عباس بيضون: العراق امتحان لإنسانيتنا |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات ما ان قررت السفر إلى بيروت حتى أخذت أرتّب في ذهني، قبل ترتيب حقيبتي، أسئلة لعباس بيضون، قرار لقائي معه بدا أمراً بدهيّاً، أمر يُتخذ دون تمحيص، لأنه من التلقائية بحيث لم أحتج معه إلى إعمال نظر، ذهابي إلى بيروت يعني ذهابي إلى عباس بيضون، فهو بمعنى ما وجه لبنان العراقيّ، عراقيته تسبق لدينا لبنانيته، لأنه من القلّة التي كانت معنا، ولأنه شاعر ترك أثراً على شعرنا، ولأن كثيراً من آرائه الشعرية أو السياسية كانت على الدوام مادة لجدل عبر الحدود واستقرّ في بغداد. * بغداد وبيروت ودمشق والقاهرة؟ *القضية الفلسطينية كانت في أوجها بالتاكيد؟ * هذا الشعور ليس فقط لدى المثقفين الذين مروا بلبنان بل هو أيضاً شعور المثقفين الذين لم يأتوا الى لبنان، أنت في كل هذا الكلام تحدثت عن علاقة عامة لك بالعراق، علاقة يمكن أن تكون لأي مثقف لبنانيّ بالعراق، ولكنني أشدد على ان لك علاقة خاصة، يعني من يقرأ مثلاً مقالك (ويلي على بغداد).
عباس بيضون: اوه، هذا قديم جداً. * قديم جداً، ولكنني محتفظ به حتى الان، ومن يقرأ أيضاً العمود الذي تحدثت به عن أغنية عراقية (ضاع من ادية ولد وخايف على الثاني) يرى فيه عمق المأساة العراقية بعينيك أنت، وكأنما كنا بحاجة لشخص من خارج هذه الرقعة التي نحن بها ليظهر مدى عمق هذا الجرح، وأنا أشدد انك في عدم زيارتك لبغداد كما في مقالاتك الكثيرة في الشأن السياسي والثقافي، كنت في علاقة خاصة مع العراق. عباس بيضون: أنا لا أعطي لنفسي هذا الامتياز، الانفعال لما يجري في العراق هو ايضاً وجداني، بمعنى ان هناك بين مثقف مثلي وبين العراق أكثر من رابطة، هناك رابطة اللغة، بمعنى كان للعراق دائما لغته الخاصة، عندما افكر بالشعر العراقي افكر به على هذا النحو، ان الشعراء العراقيين الجدد بخاصة منذ السياب الى يومنا هذا قدموا لنا العراق، لانعرف شعراً جديداًٍ اتصل بترابه كما هو الشعر العراقي، عندما اقرأ السياب مثلاً وأقرأ غيره وسأتكلم عن السياب بوجه خاص، أشعر بأن السياب على نحو ما يتمثل الطبيعة العراقية وان المشهد العراقي حاضر في هذا الشعر، مع ان القصيدة الجديدة العربية، إلا في العراق بدتْ وكأنها تتنصل من علاقتها الترابية هذه، لا نجد تراباً ولا رملاً ولا مطراً تقريباً إلا في الشعر العراقي، وبالتالي كان الشعر العراقي ينقل الينا شيئاً من التراب العراقي ومن الصحراء العراقية وبالتالي أشعر أحياناً بأن العراق ممكن ان يكون بالنسبة لأي عربي موطناً ثانياً، هذا المكان لا أظن ان بلداً آخر يتمتع بهذه الميزة، قد نستثني فلسطين، لكن فلسطين الوطن الغائب، هي الوطن الذي لا يحتاج الى وجود، هي، اذا جاز التعبير، وطن حاضر في غيابه وبالتالي نتساوى جميعا ً في امتلاكه، العراق ليس غائباً، العراق ليس الحضارة العباسية وليس المتنبي وابا نؤاس، شخصياً لا أقيم صلتي بالاماكن فقط على هذه القاعدة، الماضي هو الماضي ولا بد لنا من الحاضر لنقيم صلة مع مكان ومع شخص، أظن ان العراق ولا أعرف لماذا، كان موجوداً في حاضرنا وموجوداً على نحو مأساوي، بالنسبة لي فالعراق مأساة، ولا أفكر بالعراق الا على انه مأساة، عندما كنا في العصر الملكي كان عمري لايتجاوز الثانية عشرة، كان العراق بالنسبة لي حتى يومذاك مأساة، لا اعرف لماذا نتجه نحن الى ان نتعامل مع العراق على هذا النحو الماساوي، كأن العراق حاجتنا الشخصية لمأساة ما، كأن العراق مأساتنا الخاصة، كنا في ذلك الحين نشعر بان العراق مكان فظيع، ثم انني لم اسمع في بلد عربي من الفواجع والخسائر التي طالت أناساً كما حدث للعراقيين، كلما التقيت بعراقي انتظر ان يكون مثلاً فقد عشرين وثلاثين من عائلته او ان يكون نصف العائلة تحت التراب، ثم ان العراق كان بالنسبة لي مكاناً ملغزاً لأننا لايمكن ان نتخيل ان ثمة حجماً من الرعب وحجماً من المأساة والصبر على الرعب وعلى المأساة وحجماً من ابتلاع واحتواء الرعب والمأساة كما يمكن ان يكون الأمر في العراق، هناك بلدان بالنسبة لنا تبدو وكأنها جحيم، عندما نتكلم عن العراق نتكلم مثلاً عن تشيلي في فترة من الفترات وعن الأرجنتين. بالنسبة لي كلما تحدثت عن العراق بدا العراق وكأنه جزء من اللاوعي، هذا اللاوعي الخائف والمرتعب، جزء من لاوعيي الخاص، بدا العراق بهذا المعنى يحتل جانباً من داخلي هو جانب من هذا اللاوعي الجحيمي المسكون بالخوف والهواجس، عندما ذهبت الى أربيل ولأول مرة أكون في أرض عراقية ولكنها ليست بغداد والبصرة، ليست المدن التاريخية، المدن التي تؤثث ذاكرتي وثقافتي، في أربيل أسمع بان خزعل الماجدي فقد أبنه، ولا املك الا أن أبكي، انا أعرف خزعل الماجدي، أعرفه شاعرا ًطلقاً وسيماً ملحمياً وفجأة اعلم انه فقد ابنه، في هذه اللحظة شعرت باني فقدت ابني ورحت أبكي، بكيت لخزعل. الخلاصة ان العراق أعطانا هذا البعد المأساوي، هناك في لبنان مأساة، أعرف كثيراً فقدوا أعزاء، وانا من الذين فقدوا أصدقاء حقيقيين، لم افقد ابناً فانا لم أكن متزوجاً، فقدت اصدقاء حقيقيين، فقدت بعض أقرب اصدقائي ومع ذلك بقيت الماساة العراقية تحتل في لاوعيي هذا المكان الجحيمي الذي لم تحتله حتى المأساة اللبنانية، والان عندما اتابع ما يجري في العراق وأعد أرقاماً وهمية، كم عراقياً فقد في هذه الأحداث الأخيرة بعد كل الذي جرى ايام صدام، هناك مليون عراقي، لا نعرف العدد ولكن هناك دائماً عدد أسطوري، والعراق وحده هو المكان الذي تتكون فيه هذه الأسطورة او هذه الأساطير المأساوية، هو المكان الذي تحوله الماساة الى نوع من الأسطورة، العراق بهذا المعنى اسطورتنا التراجيدية، وبالتالي فوقوفنا الى جانب العراق يبدو استثنائياً. الى ذلك اننا عندما نقف الى جانب العراق، نقف في الواقع الى جانب انفسنا ونسعى من وراء ذلك ان نقدم شهادة عن عدالتنا، هنالك أماكن لا نستطيع أن نمر بها مرور الكرام، هناك قضايا لا نستطيع إلا ان نقف منها موقفاً، وذلك الموقف بالدرجة الأولى هو امتحان لنزاهتنا الخاصة و(لإنسانيتنا)، اظن ان الأمر كان دائما ً كذلك عندما تتعلق بالعراق، بالنسبة لي كان واضحاً وبدون لبس ان علينا ان نتخلص من صدام، قبيل الاحتلال قلت هذا بوضوح، ليذهب صدام وبعد ذلك فلنفكر باي شيء آخر، لكننا لا نستطيع ولدينا فرصة للتخلص من صدام ان نتفاداها ولأي سبب كان. * أحببت أن أنتقل من ماضي العراق المأساوي الى حاضره الذي ربما لا يقلّ مأساوية، كيف استقبلت التغيير في العراق؟ عباس بيضون: بالنسبة لي كتبت ذلك بوضوح، في فترة من الفترات تابعت العراق كأي عراقي وكتبت أسبوعياً مقالاً عراقياً وأصدرت عدداً لا بأس به من الملاحق والملفات حول العراق ولم أكن الوحيد في ذلك، اهتمت الصحافة اللبنانية اجمالا ً بالحدث العراقي وخصصت له ملفات متلاحقة، بالتالي علقت اذا جاز التعبير على كل مستجدات الوضع العراقي، كان واضحاً بالنسبة لي عندما كانت الدعوة التي استقطبت عدداً كبيراً من رفقائي واصدقائي ومن أبناء بيئتي السياسية، انه لا هنا ولا هناك، لا مع صدام ولا مع الاحتلال، بالنسبة لي، لم تكن هذه قضيتي، لم أكن أنا الذي جرّ الاحتلال ولم يستشرني أحد، كانت هذه مسألة خارج اختياري، انما لم يكن في مقدوري الا أن أنتظر بفارغ صبر نهاية صدام، وأحد المقالات التي كتبتها كان عنوانها واضحا ً (دعوه يسقط)؟ * دعوه يسقط لوحده؟ عباس بيضون: نعم، دعوه يسقط لوحده. بالنسبة لي كان هناك من يطالب الدفاع عن صدام ضد الاحتلال وكنت أجد هذا الرأي مغلوطاً، لكنه كان عملياً، كان هناك اناس يقولون اننا بين صدام وبين الاحتلال، نختار صدام، هناك من اختار صدام، انا لم اختر الاحتلال ولكنني اخترت سقوط صدام ولم اكن مسؤولاً بالطبع، عن الطريقة التي سقط بها صدام، كنت أتمنى لو سقط صدام بايدي العراقيين، هذا صحيح، لكن سقط صدام وكانت هذه فرصة، لايمكن ان أقف ضدها، هذا ببساطة، بعد ذلك أظن ان الوضع العراقي بدا بالنسبة لي ولايزال، مختبراً واضحاً للتردي العربي، فسوء الفهم المقصود للوضع العراقي، انا لا اعتبر ان سوء الفهم هذا عفوياً ولا أعتبره مجرد غشاوة ايديولوجية، اعتبره مقصوداً وأعتبره واعياً، لأن سوء الفهم المقصود للوضع العراقي، يدل على ان منطق التحرير كان باستمرار هو منطق الديكتاتورية، وان منطق (التحرير) كان باستمرار منطق الحرب الأهلية، الان نلقي اللوم على الاميركيين وليس هذا خاطئاً ولامغلوطاً، الحرب الاهلية في العراق لابد ان للاميركيين يداً فيها، بتعاليهم وغطرستهم وجهلهم المطبق للمنطقة وادعائهم الوصاية والوكالة عن العراقيين، العقل الاميركي لا يحمل لما هو خارج عنه الا سذاجة ايديولوجية وعماوة ايديولوجية وتصديق ساذج بان الاميركيين هم رسل الحرية والديمقراطية للعالم، لانستطيع ان نبرئ الاميركيين بدون شك، ولكن لا نستطيع ان نتهم الاميركيين بالحرب الأهلية، الحرب الاهلية هي جزء اساسي في منطق تحرير العربي، هناك حيث توجد حركة تحرير يوجد مشروع حرب أهلية، هذا الأمر موجود في فلسطين وفي لبنان وأيضا ً في العراق، عندما نتكلم عن مقاومة وبغض النظر عن أي محمول ايديولوجي أو أي بيئة يمكن ان تتلون بها أو أي سلوك انتحاري او انحاري يمكن ان تلبس، هذه المقاومة هي بدون شك، غير معنية بمقارعة الاستبداد وغير معنية بمعالجة الانقسام الاهلي وهي لاتملك، لا هنا ولا هناك، لا مشروع حرية ولا مشروع وحدة، كنت افكر في هذا، خاصة الان، عندما بدا ان العراق رغم كارثته الهائلة وقدرته الهائلة على انتاج الكارثة، لان الكوارث العراقية دائما ً تتم باحجام اسطورية والماساة العراقية دائما بحجم اسطوري، رغم هذا الرعب الجديد الذي زرعه الوضع العراقي فينا، بعد رعب صدام، هناك رعب التداعي والاقتتال الأهلي والرعب الأهلي ورغم كل ذلك، بدا بما يشبه المعجزة، ان العراق يخرج من مأساته، وبدا هذا الخروج بدون تباشير، وبدأنا نعلم من الصحف الاجنبية ان وتيرة العنف بدأت تخف، ثم علمنا انها وصلت الى نسب ضئيلة، ثم علمنا ان مدينة الصدر او الثورة باتت هادئة وتحت الدولة ثم علمنا ان الدولة وجدت على نحو ما، وان صداماً جرى ضد طرف ثم ضد الطرف النقيض طائفياً ثم علمنا بفرح بالغ بخسارة ميليشيات في انتخابات بلدية، كل هذا يعني بان ضوءاً ما في نهاية النفق، وان هناك سبيلاً ما الى الخروج، بدا بكلمة واحدة، ان العراق الذي غرق على نحو مخيف في الكارثة، استطاع ان يتجاوز الحرب الأهلية، دعك من الظروف ولكن بالتحديد تجاوز الحرب الاهلية في الوضع العربي هو معجزة، نحن لا نعرف كيف يمكن ان نخرج من الحرب الاهلية، لايعرف الفلسطينيون ولا اللبنانيون ذلك، بل بالعكس لا شيء سوى مطحنة الحرب الأهلية سوى الوتيرة اليومية للحرب الاهلية، سوى الحرب الاهلية بالالفاظ واحيانا باكثر من الالفاظ ،سوى الانقسام الاهلي بتمويهات ايديولوجية كبيرة او صغيرة، لكن يبدو ان الحرب الأهلية هي مأزق الحاضر العربي وهي مأزق الركود العربي ومأزق الانسداد العربي، مأزق لانعرف كيف نخرج منه. * ربما لأننا لانمتلك ثقافة الحوار؟ عباس بيضون: شيء أكثر من ذلك، هو جزء من الانسداد التاريخي العربي، عندما نصف التاريخ العربي الراهن، نصفه بالانسداد، هناك مأزق لا مخرج منه، هناك ركود واستنقاع متفاقمان، هناك درجة من التهرؤ المتزايد بالمعنى الكمي والمعنى الكيفي وعندما يستطيع بلد ما ان يعطينا اشارات أولى بانه حقق أمرين عجيبين، الأمر الأول هو الخروج من الحرب الأهلية أو على الأقل بداية ردم الحرب الأهلية ثم بداية انشاء الدولة، هاتان معجزتان حقيقيتان لانعرف كيف نصل اليهما لأننا لانعرف أصلاً سر هذا الركود، سر هذا الاهتراء، لانستطيع ان نفسره لا ثقافياً ولا تاريخياً، لا نعرف كيف وصلنا الى هذا الدرك وصرنا فجأة في حالة من الاستنقاع وفي حالة من الخروج المتزايد والمتفاقم من العصر ومن العالم وفي نوع من اليأس المطبق. * أليس هذا اتهاماً ًللثقافة والمثقف، انه لا يعرف الآلية التي تتحرك بها الكارثة ولايعرف لماذا هذا الانسداد واننا نفتقد القدرة على فضّ هذا النزاع مثلاً او لا نملك القدرة على خرق هذا الانسداد، اذا كان المثقف لايعرف فهل نعوّل على السياسي؟ عباس بيضون: انا لا استطيع ان اعول على المثقفين في أمر كهذا وهذا لايعني انني اعول على السياسيين، لكن دائماً هناك ناحية لدى المثقفين نستطيع ان ندعوها سذاجة، المثقفون هم اول المخدوعين، المثقفون هم المروجون الايديولوجيون، هم الدعاة. المثقف داعية. * كان يقال، انه بائع أوهام، فهو مخادع؟ عباس بيضون: يمكننا ان نتكلم عن افيون المثقفين في كل مكان وفي كل حين، هناك افيون للمثقفين في كل مرحلة، هناك مثقفون يعيشون بدرجة ما على هذا الافيون وبالتالي، المثقفون هم بناة أوهام بدرجة ما، هذا لايعني اننا نشمل الثقافة كلها، هناك ايضاً ثقافة تذهب الى الجهة النقيض، يعني ثقافة تتجه الى نزع الأوهام ربما لزرع أوهام مضادة لكن هناك ثقافة تسعى لنزع الأوهام وهناك ثقافة تسعة للخروج من الشبكة الايديولوجية واعادة امتحان الواقع واعادة سؤال الواقع بالتأكيد ولكن حتى هذه الثقافة، منيت واظن انها لاتزال تمنى بنوع من الحيرة المخيفة بنوع من الارتباك المخيف، هناك كتاب لمثقف شهيد هو سمير قصير، هذا الكتاب الذي قرأته منذ سنوات بالواقع اني قرأته بعد استشهاد سمير قصير الذي كان صديقاً وشاباً وانا لاأحب استخدام كلمة استشهاد كثيرا لكن في حالة سمير قصير، الكلمة تعنيني خاصةً، سمير قصير شهيدي شخصياً كمثقف، سمير كتب نوعاً من تأملات الشقاء العربي ونستطيع ان نستنتج من هذا الكتاب ان كل ماهو ايجابي وكل ماهو دافع وكل ماهو واحد وكل ماهو مقوم من مقومات البناء والتقدم يتحول في العالم العربي الى عنصر سلبي والى عنصر ركود والى عنصر اهتراء، المال، الموقع السياسي، البترول، وحدة الثقافة، وحدة اللغة، التاريخ المشترك، كل هذه العناصر التي هي عناصر ايجاب ودوافع تقدم لدى الاخرين، تحولت لدينا الى عناصر سلبية والى عناصر ركود، موقف سمير قصير أفهمه تماماً لأني اعيشه فهو موقف الحياة، نحن لانعرف حتى الان وعلى وجه الدقة لماذا نحن هكذا؟ وبالتالي عندما نجد نموذجاً واتمنى ان يكون حقيقياً كما ان هناك ايضاً علائم تجعلنا نشكك بهذا النموذج العراقي، فمثلاً عندما اقرأ في مجلة فرنسية بأن الاميركيين عندما يسلمون ثكنة عسكرية الى العراقيين يسطو الأمن العراقي عليه في ساعتين وينقل أثاث هذا المركز واجهزته الى البيوت، عندما اقرأ أصاب باحباط، لكن مع ذلك اتمنى لمصلحتي الخاصة ان افكر على نحو آخر، ان هناك هذه الانتخابات أمر عظيم ان يربح المالكيّ، لست مع المالكي، لست في معرض انحياز سياسي، لا أعرف من هو المالكي ولا أعرف الوجه العراقي على وجه الدقة، لكن فقط أعرف ان هناك شخصاً او جماعة فازت بالانتخابات ضد المسلحين، هذا بحد ذاته أمر عظيم، بغض النظر عن أسماء السياسيين، فالرجال يذهبون وينتهون ويمرون لكن الظاهرة يبقى لها معناها، ورغم ذلك وهذا هو المضحك ان العرب محبطون من هذا الخروج العراقي، هذا النموذج يحرجهم ويتنافى مع عقلهم السياسي، نحن فعلا ً لا نفكر بالدولة ولا نفكر بالخروج من الحرب الاهلية، الحرب الاهلية هي حاضرنا على كل المستويات والدولة هي باستمرار أكذوبتنا، واظن اننا نتفق فيما بيننا على هذا، وان تقدميينا ويساريينا ومجاهدينا ومناضلينا يتفقون على هذا، الثورة بالنسبة لهم هي الفوضى، هي الاقتتال الاهلي، هي العنف الدائم، الخروج من العنف، الخروج من الحرب الاهلية يحرجهم ويحرج ايضاً المثقفين من بينهم. * هذا ما أردت قوله، اليست هذه الصورة العراقية بكلّ مأساتها، مسؤول عنها ايضاً المثقف العربي؟ عباس بيضون: من هو المثقف العربي؟، علينا أن لا ننحو نحواً اتهامياً، بدون ان نستمتع بالانتقاص من المثقفين العرب. بالنسبة لي انا واحد من المثقفين العرب ولا استطيع ان أفرز نفسي من بينهم، وسواء ذهبت الى هذا المنحى او ذاك فانني في نهاية الأمر والتحليل واحد من هؤلاء، مع ذلك يمكننا ان نتحدث عن الثقافة العربية والمثقفين العرب على نحو واقعي، عندما نتكلم عن المثقفين العرب، نحن نخلط الحابل بالنابل ونضع المثقفين مع الدعاة، الثقافة العربية إلا في القليل النادر ليست ثقافة، الثقافة العربية هي دعوات ودعاوى ومن نسميهم مثقفين عرباً هم في واقع الأمر دعاة، هم محرضون ومنشدون وزجالون، ومنمقون، بمعنى ان هؤلاء يرثون أفكارهم ولا يصنعونها وهذه الافكار هي بدرجة ما شعبية او شعبوية، نستطيع القول انه منذ اواسط القرن الماضي بعد 1948 وحتى قبلها، تكوّن نوع من الرطانة الثقافية الشعبية او الشعبوية، ككره الغرب، والبحث عن بطولة وبطل، والذي يؤدي عادة الى الاستبداد، الحلم بحرب، والعقل الحربي، وتصور الشعب على انه جيش، وتصور الدولة على انها رئاسة أركان، وتصور القائد أو الرئيس على انه قائد عسكري (جنرال) والحلم بحرب مقبلة تنتهي دائماً بهزيمة ولكن دائماً هناك حرب، وهناك دائما أناشيد حرب، وهناك دائما أساطير الحرب. ثم هناك ترحيب بالعنف على انه مقدمة حربية بما فيه العنف الداخلي والعنف الأهلي. * نوع من القربانية؟ عباس بيضون: نعم هناك العقل الاستشهادي بطبيعة الحال اللاحق بهذه المخيلة الحربية ثم هناك ما نسميه هذا العقل السياسي الشعبي، هناك طبعا الكليشهات الكبرى، حب الوطنية المضمرة والعنصرية المضمرة والطائفية التي هي وجه عنصري، كل هذه الأمور تشكل عقلا ً سياسياً تم تكوينه عبر مراحل عدة، شعبي ولانعرف كيف تكوّن وكيف تأسس، لابد ان هناك مثقفين شاركوا بتأسيسه ولكن هذا العقل السياسي وهذه الرطانة السياسية، مانسميهم مثقفين هم في الغالب مجرد مغنين ومنشدين لهذه الرطانة، وبالتالي لانستطيع ان نسمي هؤلاء على نحو ما مثقفين، لا بمعنى طلب الحقيقة، أي المثقف الباحث، ولا بمعنى المثقف المناضل، أي النقدي الذي يضع نزاهته الأخلاقية ونقديته ويحكم قراره ورأيه الفردي ضد المجموع، كما كان الأمر مع (أميل زولا) عندما أطلق هو كلمة مثقف وأطلق كلمة (إني أتهم). يعني المثقف الذي هو مناضل وصاحب موقف ضد المزاج العام الذي هو بأحيان كثيرة، مزاج طائفي ومزاج عنصري ومزاج شوفيني ومزاج تواطئي ومزاج إعدامي، هؤلاء ليسوا مثقفين بمعنيين، لاهم باحثون يضعون الحقيقة نصب أعينهم ولاهم المناضلون الفرديون، هؤلاء مجرد منشدين ومتمدحين ومتحمدين، ويصنعون ذلك ببراعة، يظنون ان الحقيقة قد وجدت وتكونت بهذا العقل الشعبي، هذه الرطانة بالنسبة لهم هي السياسة وهي النضال والوطنية. وطبعاً هناك عدد لا يصدق ممن نسميهم مثقفين، خاصة الأدباء مثلاً، أدباء يكتبون اشعاراًجيدة أحيانا وروايات جيدة لكن عقلهم السياسي هو هذا العقل الشعبوي، مثلاً عندما اقرأ نصف الرواية العربية أجد ان هذه الرواية ولدت تحت هذا الادقاع الثقافي وهذه الرطانة السياسية. كل الرواية السياسية هي رواية بلهاء سياسياً ولا تملك اي ثقافة سياسية، ثقافتها السياسية كلها مستمدة من هذا العقل الشعبي الذي تظن انه هو السياسة وانه هو النضال وانه هو الحق. * ربما لأن المثقف العربيّ أحد اثنين، إما أن يدخل السياسة من باب الحزب أو انه لايتتدخل في السياسة؟ عباس بيضون: هذا صحيح تماماً، ولهذا المثقفون أو مانسميهم مثقفين في الواقع هم قلة، نسميهم مثقفين بمعنى انهم الناس الذين كرسوا انفسهم للثقافة، الثقافة بالنسبة لهم هي قضيتهم ويظنون ان المثقف يبحث عن أفكاره ويجدها بنفسه، ينشئها بنفسه وان الثقافة هي على نحو ما طلب الحقيقة حتى لو تعارضت مع انحيازاتنا وارثنا ومسبقاتنا الايديولوجية والسياسية والخ .. الخ، هؤلاء مثقفون بالمعنى الغربي للكلمة هؤلاء ايضا المثقفون الذين يكرسون نفسهم للقراءة ايضاً، طبعاً القراءة جهد والثقافة عمل وعندما تكون مثقفاً لا يكفيك ان تتحدث الى الناس بالمقاهي ولا يكفيك ان تقرأ جرائد ولايكفيك أن تسمع الراديو والتلفزيون ولا يكفيك ان تقرأ بعض القصاصات، ان تكون مثقفاً هذا عمل، عمل أن تقرأ باستمرار وأن تناقش باستمرار، هذا يعني ان تذهب الى الأبعد والأعمق في القضايا التي تعنيك، عندما أريد ان اتخذ موقفاً عن العراق ينبغي أن أعرف شيئاً عن العراق وشيئاً كافياً عن العراق، عندما اتكلم عن العولمة كما يتكلمون مثقفونا، طبعاً وهذا ايضاً يعني ان الثقافة الشعبوية تعيد انتاج نفسها، مثقفون ضد العولمة، لااريد ان ادافع عن العولمة لكنهم لايعرفون شيئاً عن العولمة، مثقفون يتحدثون عن الانهيار الاقتصادي بوصفه انهياراً للرأسمالية كما تعلموا في صفوف ماركسية ساذجة، مثلاً عندما يتكلم مثقفون عن الغرب وهم لايعرفون شيئاً عنه، يتكلمون بهدوء ان هنالك متغربين، انا لا أجد ان هناك مثقفين متغربين لأن مثقفينا حتى الذين يدعون العلمانية لا يعرفون شيئاً عن الغرب، الغرب بالنسبة لهم مجرد مفهوم، مجرد كليشيه، كليشيه الاسلام وكليشيه الغرب وكليشيه الاستعمار وكليشيه الامبريالية، انا لا أنكر هذه العناوين لكن اظن ان مثقفينا الا في القلة النادرة لم يفهموا ان الثقافة عمل وان الثقافة جهد وان الثقافة معرفة وبالتالي فان هؤلاء يلتقطون الكليشيهات من هنا وهناك، هم صناعة المقاهي وصناعة الحديث السائر وصناعة الشائعة الثقافية، يمكننا الحديث عن شائعة ثقافية. * في أي حديث عن الثقافة او عن الفكر ربما يكون للمثقف بعض الخصوصية في ادائه، لكننا، ولا نعرف لماذا، نلحظ ان المثقف في المواعيد الكبرى يخلف نفسه، حينما يتحدث عن السياسة وعن المآزق السياسية يتساوى بها كما قلت مع ابن الشارع، لكن هناك نوع آخر من المثقفين، المثقف الذي يدير ظهره للواقعة، لا يهمه ما يحدث وكأن الكوارث العابرة أمام انفه تحدث في مكان آخر فتراه يقرأ ويكتب وهو مجدّ لكنْ باغماض كامل عما يحدث؟ عباس بيضون: لا أعرف ان كان يوجد هذا النوع المثقفين في العراق ولكنه قد يوجد في لبنان، هناك طبعاً من وقت لآخر موجة بريئة مثلاً ، موجة وجودية، يوجد مثقفان أو ثلاثة، شاعران أو ثلاثة يظنون ان قضاء الوقت في الحانة هو بحد ذاته انجاز للثقافة وقد نجد مثقفين او ثلاثة او اربعة يظنون ان عبادة الجمال هي كل مايريدونه من انفسهم لأنفسهم، نجد مثل هؤلاء من وقت لأخر لكن ليس هذا هو السائد، دعك من سوء النية، نعم هناك مثقفون مباعون والمثقفون الذين يعملون بخدمة هذا النظام او ذاك لايعنوني كثيراً، البارحة كتبت مقالاً عن غوتسيلو والجائزة الليبية التي رفضها، وتكلمت عن صلاح فضل، امثال صلاح فضل لايعنونني، هؤلاء مباعون، لكنْ دعنا نتحدث عن مثقفين حسنت نواياهم وهم عند انفسهم صادقون وهم يريدون ان يخدموا، هؤلاء علتهم ليست في انهم يديرون ظهرهم الذين يديرون ظهرهم للواقعة، ليست لدينا مشكلة معهم، هؤلاء ينتجون ما ينتجونه في مجالهم الخاص اذا كان ناقداً جيدا ننتظر نقده، واذا كان شاعرا ً ننتظر شعراً جميلاً، وان كنا في قرارتنا نظن ان شعراً لا يملك انشغالاً بالحياة المباشرة يصعب عليه ان يكون عميقاً، لكن هؤلاء لايوجدون في لبنان، في لبنان يوجد تيار ثقافي، نشأ هكذا عندما تتحدث عن ثقافة منشأها سعيد عقل، منشأها أيضاً (النهار)، ثقافة يوتوبيا حتى لو كانت يوتوبيا التخريب والاحتجاج، لكن يوجد نوع من اليوتوبيا، دائما يوجد نوع من ملكوت أدبي، ملكوت ثقافي يجهل كيف يقيم الحوار وكيف يقيم الصلة بينه وبين عالمه. * سادت في هذه النصوص النزعة الانجيلية؟ عباس بيضون: هناك البعض حتى في لبنان، وانا اتحدث بالنسبة لي عن ثقافة حالية، عن ثقافة فعلية، ثقافة المثقفين بالمعنى الذي تحدثت عنه، هذه الثقافة نشأت في الحرب، ثقافة متماسة جداً مع المعيش، مع الحياة المباشرة، مثلاً سعيد عقل نموذج لشاعر بالرغم انه يتكلم كثيرا في السياسية، لكن السياسة التي يتكلم فيها سعيد عقل ليست سياسة، هي نوع من حلم سياسي يوتوبيا سياسية، تخريف سياسي، أظن السبب افتقاره لثقافة تاريخية، لأن السياسة مندمجة بالعقل التاريخي المعاصر. * لكن اكثر المثقفين في لبنان يتحدث عن التاريخ لانهم عاشوا في التاريخ؟ عباس بيضون: لا يعيش في التاريخ، هذا أمر آخر، سعيد عقل يعيش في اسطورة، يعيش في نوع من الخرافة التاريخية، نوع من اليوتوبيا التاريخية. * هناك نوع من المثقفين منتج وفاعل لكن أشعر انه انكب على نصه بحيث تشعر أنه أصبح آلة لانتاج هذا النص فقط؟ عباس بيضون: انا لا أريد ان اتهمهم … * ليس اتهاماً، فأنا لا أتحدث عن الجانب الاخلاقي. عباس بيضون: أنا أرحب بوجود هذا المثقف المختص، المثقف العاكف على موضوع وهو ينتج ويعمل في حقله ويريد فعلا ان يتعمق في هذا الحقل، هو مستقل لا نتهمة ولا نطلب منه ان يلتحق بنا، لانه باحث، لنعتبره اكاديمياً أو ربما يكون شاعراً، لم لا؟ حتى ان كان هذا الاكاديمي يعيش في علبة، واذا كان يعمل مثلا على التاريخ الاموي ويستطيع ان يصل الى شيء في التاريخ الاموي الاسلامي فهو ينجز شيئاً او يضيف شيئاً، يضيف ما نستطيع نحن ان نستثمره في حقول أخرى، هذا النوع من المثقفين أنا ابحث عنهم، لكن ما يزعجني كثيرا هم المثقفون السياسيون بلا سياسة الذين يظنون انهم يفكرون وهم لا يفكرون، الذين يظنون أنهم يجدون أجوبة وهم في الحقيقة لا يجدون شيئاً. هذا ما يزعج فعلاً اذ انهم يستغلون هذه الرطانة الشعبية ويعيدونها في شعرٍ أحيانا أو في رواية أو في تعليق سياسي أو في كتب تدعي الأكاديمية وكتب تدعي الموسوعية وكتب تدعي التحليل. عندما اقرأ مثلاً عدداً من المفكرين السياسين الذين ينظرون للوحدة والعروبة لا اجد اي شيء غير المظاهر. هؤلاء هم الذين يزعجونني وهم الذين يجرّون الى نوع من الخديعة الدائمة. اننا وسط ثقافة لكننا في الحقيقة لسنا وسط شيء لان الثقافة العربية ثقافة ذات هامش ضيق، هي موجودة ولا نريد اطلاقاً ان ننتقص منها هناك عدد قليل جدا من هؤلاء الذين يعتبرون الثقافة عملاً جاداً وهم يحاولون طرح المسائل التي يظن الغير انها سهل حلها ويحاولون من جديد قراءة هذا الاستنقاع التاريخي، ان مثقينا الذي كرسوا حياتهم للثقافة لا يقرأون! اليست هذه مصيبة؟ فليذهبوا ويعملوا في شيء آخر، عندما تقرر ان تكون مثقفاً سياسياً وأنت لا تقرأ، أو تقرأ القليل القليل، أين تكون ثقافتك؟ هذه برايي جريمة كبرى،هؤلاء لا ينفعون بشيء، هذه نسخ لعقل شعبوي، لعقل لا ثقافي اتحدث بهذه الطريقة لأنني لا أجد مثقفين ولا أعول كثيراً عليهم. عددهم هائل وهم يشكلون أكذوبتنا الكبرى. * كيف هي معرفتك بالمشهد الشعري العراقي الحالي ؟
عباس بيضون: أنا اعرف الشعر العراقي منذ ما قبل الرواد، اعرف الرواد جيداً، سعدت ايضاً بالتعرف على كثير من شعراء العراق الذين التقيتهم، معرفتي جيدة بالشعراء الثمانينيين لكن معرفتي مشتتة للأجيال اللاحقة. أعرفك أنت على سبيل المثال، لكني لا أعرف من تلاكم من الأسماء، لا أعرفها كما ينبغي لشخص يدعي المعرفة، أقرأ نصوصاً عراقية جديدة أحب بعضها ولا أحب البعض الآخر، حقيقة لست مطلعا كفاية على المستجدات الشعرية ليس في العراق فقط بل في سائر البلدان العربية الاخرى، أعرف جزءاً من المشهد الشعري المصري والمغربي، أعرف اسماء كنت قد قرأتهم سابقا وفوجئت بتطور تجاربهم. * يبدو لي أن علاقتك بالشعر العراقي متناظرة اذ ان شعراء العراق يعرفونك بوصفك شاعر (صور) التي أثرت على المنجز الشعري العراقي لكن مجاميعك اللاحقة لم تصل؟ عباس بيضون: أنت تعلم اني كنت متردداً في نشر (صور)، كتبتها سنة 74 قبل الحرب الاهلية، بعدها توقفت لسنوات عديدة عن الكتابة، هذا التوقف لم يكن مجانياً او تكاسلاً مني، (صور) ذات فضاء إنشائي ملحميّ مكانيّ، بعد الحرب لم يعد بوسعي الكتابة بهذه الرؤية الملحمية، لم يعد بوسعي العودة إلى طبقات تأريخية ومدى جغرافيّ. * هل لأن هذا الإنشاء والملحمية تستبطن احتفاء بالحياة بما لا يتناسب والحرب؟ عباس بيضون: نعم، الحرب ضيّقت الحياة وضيقت المكان. في الحرب عشنا بلا زمن لأنه تحول إلى لحظات مجزأة، اختفت الطبقات الزمنية والتأريخية، ثم ان المكان نفسه تحوّل إلى مكان جزئيّ، صار مطبخاً وغرفة نوم وانتهى إلى أن يكون أربعة جدران، ومحلاً للاحتماء من القذائف، مكان للموت الاعتباطيّ، وسجن داخليّ. لم يعد النَفَس الملحميّ يمثل شيئاً إزاء ركاكة ورقمية ما يجري، رقمية القتلى والخسائر والأحداث، لهذا توقفت أربع سنوات عن الكتابة، وعدت بعد قراءة ريتسوس الذي أعطاني معادلاً للربط بين الميكرو ِِوالمايكرو، بين الأفق التأريخي والميتافيزيقي وبين الشؤون الصغيرة، اليومية والشيئية، فصور هي قصيدة ذات خصوصية في شعري بهذا المعنى. * البعض يعزون صور الى تأثرك بسان جون بيرس؟ عباس بيضون: سئلت مرات عديدة عن هذا الموضوع وقلت ليس بيرس وحده بل في صور اكثر من شاعر. القسم الثاني من صور فيه والت ويتمان، وكان على العراقيين الذين تأثروا بوايتمان ان يكتشفوا ذلك بسهولة. * كثير من العراقيين تأثروا ببيرس أكثر. عباس بيضون: بيرس موجود ووايتمان كذلك طبعا، على الاقل هذان الشاعران موجودان بنحو ما في (صور)، لكن الواقع ان صور فيها المقطع البحري البيرسي، هو مقطع بحري بالمعنى الدقيق للكملة بالمعنى الاستيضاحي للكلمة، لكنك لا تجد بحر بيرس، بحره مجازي وهو بحر يعاد تكوينه . اذا شئنا الحديث عن البيرسية التي في الشعر العراقي، هي البيرسية التي جاءت من ترجمة أدونيس، وهي بدت بالنسبة لي مشكلة شعرية اكثر منها حلا ، عندما اقرأ الملاحم الشعرية العراقية في تلك الفترة، خزائيل خزعل الماجدي مثلاً التي كتبت عنها، وبعض كتابات زاهر الجيزاني. * وماذا عن كمال سبتي؟ عباس بيضون: كمال سبتي أمر آخر، فهو تابع نوعاً من البيرسية السطحية بمعنى كان هناك انشائية كثيرة في عمل سبتي كنت اظن ان هنالك شيئاً لبنانياً فيه، ان هنالك نوعاً من الجمالية البريئة والسطحية قليلاً بينما اجد ان عمل خزعل الماجدي تجاوز ذلك كما اعرف جيداً فقد أوصل لي نصه (حية ودرج) ولم يكن نصاً بيرسياً. الخلاصة أظن ان ترجمة ادونيس لبيرس خلقت في الشعر العراقي ضرباً من الخديعة الشعرية فقد أوحى انه يمكن عن طريق الشعر انتاج قصيدة ثقافية شاملة، ولكن عندما نقرأ هذه القصائد الثقافية الشاملة لم يكن فيها شيء شامل سوى ترجيع الايقاع وكان هذا الايقاع يأكل المعاني والصور ويحول القصيدة الى شبكة ايقاعية ضخمة لا تصل الى شيء. هذا ما اظن انه ليس في صور فبيرسية صور متواضعة بمعنى عدم وجود اي ادعاء ثقافي كبير. * فيها الحس الملحمي ولكن من دون أهداف ملحمية؟ عباس بيضون: بحر صور هو بحر مادي مجسد وترابيّ وأرضيّ. * يبدو لي الآن ان الشاعر يغترف معانيه والفاظه مما بين يديه دون تدبر كثير، صار هناك نموذج واحد لقصيدة تتكرر؟ عباس بيضون: هناك شيء في الشعر العربي بدأ يصبح شاملاً، هناك تيار شعريّ يتغذى من بعضه البعض، القصيدة تتجه إلى نوع من النمذجة، وإلى نوع من المتوسط الشعريّ، والقصيدة المشتركة بين كثيرين ولا نعرف لها مؤلفاً لكنها تبدو خلاصة للعمل الذي سبقها أو الذي أحاط بها، هذه قصيدة متوسطة، فيها متوسط عمل، متوسط خيال، عادة العرب بارعون فيها، بسرعة يتوصلون إلى نموذج وإنتاج قصيدة مقبولة، وليست خارقة، لكن هناك باستمرار بحثاً عن الخروج من النمذجة، في قصيدة النثر تحديداً، لأن قصيدة التفعيلة تنمذجتْ وانتهى أمرها. * والدور الآن على قصيدة النثر؟ عباس بيضون: أنا أشدد على الفارق بين قصيدة النثر والتفعيلة، قصيدة النثر فنّ مختلف تماماً، هما نوعان مختلفان، لا يدعي احدهما انه يحلّ محلّ الآخر، أو انه متطور عن الآخر، قصيدة النثر صنعها شعراء كانوا يكتبون الوزن وكتبوها بوصفها فناً آخر، بودلير مثلاً حين كتب (سأم باريس) "مع ان الترجمة غير دقيقة"، فإنه كان شاعر أزاهير الشرّ، كتبها وهو يعي تماماً انه كتب شيئاً آخر، ففكرة الاستبدالية بين قصيدة النثر والتفعيلة لا تعنيني في شيء، والصراع بينهما نوع من الهرج. * مع ان هذا الصراع استغرق منا جهداً وزمناً كبيرين؟ عباس بيضون: وما زال الصراع قائماً في مصر للآن، انه نتيجة للسخف الإيديولوجي الذي أنتج لدينا مهاوي ومهازل، هذا الصراع لم يكن في الشعر الفرنسيّ، بدليل ان شاعر الوزن الأكبر في الشعر الفرنسيّ هو من أسس قصيدة النثر. الخلاصة ان هناك نمذجة، وقد بدأ التكلّس في قصيدة النثر لدينا لولا ان هناك قليلين من الأأجيال كلها ما زالوا باحثين عن معادلة جديدة في قصيدة النثر. * هناك شاعر عراقيّ قال ان الداخل للشعر اليوم كالداخل إلى الصين لتشابه الوجوه، مع ان هناك من يطمح إلى الخروج من الشعر بالشعر، ما العاصم من هذا التشابه؟ عباس بيضون: لا أرى مشكلة في ذلك، لا عاصم من ذلك، التشابه قدر. * لكن يفترض في كلّ شاعر انه باحث عن التمايز عن سواه؟ عباس بيضون: الشعر ليس فناً للعباقرة، هناك دائماً شعراء متوسطون، الشعر هواية، وهناك دائماً أناس يحبون الشعر ويعملون، وينتجون نصوصاً متوسطة مقبولة وممكنة وقابلة للقراءة وممتعة نسبياً، وبالتالي هذا التشابه مما لا يمكن تفاديه، والبحث عن شعراء كبار يبدو أمراً عقيماً، فلا نجد أحياناً شاعراً خارقاً، لأن الشعر في الأخير عمل. ثم ان الشعر فن شاب، بمعنى ان الشاعر هو من يستطيع أن ينتج كتابين جيدين أو ثلاثة وقد ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، وبالتالي فإن البكاء على الشعر ونعيه لمجرد ان هناك عدداً متزايداً من الشعراء المتوسطين لا يبدو بالنسبة لي منصفاً، بل يبدو لي ان من صالح الشعر وجود مثل هؤلاء الشعراء المتوسطين فهو يعني ان النتاج الشعريّ العامّ مقروء، أنا يفاجؤني شخصياً الاطلاع على أسماء شعرية أنساها لكني أجد هنا وهناك قصيدة لافتة، وأجد ميلاً أو سعياً أو التفاتاً إلى آفاق شعرية جديدة، مثلاً ما يعنيني أنا شخصياً كشاعر، قد أكون بالنسبة لك شاعر (صور)، لكني كتبت كتباً مختلفة، بعد (صور) أتى (الوقت بجرعات كبيرة)، نقد الألم ومدافن زجاجية، وكفار باريس وفصل في برلين، وبالتالي هناك باستمرار محاولة لايجاد شيء، فسؤالي الشعري باستمرار ما زال في أوله، ولا نستطيع القول أننا فعلاً أنجزنا حلولاً جازمة ونهائية، ما زلنا تقريباً في الأول، ولأن الشعر في الأصل هو ذلك الفن الذي لا يملك تعريفاً لنفسه، يملك الشعر القدرة على مس الحقول الأخرى برعشته، يبقى مثلاً بالنسبة لي عندما أفكر بالشعر، أفكر بالتوتر، كلمة التوتّر هي الكلمة الأولى التي تحضر، هل تستطيع أن تنقل هذا التوتر إلى نصّ آخر؟ بالتالي الشعر نوع من فايروس يدخل إلى حقول أخرى، وبقدر ما يستطيع هذا الفايروس أن يتوسع في الحقول الأخرى يمكن أن نصل باستمرار إلى هذا المزيج الغريب الذي يشكّل الشعرُ جزءاً منه، نحن كشعراء نثر نعرف ذلك جيداً، بالنسبة لنا ليس الشعر حقلنا الوحيد، الشعر باستمرار هو هذه الرعشة، هذا التوتر الذي نريد أن ننقله إلى النثر، وكما نقلناه الى النثر بشكل عامّ، نريد أن ننقله باستمرار إلى أنظمة وحقول أخرى، هذه هي الصلة التي نقيمها بين الشعر والنثر، كم توسعت القصيدة في النثر؟ دعك من هذا النثر النثريّ، هذا النثر الذي يأتي باصطلاحه النثريّ، النثر الذي يظن أحياناً انه إذا كتبنا كلمة مترو أو كلمة قطار أو كلمة ساعة أو كلمة بار فقد دخل النثر، لا، أعني النثر بكلّ إنجازه الإيقاعيّ والنحويّ والتعبيريّ، وهو نثر ذو شاعرية هائلة، شاعرية تتجاوز الشعرأحياناً كثيرة، أتكلم عن الرواية الحديثة مثلاً، لا نجد فيها إلا فضاء شعرياً، الشعر يملك قدرة على توتير النصّ وتكثيفه وتحويله إلى خلاصة شعرية. * من خلال كلامك، هل نحن في برزخ لا اسم له؟ برزخ تختلط فيه الأنساق الشعرية بأنساق كتابية أخرى؟ عباس بيضون: نحن شعراء النثر لسنا شعراء، نحن نملك فقط الدربة أو السعي الى بلبلة حقول أخرى بفيروسنا الشعريّ، بتوتيرنا وتوترنا، الشعر الآن هو اقتراح، محاولة حلمية لخلط نقيضين، كما هو الشعر بمعناه الأعم، فإذا كان الشعر هو محاولة إضافة شتيتين وإيجاد مكان وحيّز بينهما فممكن أيضاً لقصيدة النثر أن تنقل هذا إلى مستوى هو ليس "ميكرو" وإنما "مايكرو"، بمعنى أن نستطيع أن تجده في حقول متعددة (سياسة ، جغرافيا، علم، نحو، قانون، علم جمال، فلسفة، مقالة سياسية) هذه المجالات والأنظمة، المتعددة، يمكن أن نفكر بتحويلها إلى استعارات كبرى، وأن نجد هذا الوتر، الذي يجعلها تتناظر، وتتقابل في نصّ واحد وأن تشكّل فيما بينها حيزاً جديداً، مكانا جديداً. أفكر مثلاً، وأتمنى لو أن الشبان العراقيين يقرأون أشعاري الأخرى ... * أنت مقروء على نطاق واسع لكن.كان لقصيدة صور الحضور الأكبر. عباس بيضون: أنا أنصح أن تُقرأ (ب ب ب) مثلاً، وتُقرأ (الموت يأخذ مقاساتنا) ، وأقترح هذا لأن هناك محاولة لايجاد تقاطع، وقصيدة النثر هي تقاطعات كبيرة، تقاطع بين المقالة والشعر، بين الفكر والتحليل وبين الشعر، بمعنى ان هذه التقاطعات لا تسيء للشعر، الآن عندما نكتب قصيدة، هذه القصيدة هي باستمرار القدرة على هذا المسّ، والشعر مسّ، هذا المسّ يستطيع أن يخلق وتراً بين استعارات عديدة وكبيرة آتية من أمكنة مشتتة، من أماكن مختلفة وأنظمة فكرية وسياسية متباينة. هذا بالنسبة لي ما أبحث الآن عنه. قصيدة النثر مفتوحة للغاية بهذا المعنى، وما زلنا في الأوائل فعلاً. وينبغي التفكير الآن في الشعر كمجهود، الشعر كعمل، ونفكر فيه كثقافة، بمعنى انه أيضاً محلّ لايجاد كلام موسوعي وتقاطعات كلامية بدون أن تكون هذه التقاطعات مجرد عبث، بل تقاطعات موجودة في الكثافة والرعشة الشعريتين. * لاحظت في قصائدك، في صور مثلاً وبشكل آكد في (حجرات)... عباس بيضون: حجرات استكمال لصور تقريباً. هي "صور" أخرى. * نعم بالضبط، لاحظت فيهما أن هناك خيطاً واحداً يمسكهما وهو الرغبة بكتابة سيرة ذاتية شعرياً. عباس بيضون: هذا صحيح، صور كانت سيرة ما قبل الولادة، سيرة مكان، حجرات تماماً هي سيرة أمكنة متعددة، وهي استعادة لقصيدة صور، كلامك صحيح جداً، هذا الشغل كان إما استعادات أو ارتدادات، ترتدّ من نصّ لتلف على نص آخر أو تستعيد نصاً آخر. * في (ب ب ب) كان ذلك واضحاً أيضاً، سؤالي هو إلى أي حدّ ووفقاً لأية ستراتيجية يمكن أن يتحوّل ما هو سيرة ذاتية الى شعر؟ عباس بيضون: لا أعرف. فهذا لم يكنْ مشروعاً لي، في الحقيقة أنا شخص أستطيع أن أسمي نفسي قليل الخيال، لا أستطيع الكتابة إلا مقابل شيء أعرفه، هناك شعراء "أكثر خيالاً" بمعنى انهم يكتبون عما هو غير موجود، غير مرئيّ.. *: يكتبون استيهامات مثلاً؟ عباس بيضون: لا، الاستيهام شأن الشعر، لكنّ هناك شعراء يمكن أن يكتبوا من لا موضوع، يمكن أن يكون الشعر نفسه موضوعهم الدائم، والشعر يمكن أن يقول نفسه، واللغة تقول نفسها، وهذه ليست مشكلة، يمكن للغة أن تقول نفسها إلى ما شاء الله. * التفاف مستمر للشعر حول نفسه. عباس بيضون: تماماً ويمكن للشعر الخروج من لا موضوع، أو أن يكون موضوع نفسه، ويمكن أن يكون موضوعه مجرداً لأن الأفكار هي أيضاً صوَر، ولأن الأفكار هي ليست شيئاً مختلفاً عن الشعر، لكني بالنسبة لي وبسبب "ضآلة خيالي" فقد كتبت باستمرار مقابل شيء ما، الشعر بالنسبة لي تماماً هو افتتان بشيء ما، ومحاولة الكتابة عن شيء ما، والتفكير المستمر في تحويل هذا الشيء إلى إيقاع، الشعر بالنسبة لي (ولآخرين أيضاً) تناظر بين شيء ما موجود وبين تحوّل هذا الشيء إلى إيقاع. هذا ما كان بالنسبة لي فاتناً، وهو ما أستطيع أن أفعله. عندما أكتب (صور) مثلاً، تحولت هذه القصيدة رغماً عني إلى قصيدة مكان، في الواقع اني وفي مقطعها الأول عن البحر لم أكن أدري ماذا أكتب، ولكنها فجأة تحولت إلى قصيدة مكان، لكنْ يمكن أن نقول مثلاً ان (الوقت بجرعات كبيرة) كانت محاولة إيجاد مقابل ما للحرب اللبنانية. وهذا ما جرى ضمن عدد من الكتب، (مدافن زجاجية) قصيدة سجن، أنا دخلت إلى السجن في اسرائيل وقضيت فيه شهراً، وهي قصيدة كتبت بما يشبه أن يكون نقشاً للسجن. وقد كتبت بعد خروجي من السجن بشهرين، وكأنها على نحو ما حفرٌ "بالمصطلح التشكيلي"، بعدها أتت (حجرات) التي هي سيرة كما رأيتها أنت، بعدها (نقد الألم) التي هي في جزء كبير منها مذكرات سجن ومذكرات إسرائيلية، ثم (أشقاء ندمنا) التي هي سيرة غرامية، ثم (كفار باريس) الذي هو عن باريس، ثم (فصل في برلين) عن برلين، (أبواب بيروتية) عن بيروت، (شجرة تشبه حطاباً) هو مرثية لابن أختي المنتحر، ثم الآن القصائد التي كتبتها أخيراً ولم أعمل عليها بعدُ هي استعادة ما لصلة ببسام حجار، صديق العمر الذي توفي منذ فترة قصيرة، وأظن انه معروف لديكم كشاعر كبير، الخلاصة اني باستمرار أعمل كما يعمل الروائيّ ، لا أستطيع الانطلاق من لا شيء، لا أستطيع الكتابة من خيال بحت، الخيال عندي ممتزج بمعادل خارجيّ. * ربما لهذا السبب أنت مهتمّ بالشعر العراقي؟ عباس بيضون: نعم هذا سبب علاقتي بالشعر العراقيّ فعلاً، حبي للسياب متأت من هنا. * لأن السياب غير منبتّ عن أرضه؟ عباس بيضون: لأنه شاعر له مقابل لشعره، ليس الشعر موضوعه فقط، هناك أمكنة ومدن، هناك سيرة، هناك باستمرار شعر مع شيء آخر، وهذا الشيء الآخر هو ما يعنيني. * ألهذا السبب لجأتَ إلى الرواية؟ عباس بيضون: نعم صحيح. * لكني ألاحظ لديك في الرواية أنْ لا وجود حتى لما يذكّر بالشاعر. عباس بيضون: صحيح جداً، هذا صحيح تماماً وهذا ما أعنيه بدقة، في نثري أنا لست شاعراً. *هذا في السرد فقط. عباس بيضون: في السرد وحتى في المقالات، لأني أرى أن النثر يملك جمالياته الكبرى، أنا أجد في النثر شاعرية قد لا أجدها في الشعر.أنا مفتون بالنثر، وهذا واحد من أسباب انحيازي لقصيدة النثر، أنا ذهبت لقصيدة النثر لافتتاني بالنثر، ولهذا أظن ان المباراة بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة لا معنى لها، من يظنون ان قصيدة النثر شعر يتوهمون، لأن قصيدة النثر مختلفة في نظرتها للعالم وفي فلسفتها، هي شيء آخر غير الشعر، ليست قصيدة النثر امتداحاً للعالم، بل هي سؤال العالم، كما هي الرواية تماماً، في قراءتي للروايات العربية فإن أكثر ما كرهته هو روايات الإنشاء الشعريّ، وأكثر ما وجدته سخيفاً للغاية، خذ مثلاً روايات حيدر حيدر، ربما سيقتلني الآن (يضحك)... * أو سليم بركات.. عباس بيضون: سليم بركات أحب أن أفضله شاعراً، وهو في رواياته الأخيرة بدأ ينتبه وبدأ يعطي للسرد وللوصف وللحركة حيزاً أكبر، آخر رواياته فيها مقاطع رائعةِ في الوصف. * حتى في شعره الأخيرة لاحظت انه يتخلى قليلاً عن الزركشة اللفظية. عباس بيضون: لا أعرف شعره الأخير، لكن سليم بركات هو أحد شاعرين، وهو في المطرحين مُعدٍ، وأظنه أعدى الشعر العراقيّ بما يكفي. * تماماً. عباس بيضون: واثر بما يكفي في الشعر العراقيّ، هناك اذن المطرح القاموسيّ، حيث يتحول الشعر الى سيولة قاموسية، الى لغة فلكية وإلى لغة بلا موضوع، لغة ترجيع ايقاعيّ، وهناك مطرح آخر أحبه عند سليم بركات أسميه تغبير اللغة، في الفن التشكيلي (وأنا أعود باستمرار للفن التشكيلي في أمثلتي عن الشعر وأجدها أوضح) هناك فنانون يقومون بتغبير اللوحة، لاشعار المشاهد كما لو كانت انتيكات، لوحات قديمة، هذه اللوحة القديمة بألوانها وقماشتها هي ليست قديمة وإنما هي إنشاء مسافة بيينا وبين الزمن، اللوحة تشهد بمسافة بين زمنين، والحقيقة ان زمنها هو الحاضر لكنه زمن قائم على مسافة تجاه الماضي، بعض شعر سليم بركات الذي أحبه يوحي بهذه المسافة، ليس فيه سيولة قاموسية، ليس قديماً وليس استثارة للقاموس وللغة القديمة ولكنه مسافة بينه وبين اللغة. رواية سليم بركات الأولى. * تقصد (فقهاء الظلام)؟ عباس بيضون: نعم، الحقيقة لم أستطع قراءتها وبدت لي ضعيفة الخيال، وانه لا يمكن بهذه اللغة كتابة رواية، وما زلت عند رأيي بها، لكنْ يمكن بهذه اللغة انجاز شيء، وفعلاً أنجز سليم بركات بتجاربه المتعددة ما نستطيع ، أو لا نستطيع، أن نسميه رواية، لكنه أنجز حفريات نثرية بعضها جميل. * اذن انت تخليت عن حقن سردك بشاعرية ما، وهذا لصالح الرواية. عباس بيضون: أنا في السرد أكتب حواراً عامياً حتى. * أقصد حتى في سردك الذي لا حوار فيه، خذ مثلاً كتابتك في مجلة جسد، العدد الأخير... عباس بيضون: أوه (يضحك) ... هذه فضيحة. * هذا في السرد، لكنْ اسمح لي أن أخالفك لأقول انك في مقالاتك تحافظ على كثير من الأنساق التي تذكر بك شاعراً. عباس بيضون: بعضها ربما * هذا الالتفاف على اللغة، محاولة الاستبطان وتقشير المعنى وخلق عمق والالحاح عليه وصولاً أيضاً إلى خلق إيقاع.... عباس بيضون: الأسلبة هذه شيء لا بدّ منه، هذه لعنة لا أستطيع الخروج منها، الأسلبة أو التوقيع أمر لا يمكن لكاتب فعليّ أن يخرج منه. * لننتقل إلى سؤال في منطقة أخرى، هل يمكن لشاعر أن يتنصل من نص ما له، لأن هذا النص لا يتوافق مع ما صار عليه الآن هذا الشاعر، أسأل هذا السؤال وأفكر بنص لك حوّله مارسيل خليفة إلى أغنية وهي أغنية (يا عليّ)؟ عباس بيضون: في الواقع هو ليس نصاً واحداً، هناك كتب كثيرة لم أنشرها. * ما لم تنشره له حكاية أخرى لكننا نتحدث عن نصّ أصبح أغنية شائعة. عباس بيضون: ما جرى في الحقيقة هو التالي: كنت عضواً قيادياً في منظمة العمل الشيوعيّ وأثناء هذه الفترة سجنت وخرجت سنة 1973 من المنظمة، وخروجي من العمل السياسيّ كان خروجاً من مجتمع كامل، لأن وجودنا في تنظيم يساروي ذلك الوقت كان يعني وجودنا في حياة كاملة، كنا نناضل ونتصاحب ونتصادق ونأكل ونشرب وننام مع بعضنا البعض، كان العمل الحزبي يؤطر حياتنا بكاملها، فخرجنا فجأة إلى فراغ فعليّ وإلى نوع من الوحشة الكاملة. وفي هذه الفترة كنت أعيد قراءة نيرودا الذي هو موجود في نصي الذي غنى مارسيل مقطعاً منه، وفي الفترة ذاتها حصلت حرب رمضان، حرب العبور، وهذه الحرب اثرت كثيراً فيّ، بحيث كنت أصل حدّ البكاء من فرط انفعالي، وكنت أثناء الحرب أجمع تبرعات، كنت منشغلاً عاطفياً ونفسياً حتى الثمالة، حتى الذروة بهذه الحرب التي وضعتني ـ أنا الخارج من العمل السياسيّ ـ مجدداً في هذه المعاناة السياسية مما جعلني أفكر بكتابة قصائد سياسية خاصة بعد أن قرأت نيرودا، والقصائد السياسية هي طبعاً ذات أغراض سياسية، لم أكن أفكر بكتابة قصائد سياسية على طريقة العرب مما يسمى بالشعر الوطنيّ، كان هذا الشعر بالنسبة لي سخيفاً، مواضيع قصائدي سياسية وليست وطنية، الموضوع الوطني موضوع حربيّ : معارك وهمية وانتصارات وهمية ومفردات الأمة والعروبة والبرتقال والبساتين والوطن الخ، أنا باختصار كنت أريد أن أكتب قصائد سياسية ليس فيها كلمة وطن أصلاً، وليس فيها أي مفهوم وإنما هي قصيدة فعلاً طالعة من معاناة سياسية وذات غرض سياسيّ، والغرض السياسيّ تحريضيّ، هدفه إعادة تذكير الناس بكرامتهم الشخصية، وتذكير الناس بالموضوع السياسيّ، أي تذكيرهم بمعاناتهم واضطهادهم من قبل الواقع، والإهانات التي يتلقونها. كان هناك في تلك الفترة شخص إرهابيّ هو علي شعيب ومعه شخص آخر حاصرا البنك الأميركي وقُتل علي شعيب، وقصيدتي هذه عنه، وهي طويلة وما غناه مارسيل هو مقطع واحد منها، عنوانها (قصيدة حب إلى شعب مهان) ونشرت في مواقف، هي قصيدة تحريضية تتكلم عن جنازة علي شعيب، عن شعب مهان فعلاً وتستنهض روح (الإرهاب). * وفيها فائض عنف