟ العمر؟ السكن؟ الخ) كما لو ان الفوضى حررته من كل معرفة سابقة ومن كل التزام وينتهي الأمر بموت بطيء ومنهك ووحشي للزوجة التي حاولت أن تقوم بتضحية بنصف الجسد من أجل قضية الزوج وحريته الذي خرج هو الآخر بنصف جسد، ولم تكن تعرف ان حرية الزوج مؤسسة على فكرة الشرف، وان مفهوم الشرف عنده أهم من مفاهيم العلم والحرية والحداثة والقانون والأرض، في حين حاولتْ، عبر استمرار علاقتها مع المسؤول، الاحتفاظ بالنصف الاخر لعجز الزوج من أجل المتعة، أولا، ومن أجل منافع اقتصادية يوفرها المسؤول للزوج كالتزكية والعمل والشعور بالأمان، ثانيا.

روائي علّق على الرواية بعد الاطراء في كون الشخصية الروائية مضت في الطريق الخاطئ وهو قتل الزوجة :(حوّل غضبه ونقمته في الطريق الخاطئ) والكلام غير المكتمل والمحذوف هو ان على هذه الشخصية الروائية ان تقتل جلادها لأن هذا في رأيه هو الطريق الصحيح، تماما كما لو أننا في محاكمة سياسية أو اجتماعية تتعلق بقضية ثأر وليست قضية أدبية تحُاكَم من داخل شروطها الادبية وليس شرطها الاخلاقي، لأن الشرط الأخلاقي للروائي هو أن يكتب بصورة جيدة ومقنعة وان يكشف عن أمر جديد: هذا هو التزامه الأخلاقي الوحيد كما وصفه ميلان كونديرا، أما التأويل فهو أمر آخر لكن القارئ ليس طليقا تماما في التأويل.

إن الحديث عن العقلانية (الصواب والخطأ) في السلوك، في حالة التماهي، هو نوع من الانشاء اللفظي في أفضل التعابير، لأن التماهي في الأساس" هو سلوك لاعقلاني ومحاكاة نكوصية  لنموذج وليس امتلاكا  له عبر سلوك طفولي ثُبتَّ لذلك حافظ على قوته المحفزة" وهو تفسير فرويدي منطقي، وهذا التماهي الذي يكمن فترة من الزمن ثم يظهر في سلوك جديد تقمصي يظهر بصورة "مشاعر جديدة" في حين لا يرى ماكس شيلر التماهي على هذا النحو ويقول إن التماهي على صورتين :" الذاتي: وهو اضمحلال الذات في نموذج وسلوك وشخص وشيء، أو الغيري: حين تتضاءل الذات أمام النموذج".

في حالة كائن الغالبي نحن أمام شخصية روائية ممزقة شر تمزيق بين حروب وحصارات وسجون وذل وعوز وتعذيب واهانة ولم يكن التماهي من باب الاعجاب، اي ان هذا الكائن في جريمة القتل التي لم تكن تتم بدون اشتهاء جسدي واضح ورغبة عارمة لكنها رغبة ملجومة بعاملين: الرجولة الملغية في السجن، ومشاعر الخيانة، هذا الكائن الذي هو نتاج جديد لتمازج واندماج شخصيتين: الضحية وجلادها (رمز السلطة) هو مخلوق جديد خرج من ذاته كضحية بعد الاحتلال( كما حصل مع غيره) وامتص، بتعبير شيلر، أو تضاءل، أو دخل في محاكاة بتعبير فرويد، مع ذات أخرى، وهذا الامتصاص ـ المحاكاة ـ التماهي ـ الاندماج ـ انتج هذا الوحش البشري الجديد: جديد في لحظة الظهور فحسب لكنه قديم وكامن: إنه مباغت في ظهوره لأنه يخطف الواقع حين يتداعى ويحاول ابتلاعه بكل ما فيه من قيم ومعايير وقوانين وأعراف حوّلته الى كائن صرصار كما حاول هذا الواقع بكل ما فيه التهامه وخطفه واستئجاره وتدميره، لكن هذا الكائن في قلب الفوضى والانهيار الشامل غير معني الا بموضوع الشرف الشخصي كما لو ان احتلال الأرض ليس اغتصابا، وهي ذهنية مفهومة بناءً على نسيج معروف من المعايير.

