وجوه متعددة لحركة الأدمغة العربية |
المقاله تحت باب في السياسة "أما أنا فأقول لكم إن الحياة ظلمة حقاً إلاّ حيث يكون الحافز، وكل حافز أعمى، إلا إذا اقترن بالمعرفة... وكل معرفة هباء إلاّ إذا تحولت عملاً". هذه العبارة المأثورة لجبران خليل جبران اختتمت "تقرير المعرفة العربي لعام 2009"، وكان ينبغي أن تكون فاتحته وبرنامج عمله. فهذا التقرير الذي أطلق مؤخراً هو ثاني تقرير عن المعرفة العربية أصدره "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي"، وهو ثاني تقرير يصدر في العام الحالي عن المنظمة الدولية. وقد أضحت تقارير سابقة ساهم في إعدادها بعض مؤلفي التقرير الجديد مراجع تاريخية. "الخطة الشاملة للثقافة العربية" أصدرته "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" مطلع الثمانينيات في ثلاثة مجلدات، وبلغ عدد صفحاته 1524 من القطع الكبير. وقبل نحو ربع قرن صدرت "استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي" التي استغرق إعدادها خمس سنوات وكلفت نحو مليوني دولار، وسبقتها "استراتيجية تطوير التربية العربية" عام 1979، و"الاستراتيجية العربية الاجتماعية الشاملة" عام 1985. ويتميز التقرير الجديد بكونه ثمرة الجهد المشترك بين "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" و"مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم" التي تملك وقفاً بقيمة عشرة مليارات دولار. وكما يقول الأديب البريطاني سومرست موم فإن "النقود هي الحاسة السادسة التي لا يمكن من دونها الاستفادة من الحواس الأخرى". وهل يمكن من دون "الحاسة السادسة" قراءة خريطة ما يُسمى حركة الأدمغة العربية؟ هنا كما يقول الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو: "أيها المسافر ليس هناك طريق، الطرق تصنع بالمشي". وعلى الباحث في ما يُسمى نزوح الأدمغة العربية أن يشق بالمعنى الحرفي طريقه عبر حركة ضخمة، معقدة، متشابكة، وبالغة الحيوية، تندفع في اتجاهات مختلفة، متنافرة، ومتفاعلة، كذلك نتائجها؛ سلبية وإيجابية في آن، ثورية ومحافظة، وذات عواقب فتاكة أحياناً. هذا هو مضمون ورقة خلفية أعددتها بطلب من "تقرير المعرفة العربية للعام 2009". تشير الورقة التي حملت عنوان "الحركة الإقليمية والدولية للكفاءات العربية"، إلى لافتات الطريق المتقاطعة والمتراكبة، الجاذبة والطاردة: نزح الأدمغة، اكتساب الأدمغة، هجرة العقول، عودة الكفاءات، انتقال الكفاءات، دوران الكفاءات، الحركة الإقليمية، الشتات العلمي، الأدمغة المبدعة الجوالة، الكفاءات العابرة "الترانزيت"، الهجرة القسرية، اقتناص الأدمغة، نهب الأدمغة، والنزوح الفتاك. ويختلف تقييم نزوح الأدمغة من المنطقة العربية ما بين اعتبارها نقمة أو نِعمة. بعض الباحثين يعتبرونها فرصة للخروج من الحلقة المفرغة التي تدور فيها اقتصادات نامية لا توفر للرأسمال البشري معدلات نمو عالية. ويشيرون في ذلك إلى التحويلات المالية للمغتربين التي يعتبرها "البنك الدولي" من الروابط الملموسة بين الهجرة والتنمية. وبلغ مجموع التحويلات إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر من 25 مليار دولار في عام 2006. ويمثل هذا 3 في المئة من إجمالي الإنتاج المحلي في المنطقة لعام 2006، و37 في المئة من صادرات الخدمات التجارية، و31 في المئة من الصادرات الصناعية ، و87 في المئة من معونات التنمية الرسمية. وقد تساوت حصة كل من المغرب ومصر ولبنان من مجموع التدفقات المالية الخارجية