أيضاً.. عباس بيضون: نعم، هي قصيدة تحريض على استعادة العنف الشعبيّ، وهي بهذا المعنى قصيدة إرهاب، لأنها تستعيد حتى أسماء اللصوص الذين كانوا في الجنوب يرهبون الأغنياء، أسماء رجال عصابات استشهدوا، هي في المحصلة قصيدة تدعو الى استعادة العنف الشخصيّ، والشعور بالكرامة الشخصية، هي قصيدة تحريضية كتبت لقصد تحريضيّ، وهي لم تكن الوحيدة بل كتبت مجموعة كاملة لم أنشر أيّ شيء منها. لم تعد المجموعة عندي، لكني ذات يوم قطعت مقاطع منها ونشرتها في جريدة كان اسمها (بيروت المساء)، وهي لمنظمة العمل الشيوعي وصدرت بعد خروجي من المنظمة، نشرتها بعد أن طلبها مني صديق وأعطتيها له، الحقيقة ان القصيدة كانت قمة هذا الشعور الذي كنت أحياه، لكن ما يمثل هذا الشعور بعد أن أصبح له فضاء أكبر وخيال أكبر وتحويل شعري أكبر هي قصيدة (صور)، بينما قصيدة علي شعيب التي غُنيت والتي قرأتها في مهرجان للحزب الشيوعيّ، شعرت بأنها أنجزتْ ما ولدتْ لأجله، ولدتْ للتحريض، ومارسيل الذي لم يغنّ أفضل مقاطعها أناب عني في استكمال العمل التحريضي، والقصيدة لا توجد لديّ ضمن أيّ إطار، لأن كتبي في الحقيقة هي نصوص واحدة، لا أملك إلا كتاباً واحداً مؤلفاً من نصوص مشتتة وهو (لمريض هو الأمل)، أما سائر كتبي الأخرى فكلّ منها عبارة عن نصّ واحد، فأنا بعد فترة من الأنتظار عادة أعكف على الكتابة وأكتب تقريباً كلّ يوم، على مدى شهرين أو ثلاثة وانجز نصاً، أقسمه فيما بعد إلى قصائد. * قد يبدو السؤال ساذجاً، لكنْ لو قيّض لك أن تمسح هذه الفترة من تأريحك فهل تفعل؟ عباس بيضون: فترة النصوص السياسية؟ * فترة النصوص التي فيها فائض عنف؟ عباس بيضون: لا ، لا، أنا لم أندم على كوني انتميت لمنظمة العمل الشيوعيّ، لست نادماً على ماركسيتي، لست نادماً على قصيدة مثل (يا عليّ)، لأن هذه القصيدة ليست بألفاظها، ومن كتبها ما زال على نحو ما هو ذاته، فأنا أنتصر للضعف، وانتصر للمهانين، هذا طبع عقليّ سياسيّ مازال يطبعني، ما زلت يسارياً بهذا المعنى. * هل يسوؤك أن تُعرف ككاتب أكثر من المعرفة بك كشاعر، مثالنا الجمهور العراقيّ المثقف الذي يعرفك باعتبارك رمزاً مضاداً لكثير من مثقفي العرب الذين داهنوا النظام السابق، فأنت هناك كاتباً أشهر من كونك شاعراً، هل يسوؤك هذا؟ عباس بيضون: أنا ما يعنيني في كل ما كتبته هو شعري طبعاً، يعنيني شعري أكثر بكثير مما تعنيني كتاباتي الصحفية بدليل اني لم أنشرها في كتب، هذه كتابات صحفية بعضها للاستهلاك اليوميّ، وبعضها ربما لاستهلاك أوسع، وأستغرب أن أُقرَأ في العراق ككاتب لا كشاعر، ولا أعرف السبب. هل أن كتبي لا تصل أو أنها لا تؤثر. * أعتقد ان الجواب الأول هو الصحيح، فهي لم تصل بدليل أن ما وصل منها أثّر ككتاب (صور). عباس بيضون: الأعمال الكاملة التي صدرت في جزأين، ألم تصل؟ * لم تصل. في الحقيقة نحن نعاني أيضاً من عدم معرفتنا بالأسماء الجديدة في الشعر اللبناني. عباس بيضون: الشعر اللبناني باعتقادي شعر أساسي جداً في قصيدة النثر، وقد يكون الأكثر أساسية لأن قصيدة النثر تأسست هنا وتتابعت بانتظام، وتحولت الى قصيدة عندها تراكم، وبالتالي أدى ذلك إلى إنتاج أعمال على درجة من النضج، هناك خمس أو ست تجارب أرى من الضروريّ أن تُقرأ بشكل منتظم أكثر. * يشاع الآن في الوسط الثقافي العراقيّ، ربما لأن المجال لم يكن مفتوحاً سابقاً لأسئلة كهذه، نقاش مستمر عن العلاقة بين الثقافيّ والسياسيّ، وهو نقاش فيه كثير من الإنشاء والكلام المنتج وغير المنتج، أنتم مررتم بتجربة مماثلة ربما، إلى مَ باعتقادك سيفضي نقاش كهذا؟ عباس: الغريب ان حركة التجديد الشعريّ، إذا اعتبرنا ان مجلة شعر وليست مجلة الآداب هي مثالنا على هذه الحركة، أخذت موقفاً ارستقراطياً من السياسة، ودعت أحياناً جهاراً إلى تمييز الشعر عن السياسة، واعتبرت ان الشعر والسياسة متنافيان متعارضان، وبدت هذه الفكرة وكأنها من منجزات التجديد الشعريّ، وبدا كأن القصيدة الجديدة أحد مرتكزاتها يكمن في نفي السياسة. والواقع ان هذا الموقف قد عكس أمرين: الأول انتماء سياسيّ مضاد لشعراء مجلة شعر الذين كانوا في قسم كبير منهم ذوي أصول قومية سورية اجتماعية، وهذه الأصول بدت غير متساوقة مع المدّ السياسيّ الشعبيّ الذي كان يومذاك عروبياً وناصرياً، وهو ما جعل هؤلاء الشعراء يعودون إلى نوع من خرافة قومية تجلت في الأسطورة القومية، أما الأمر الآخر فإن هذه الحركة عكست رغم كلّ شيء موقفاً فرنسياً من السياسة، ففي فرنسا وفي الشعر الفرنسيّ هناك هذا النوع من التأبّي والنفور من السياسة، لكن هذا الموقف كان جزءاً من بيانات الحداثة التي كانت في معظمها سطحية، فكل البيان الحداثي الشعريّ كان بياناً مضطرباً ومختلطاً، وكان سوريالياً بدون سوريالية، ثورياً بدون ثورة، محتجاً بدون احتجاج فعليّ، لأن هذا الانفصال عن السياسة جعل من الاحتجاج والثورة يوتوبيا بريئة وساذجة أحياناً. والواقع ان هذا النوع من الطرح كان سيلقى استهجاناً لو كان مثلاً قد طُرح على الشعر الانكليزي، أودن مثلاً الذي كان كبير الشعر الانكليزي آنذاك خلط باستمرار بين الشعر والسياسة. * حين كان ماركسياً أم بعد أن أصبح لاهوتياً؟ عباس بيضون: موضوعه العام كان باستمرار سياسياً، حتى عندما تخلى عن ماركسيته واتخذ اتجاها دينياً بقي مهتماً بالشأن العامّ، والشأن العامّ عنصر أساسيّ في شعره. في الشعر الأميركي أيضاً يبدو الحديث عن فصل الشعر عن السياسة محض تهريج، فالشعراء الأميركان باستمرار لا يجدون حاجزاً بين الشعر والسياسة، وبالفعل فان فكرة وجود حاجز كهذا فكرة غريبة ومصطنعة، لأن السياسة في آخر الأمر جزء من الممارسة البشرية، ومن المعاناة الإنسانية، أعرف ان السياسة التي رُفضتْ عن حقّ هي ليست السياسة الفعلية التي نقرأها في الشعر السياسيّ، ليست السياسة التي كما هو الحبّ معاناة فردية وميتافيزيقية ووجودية، ما رفض من السياسة هي سياسة المنشور التي تتبع الممارسة السياسية الحزبية أو الشارعية، وهي نوع من الرطانة السياسية، مثال ذلك ما يسمى بالشعر الوطنيّ الذي لا يفعل شيئاً سوى نقل البرنامج السياسي أو الوطنيّ وتجميل الفعل السياسيّ والتغني به، بينما السياسة بحث داخليّ ومعاناة، وبالتالي فالشعر السياسيّ يخلق سياسته الخاصة كما ان الشعر الفلسفي يخلق فلسفته الخاصة، ولا أستطيع تقبل كون الشعر السياسي مجرد ترجمة لما يأتي إليه من خارجه، بمعنى ان العمل السياسيّ الذي كانت تبشر به أحزابنا القومية أو الشيوعية، لم يكن يعانى داخل الشعر، وانما يتلقى من الخارج، بل ان هذا ليس شعراً سياسياً، انه نوع من الزجل، هو شعر شعبيّ يشبه الهتافات والتظاهرات والكتابة على الحيطان وهو شعر تعليمي وتحريضيّ. وهذا لا يعنيني في شيء، لكن السياسة بما هي أمر آخر انطولوجي كينونيّ فرديّ داخلي، وبما هي علاقة بالعالم وممارسة داخل المجتمع والأسرة والدولة. * كيف ترى إذن بمن يؤمن بأن الشعر أكثر الأفعال حظاً من البراءة، والسياسة هي محلّ لا تسكن البراءة فيه؟ عباس بيضون: أظن علينا أن نفكر عميقاُ بمقولة هوليدرلن هذه، الشعر أكثر براءة لأنه كلام أوّل، لأن البراءة موضوعه، بمعنى ان الشعر ليس تفنناً، هو عدوّ التفنن، هو الكلام الذي يبدو وكأنه لم ينتجه أحد، وربما انتجته اللغة وربما على نحو ما انتجته الحقيقة، أو أنتجه هذا التوهم للحقيقة، أو التماس الحقيقة. * غريب ان يكون الشعر عدوّ التفنن والتعمّل، ألا يساويه هذا بالسليقة وبكلام الوجدان الذي يقال عفواً؟ عباس بيضون: لا، كان بيكاسو يقول يوماً ان على الرسام أن يعود طفلاً، الشاعر هو من يبحث عن الكلام الأول حتى وان ظهر ان كلامه ليس بالضرورة هو الكلام الأول حقاً لكنه يبدو على الأقل كذلك، هذه هي خرافة الشعر: العودة الى الكلام الأول، إذا شئنا أن نتفلسف فلنتحدث عن هيدغر الذي قال ان الشعر إعادة صلة العالم بالآلهة الهاربة أو المهاجرة، دعك من الجانب الدينيّ في كلامه، هيدغر لم يكن متديناً، لكننا يمكن لنا ان نجد في مقولته معنى البراءة أو معنى العودة الى الكلام الأول، إلى كلام يفترض انه أول، لأننا غير مقدّر لنا ان نعرف الكلام الأول حقاً، كما لا نعرف الحقيقة، لكن هذا الحنين للحقيقة والكلام الأول والبحث عنهما هو يشبه ما يقوله بيكاسو حول ضرورة العودة طفلاً من جديد ليرسم، وهناك صعوبة في هذا، لأنك في عودتك طفلاً تعيد ابتكار الطفل. بالنسبة لي عندما أقرأ عبارة هوليدرلن التي أثق بها، أرى انه يقصد ذلك الكلام الذي لا مؤلف له، كأنما اللغة هي التي صنعته وكأن هناك شيئاً ما، كائناً ما، فوق الشاعر صنعه، لأن مجرد أن تبدو إرادة الشاعر واضحة في الكلام ويبدو شخص الشاعر ماثلاً في قصيدته يتزحزح هذا الشعر. * ربما لهذا فهم الشعر أن له جوهراً دينياً؟ عباس بيضون: ربما، ربما، هناك شيء من السحر، تتكلم عن جوهر دينيّ كما نتكلم عن هيدغر ونقول ان عنده لاهوتاً كينونياً، مع ان هيدغر ضد اللاهوت، لكنه تكلم عن الكينونة بلغة تبدو أحياناً لاهوتية، نعم يمكن أن نتحدث عن الشعر بهذه اللغة شبه السحرية أو الدينية بدون أن يكون سحر أو دين فعليان. * أفهم منك ان الشعر محاولة لاستعادة كلام لا يمكن نسبته لأحد بعينه. عباس بيضون: تماماً، الشعر يبدو وكأن الشاعر ناقله وليس من عندياته. * أشبه بالوحي؟ عباس بيضون: لا، ليس وحياً، لكنْ بالمعنى الذي أشار له هيدغر حين قال ان اللغة تتكلم الشاعر. هذا كلام عظيم، هناك شيء يتعداك، هناك تراكم تأريخي في اللغة، هناك حقيقة تتخطى القائل، هناك كلام يتكلم فيك. * تذكرني بمقولة فوكو في درسه الافتتاحي بالكوليج دوفرانس حين خاطب طلابه بقولة أتمنى لو انني فقط الفوهة التي تنقل لكم هذا الكلام الذي تسمعونه الآن مني، وفي الحقيقة أرى ان الشاعر والموسيقيّ يشتركان بهذه الميزة وليس الرسام مثلا... عباس بيضون: نعم باعتبار ان الرسام يباشر العمل بيديه، الروائي أيضاً عنده ملاحظات لكن هناك دائماً إرادة شخصية. * قصدي ان الشاعر والموسيقيّ ميزتهما انهما يقومان بفعل انتظار أثناء عملهما. عباس بيضون: تماماً، بالضبط، الانتظار، الشاعر ينتظر. وعمله الانتظار. نعود إلى موضوعنا فأقول أنا أفهم ان السياسة بوصفها حيلاً ومؤامرات وتكتيكات وشعارات وتظاهرات، لا تعني الشاعر، فما يعني الشاعر هو تماماً السياسة العليا، الاستراتيجية، السياسة التي يمكن أن تتحول إلى انطولوجيا بل حتى الى ميتافيزيك، شيء له علاقة بالأعلى، بالأخ الكبير، بكل الاستعارات الكبرى التي يتكون منها الكلام، كلّ السلطة التي هي سلطة المعرفة إذا كنا نستعيد فوكو. أشدّ ما استغربه هو ان قصيدة النثر تتبنى أكثر من غيرها هذا المفهوم العجيب (نفي السياسة)، قصيدة النثر التي هي نثر، مطالبة أكثر من غيرها بأن تقوم بهذه التقاطعات الكبرى، بأن تصل بين الشعر وبين كلّ الأنظمة الأخرى، وبخاصة بين الشعر والسياسة، بالنسبة لي كان هذا دافعاً لي باستمرار إلى أن اكتب شعراً فيه سياسة، لم يكن شعري ابداً خالياً من السياسة، دائماً كان ما هو سياسيّ عنصراً من عناصر شعري، تحدثت أنت قبل قليل عن كون بعض شعري سيرة ذاتية، عندما تكتب سيرتك تعود إلى الشخص السياسيّ الذي كنته، حتى اني في الفترة الأخيرة كتبت قصائد قررت أن تكون سياسية حتى بالمعنى المباشر. هناك عندي قصائد عن التظاهرات التي حدثت، قصائد عن حرب نهر البارد، قصائد عن المتفجرات، عندما تأخذ (الموت يأخذ مقاساتنا) ستجد قصائد بعضها يوميات سياسية، هناك قصائد عن حرب تموز، كتبت نصوصاً كثيرة عن حرب تموز بعضها شعريّ وبعضها شبه شعريّ، هناك نص نشر في (زوايا) كتب عن مقبرة جماعية. غريب أن يكون شعراء قصيدة النثر هم الأكثر اقتناعاً بالابتعاد عن السياسيّ في الشعر. * أنت تتحدث عن السياسة بمعناها الأول الذي ظهر مع الإغريق والذي عبر عنه قولهم...... عباس بيضون: لا، بل يمكنك أيضاً أن تتحدث عن السياسة بمعناها اليوميّ، أن تعلّق على أحداث عابرة، بريخت شاعر كبير وكان شاعراً سياسياً، والآن في ألمانيا بريخت المسرحيّ لا يُنتبه له، بل يُنتبه لبريخت الشاعر، ولبريخت قصائد هي تعليق على لحظات كبرى لكنها دائماً قيلت بروح سياسية. * بما اننا نتحدث عن السياسة، لعلك تعرف أن زملاءك من مثقفي العراق وشعرائه يكتبون تحت وطاة جـوّ مرعب خـلقته بعض ميليشيات الأحزاب التي لا تتوانى عن تكفير وتهديد وتصفية كلّ ذي رأي مخـالف. إلى أيّ حدّ يمكن أن يكون الشاعر منتجاً في ظلّ جو كهذا؟ عباس بيضون: لسنا بعيدين في لبنان عن هذا الوضع، وفي آخر الأمر هذا قدر الكاتب، الكتابة قدر، وهي شيء لا يمكن للكاتب الاستغناء عنه، هي شغف، مرض. وهناك باستمرار عدّة الخدع والحيل واللعب، وهذا المزيج من الجرأة والتحايل، واستغفال الرقيب، والتواطؤ مع القارئ الذي يشعر بك أكثر مما يشعر بك الخصم السياسيّ، أنا شخصياً عندي الآن رواية بأكثر من ثلاثمائة صفحة، لم أقرر نشرها بعدُ لهذا السبب. * أنت تكتب الرواية، والعمود الصحفيّ، وتكتب في النقد الفنيّ، وتدير القسم الثقافيّ في السفير، إلى أيّ حدّ كانت هذه الاشتغالات مؤثرة عليك كشاعر؟ عباس بيضون: هذه الاشتغالات تأخذ من وقتي بالتأكيد، أنا أكتب مرتين أسبوعياً في السفير، وأحرر صفحة يومية، وأحرر الملحق الأسبوعيّ، وهذا يحتاج إلى وقت، لكن أفكر أن هذا هو العمل الأكثر مناسبة لي، لا بدّ للمرء أن يعمل ليأكل، لا يمكن أن نحلم بأن نأكل من الشعر، حتى لو كنت شاعراً فلا يمكنك قضاء يومك كله للشعر أو للكتابة، لا بدّ للمرء أن يصرف ساعات من اليوم في شيء آخر، وهذا الشيء إذا كان عملاً صحفياً في الحقل الثقافيّ فهو أفضل ما يمكن أن نجده لهذه الساعات، ولهذا لا أجد مشكلة في الموضوع، أنا أصرف يومياً بضع ساعات في العمل، وأستطعت أن أكيّف هذا العمل مع وقتي، وليس أن أكيف وقتي مع هذا العمل، فأنا أقضي صباحي في بيتي بالعمل على نفسي ولي، في سريري أقرأ وأكتب، لا أقرأ مقالات الجريدة طبعاً، بل أقرأ كتباً وأكتب أيضاً، بالتالي أنا أصرف غالباً خمس ساعات في هذا العنل الصباحيّ، إذا لم يكن عندي ما أكتبه فأنا أقرأ شعراً وغير شعر، وأذهب الساعة الثانية إلى الجريدة لآقضي وقتاً لا اظنّ انني أستطيع أن أقضيه على نحو أقضل، من الساعة الثانية الى السادسة بعد الظهر، هذا وقت لم أعرف انني في حياتي استطعت أن أشتغل فيه شيئاً مفيداً وبالتالي فأنا أمضيه في تحرير صفحات وأحياناً في التفرج على التلفزيون! * كثير من النقاد تناولوا شعرك، مَن باعتقادك كان الأقرب لاستكناه تجربتك؟ عباس بيضون: النقد مشكلة، النقاد المحترفون قلما اقتربوا مني، لأن النقاد المحترفين عكفوا وما زالوا عاكفين على قراءة الروّاد، وهم يقتربون من شاعر مثلي مرة أو مرتين: كمال أبو ديب اقتربمرة في آخر كتبه وكتب صفحات كثيرة عن (نقد الألم)، وبرر ما كتبه ببلبلة أثرتها ذات يوم ضدّ قراءته لشعر الشبان، هناك مقالات أحبها كتبها روائي هو حسن داوود وشعراء وناقد واحد، الناقد هو صبحي الحديدي، والشعراء أذكر منهم بسام حجار، نوري الجراح، أمجد ناصر، عبده وازن، كاظم جهاد، وما كتبه أخيراً عبد القادر الجنابيّ كتب مقالاً جيداً عني وعن أمجد ناصر. قال ان قصيدتي قصيدة نثر حقيقية، لأن البعض يكتب قصيدة النثر بروح الشعر مع إغفال المطرح النثريّ، كأنها تبارز الشعر في شعريتها، وفي ترجيعها الإيقاعيّ، هناك قصائد نثر كهذه ولا اعتراض لديّ عليها. * من هو القارئ الذي تتمنى أن يقرأك؟ عباس بيضون: لا أستطيع الإدعاء ان لدي نموذجاً لقارئ، لديّ قارئ أكتشفه باستمرار في الشعر والعمـل الصحفيّ، قارئ أتفاوض معه باستمرار، هذا القـارئ يريـدني أقلّ تهويلاً، أكثر دقة، قارئ لا يحـبّ السـباحة في السدم والأفلاك.
|