هو سلالة جديدة في الشكل لا في النوع ونتيجة التمرين النفسي الطويل المكبوت، ووضعية اجتماعية وسياسية وثقافية بالمعنى الواسع للثقافة، اي ان هذا القاتل والجلاد الهادئ والأنيق هو تدريب سنوات من العذاب حتى تم اخراج الذئب من أعماقه أو الوحش وأُطلق في الشوارع، وكل كلام عن العقلانية في هذه الساعات الحرجة لا يعني شيئاً،كواعظ الذئاب في تقديس حياة الغنم في البرية.

المسرح الدموي الأخير الذي اقامه الكائن لزوجته بعد انهيار النظام ـ ليس النظام السياسي فحسب ولكن النظام العام، كل النظام، الاجتماعي، والقانوني والعقلي والاخلاقي الخ فكيف يحترم نظاما حوله الى نصف كائن؟ ـ هو صورة مكررة لحياتنا اليومية لكنها في(اعترافات كائن) صورة مكبرة مجسمة بقصدية، فلسنا أمام مجازر شكسبيرية نادرة بل أمام صورة عراقية نمطية مألوفة لكنها عند التكبير والتركيز وتسليط الأضواء الأدبية عليها تبدو بصورة بشعة، ومثل هذا المسرح الوحشي والبربري هو تقليد ليس نادراً حيث تجبر الضحية وهي امرأة دائما على المشاركة في حفر قبرها وبعد ذلك تستلقي فيه وتقام محاكمة لها في الحفرة وتطرح اسئلة عن الشخص المسؤول عن العلاقة الجنسية أو العاطفية وبعد الاعتراف تنهال عليها السكاكين أو وذخيرة الرصاص.

يبدو مسرح الغالبي الأخير الدموي مسرحا أنيقاً ومحاكمته للزوجة على قسوتها وفي مسرح عائلي مرتب، مقارنة مع محاكمات الحفر الأخرى، تتمتع ببعض القواعد( ربما من باب السخرية القول: الوجاهة) وهي قواعد ترتجل وتخلق حسب الأحاسيس الهائجة والقادمة من القاع الضاج بالألم والثأر، واذا كان الكائن المضمحل الذات أو الممتص الذات أو المحاكي لنموذج اخر قد قام بفعل القتل البطيء وعلى مراحل من أجل التشفي( كان يرتدي البدلة الزيتونية صورة التماهي الخارجية) وطرح عليها الأسئلة ذاتها التي تلقاها خلال التحقيق في السجن( التماهي مع النموذج بصورته الداخلية باللغة الصاخبة والبذيئة نفسها) فلأنه لم يكن يحاكم الامور بناء على بنية عقلانية بل بنية نكوصية طفلية رَسخَ عندها هاجس الانتقام وهو شعور غير عقلاني أصلاً.

قبل القتل المباشر، كان يمارس دور الجلاد الخفي في الكوابيس والأحلام مع نفسه ومع زوجته وهو الدور الذي سيمارسه على أرض الواقع وبهذه اللغة يسرد رؤيته لنفسه:(كان ثائر مجدول يقف أمامي ، يمزّق ثيابه و يذرف الدموع و كان صراخه عجيبا حقا، يشبه صراخ امرأة يتم اغتصابها بوحشية . كان ثائر ماردا لعينا يحاول افتراسي و تدمير كل ما حولي ورأيته يجذب خمائل من شعرها ثم يسحبها على الأرض).

 لكن المحير في مفارقات هذا العقل كيف يمكن القيام باعداد المسرح بالمعنى الحرفي للمسرح:كرسي وديكور وزمن اعداد ومراحل... والخ:(بدت الغرفة كاملة التجهيز) وهو عمل عقلاني صرف لكن للقيام بمهمة قتل وحشية وهي حالة جنون؟ هذه الحيرة جاءت أيضا في سؤال لضابط بوليس نرويجي قبل سنوات طرحه على نفسه بذهول في مقابلة على إثر عملية اغتصاب جماعية قام بها طابور عراقي من عدة أفراد لفتاة نرويجية كانوا جميعا قد استعملوا العازل الجنسي وهو أقصى العقلانية والاغتصاب هو انهيار العقل:كيف حصل الجمع بين لحظتين متنافرتين من اجل أداء منسجم وفعل واحد؟ وربما قد لا تكون هذه خاصية عراقية بل هي واحدة من طبائع العقل الانساني حيث العقل يتضمن الجنون وبالعكس، ويمكن الانتقال من العصر الى الغابة والكهف عبر باب رقيق ما أن يغفل الرقيب بأشكاله الرقابية الداخلية والخارجية المتعددة.