لعام 2006 حيث بلغت حصة كل منها 14 في المئة، فيما بلغت حصة كل من الجزائر والأردن 7 في المئة، واقتسمت الباقي البالغ 43 في المئة بلدان المنطقة الأخرى. ولا تكمن القيمة الحقيقية لتحويلات المغتربين العرب في حجمها المالي فحسب، بل في دورها في عملية استثمار القوة العاملة العربية المهاجرة داخل المنطقة، أو ما يطلق عليه اسم "رأس المال الاجتماعي العابر للحدود". ورغم الأرقام القياسية العالمية لتحويلات المغتربين العرب فإنها تفتقر إلى دراسات وبرامج ومشاريع قد يستثمر فيها "تقرير المعرفة العربي". وفرص استثمار وقفية "تقرير المعرفة العربي" كبيرة في مشاريع وبرامج تحول مشكلة نزح الأدمغة إلى مكسب. وقد ركزت تجارب عدة بهذا الصدد على دور الشتات العلمي في تدوير المعرفة من أجل التنمية، كبرنامج (توكتن) الذي أطلقه "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" عام 1977. شرع برنامج "توكتن"، والذي يتكون عنوانه من الحروف الأولى لعبارة "نقل المعرفة عبر المواطنين المغتربين"، بمسح الكفاءات العربية في الشتات وتطوير قواعد بيانات تضم معلومات عن خبراتهم الأكاديمية والعملية، وإقامة شبكة علاقات مباشرة بينهم وبلدانهم الأصلية، ودعم نفقات استقدامهم إليها لفترات محددة. ويمكن أن تقوم وقفية "تقرير المعرفة العربي" بدور رأس المال المخاطر في المشاريع المخصصة لعلاج آثار ما يُسمى "نزح الأدمغة الفتاك". وضعت هذا المصطلح القناة الفرنسية FRANCE 24 لتصوير فداحة نزح الأدمغة العلمية في العراق، وما سببه من أضرار مادية ونفسية بعيدة المدى عندما استهدف القدرات العلمية للعراق خلال فرض الحظر الدولي على العراق بعد عام 1991، واتخذ طابعاً فتاكاً لا مثيل له في التاريخ منذ الغزو الأميركي عام 2003. الأرقام المفجعة عن المأساة التي تضمنها التقرير الجديد ينبغي أن تكون حافزاً لتمويل مشاريع بادر لها المجتمع العلمي العربي، بينها "بيت الخبرة العراقي" و"المستشفى العراقي"، وبرامج عدة جاهزة للاستثمار طوّرتها الكفاءات العراقية الطبية والهندسية والأكاديمية النازحة. وقد أدرك العالم الفلسطيني أنطوان زحلان منذ عقد أول ندوة عن "هجرة الكفاءات العربية" عام 1980 أن "كون الشخص مهاجراً، أو يعاني من العمالة الناقصة، يصبح مشكلة من مشكلات الجغرافيا البشرية، وكون هجرة الكفاءات إلى الخارج قد تفيد أو لا تفيد بلداً أجنبياً، أمرا ضئيل الأهمية في نظر البلدان النامية... فإن ما يهم أساساً هو مدى إسهام هذه المهارات في تطوير مجتمعاتها". وأوراق "المعرفة العربية" في حجم وقفيتها. فورقتي التي تتكون مع ملاحقها من عشرة آلاف كلمة، واحدة من 30 ورقة أعدها أفراد نخبة مجتمع المعرفة العربي، بينهم عالمة الطب الإماراتية رفيعة عبيد غباش، رئيسة "جامعة الخليج العربي" سابقاً، وعالم الفيزياء النووية اللبناني حسن الشريف الذي رأس خلال ثلاثة عقود البرامج التكنولوجية الصناعية في "اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا"، وعالم الكومبيوتر المصري نبيل علي، مؤلف أهم الكتب العربية حول هندسة وبرامج الكومبيوتر، ومصمم برنامج القرآن الكريم، ومؤلف مشروع "كمبيوتر صخر" ومديره خلال 30 عاماً، والأكاديمي التونسي الطاهر لبيب، مدير "المنظمة العربية للترجمة" التي أسسها وموّلها مجتمع المعرفة العربي، ويربو عدد إصدارتها منذ تأسيسها عام 1999 على المائة، والباحث المصري نادر فرجاني الذي لعب دوراً أساسياً في إصدار وتحرير سلسلة "تقارير التنمية الإنسانية العربية". |