هكذا أعلن هذا الكائن بدء المحكمة:(في الرابعة و النصف تماما توجهت إلى غرفة خمائل جذبتها بعنف ، فزت من نومها هلعة و استبد بها الذعر . سحبتها من شعرها إلى الغرفة و طرحتها هناك على الأرض . لم يكن لملامحها وجود لقد مسخت خمائل مسخا و أمست شيئا آخر . أمرتها بالجلوس على الكرسي أمام المكتب و أغلقت باب الغرفة بإحكام ثم عدت لاتخذ مكاني خلف مكتب التحقيق: ـ السيدة خمائل اسمك الثلاثي و اللقب ؟) الخ الأسئلة التحقيقية. ولم يكتف بذلك بل قام بما هو أبعد: (وبالفعل أعملت الشفرة بذلك الشيء الخبيث، سلخت منه قطعتين صغيرتين من لحمه الذابل و جلست نصف جلسة لأتمكن من تقطعيه جزءا جزءا حتى أسمع منها اعترافها لكنها اكتفت بصرخة...).

حين لم يجد كائن الغالبي الذات أو الشيء أو الموضوع البديل(أو الصحيح بتعبير أحد الكتّاب) الذي يمارس عليه تماهيه غير زوجته(كذات) وخيانة (كموضوع) وتعذيب ثم قتل( مشاعر جديدة) فلأن مفهوم الشرف عنده يعمل خارج مفهوم الشرف السياسي، ولأن العقل الجريح يخلق عقلاً خاصاً يشكل دورة عمل مستقلة ذاتية الحركة تعمل خارج العقل المركزي وتكوّن مدارا صغيرا منفصلا عنه وعن الطب والعلاج والحجز والعقاب والنصح والحكمة والعلم ولا علاج له غير الحل العاطفي المتنوع والانتقام أحد أقذر أشكاله، ولا يشكل اغتصابه هو قضية بمستوى الخيانة، واذا كانت هذه الامور تُحل على المستوى العقلي والمنطقي الهادئ لكنها، على المستوى العاطفي، شديدة التعقيد والتداخل، وفي ثقافة أخرى كان الزوج سيجد هذه تضحية كبرى أقدمت عليها الزوجة: الحقائق الاجتماعية كالأفيون، زراعة محلية، واختلافها من مكان الى آخر يكشف زيف مفاهيم الحقائق الاجتماعية المطلقة.

إن انتهاك الشرف في السجن( شرف الكائن الجنسي) جاء من عدو وهو قادر على ايجاد تسوية أو صفقة عقلانية مع الذات قائمة على هذه الفرضية، ولأن الانتهاك الثاني جاء من داخل كيانه الأخلاقي والبنيوي والعائلي فهو أمر صعب الاحتمال: الغفران أو الصفح  ـ النسيان غير ممكن ـ ربما للجلاد الأصلي أمر محتمل وممكن من خلال محاكمة عقلانية مع الذات من باب الرحمة أو الشفقة أو اللاعقاب أو اللاقصاص أو الرأفة أو النبل الشخصي أو التسامي... الخ والصفح الرسمي، خارج القلب، هو حمام دم مقبل، لكن تغيب المحاكمة العقلانية مع قضية شرف لا يتم الوعي بها في كون الجاني واحدا: الكائن المتحول الى جلاد والمتماهي معه غير قادر، في لحظة الانهيار، على  أن يصفح عن الضحية الحقيقية(الزوجة)لكنه قادر على أن يتجاهل عن خوف مقيم معتق أو عن تشوش بلا غفران ولا صفح ولا نسيان عن الجلاد الأصلي للأثنين: في وضع لاعقلاني تتشابه الصور وتنقلب المعاني والأشياء.

حصل ذلك مع المسؤول الحزبي الذي أنقذه من السجن عبر صفقة الزوجة( بل تضحيتها الجسدية والأخلاقية من أجله هو) الذي كان يتردد على المنزل بسلاحه وثيابه الحزبية وكانت صلاته مع الزوجة مستمرة وقد اكتشف(الكائن) هذه العلاقة وتلصص عليها مرة عبر النافذة الخلفية، بل تواصل معه بعد ذلك تحت حكم الأمر الواقع، ليس النسيان والغفران والصفح ولكنه التأجيل والكبت، وعند سقوط العاصمة جاء هذا المسؤول الى منزله، متخفيا:( فاجأني هاشم وهو يرتدي ملابس ريفية أنيقة وجديدة، عباءة وكوفية و عقال و شارب غليظ لا أعرف متى تمكن من زرعه في وجهه).

في الفوضى لجأ هذا المسؤول، هارباً، الى بيت الكائن وزوجته وهما ضحاياه وكانت الزوجة غائبة في مكان آخر، فهل تماهى هو الآخر مع الضحايا وتقمص دورهم من أجل الخلاص في دورة التعاقب العراقية بين ضحية وجلاد وبالعكس؟ هل عاد الى مكان جريمته؟ لكنه قُتل من قبل مسلحين دخلوا المنزل وهو في فراش العائلة، اي فراش الزوجية، وتركوا الكائن بدون مساس. بدون مساس؟ كيف؟ قتلوا مغتصب الزوجة الذي كان ينام على فراش الزوجية وتركوه سالماً من الخارج لكنه جريح مرة ثانية لمفهوم آخر واخز: الشجاعة. هل كانوا أكثر مروءة منه؟ هل اللانتقام شجاعة أيضا؟ هل كونهم قتلة يكفي لوجود مسافة ذكورية وأخلاقية بينه وبينهم؟ من أي منظار نشاهد المشهد؟ وكون الكائن غير مشارك في وليمة القتل العام، وغير معني بها، وخارجها، ألا يدل على شرف؟ وكونه قتل لسبب واضح ومحدد بصرف النظر عن الاسلوب وبناء على جرح نرجسي، الا يدل على أمر ما ينبض في بقايا الكائن؟  الأمر يتناسل ولا ينتهي.
 
هؤلاء الذين صفوا حسابهم مع (الجلاد) هم الذين مشوا (في الطريق الصحيح) وليس الكائن نفسه الذي( مشى في الطريق الخاطئ)حسب رأي سابق عرضناه: ولا ندري ماذا سيحصل لو استمرت هذه الدوامة؟ وأين مكان الصحيح والخطأ في قتل متبادل؟ الانقراض التدريجي؟ هل الطريق الصحيح هو قتل الجلاد أم قتل النظام المنتج له؟ في تفكيك جسد الجلاد أم في تفكيك النظام الاجتماعي والثقافي والسياسي الحاضن؟

لكن هل صحيح مضى الكائن الروائي( وليس الواقعي) في الطريق الخاطئ؟ لسنا هنا في محاكمة اجتماعية قضائية اخلاقية عن الصحيح وعن الخطأ لأن الأخلاقية الأدبية شيء والاخلاقية الاجتماعية شيء آخر، ولا يمكن قراءة الأولى بمعايير الثانية، لكن يهمنا في الأساس هو أن هذا الخيال الروائي قد انتج نصاً روائيا ًمثيراً وواعداً بكثير من الآمال وباسلوب نقي ونظيف واحترافي في أول عمل روائي، رغم اليقين المزدوج: ان عربة ابراهيم حسيب الغالبي اذا استمرت على هذا النحو في "الرواية" فستعطينا فناً روائياً مدهشاً لكن هذه العربة نفسها لو استمرت في" الواقع" خطأً أم صواباً، فستسحق الجميع يوما، ولن تتوقف الا عند حافة هاوية أو هياكل أطلال وأنقاض وخرائب ينعق فوقها، في غسق أحمر مشتعل، منذ عصور، بوم التاريخ.

هامش: ابراهيم الغالبي روائي وشاعر عراقي ولد في الناصرية 1973، وأصيب في أحداث عام 1991 وهو اليوم على كرسي متحرك.