المقاله تحت باب قصة قصيرة في
25/10/2009 06:00 AM GMT
لم ينتظر طويلاً حتى بانت خيوط الصباح الأولى , وبدأ العمال يأخذون طريقهم للجلوس على ( المسطر ) الممتد على الرصيف المقابل لنصب الحرية في قلب بغداد .. وجوه أتعبها الجوع , وقست عليها شمس الأنتظار .. وجوه أعيتها السبل فلم تجد غير الرصيف مكاناً يوفـّر لهم فرص عمل رغم ندرتها .. وجوه قدمت من الأحياء الشعبية الفقيرة ومن بقايا بيوت أكلت جدرانها رطوبة الأيام القاسية فلم تعد تقوى على حمل شناشيلها المتهالكة فأتكأ بعضها على بعض .. دفع بعربته حتى أستقر بالركن الذي اعتاد الوقوف به منذ خمس سنوات , بعيداً عن عيون رجال البلدية القساة ومضايقاتهم , وتحاشياً لمزاحمات أصحاب ( البسطيات ) وصراخهم الذي لا يهدأ .. اشعل سيجارة وسحب نفساً منها ولم يمكث طويلاً حين تداعت في ذاكرته صور الماضي البعيد واحداثه التي كان مسرحها الزقاق الذي يمتد خلفه الأن والذي سكن في غرفة من احد بيوته المتداعية .. كان هذا الزقاق بمثابة مدينة صغيرة تشقها ( دربونة ) ضيقة تتوسطها ساقية رفيعة تتلوّى على امتدادها كأفعى تصبّ فيها المياه الآسنة , يسكن بيوتها المتلاصقة المسلمون والمسيحيين واليهود , سواء الميسورين منهم أو الكسبة , عاشت وماتت بين شبابيكها الملوّنة عشرات قصص الحب , مدينة يدخلها أهلها ويخرجون منها بطمأنينة وسلام و وكثيراً ما يطلّ فتيانها من خلف أبواب بيوتها الخشبية لرؤية الصبايا وهنّ يتهادين أيّام الآحاد باتجاه آخر الزقاق حيث الكنيسة .. صورٌ جميلة مفعمةٌ بالبراءة والنقاء أرتسمت في ذاكرته وهو يتلفـّت يمنة ويسرة علّ أحدهم يشتري شطيرة ( بيض وعنبة ) التي اختارها كسلعة رخيصة يعتاش منها ويشبع بها البطون الخاوية التي لم تعتاد على ما يأكله المترفون ... توقـّف شريط الذكريات فجأة بعد أن لسعته جمرة سيجارته الأخيرة , ثم انشغل بمسح سطح العربة لتبدو اكثر نظافة ومدعاةً لجذب المارّة ..بعدها سرح مرّة أخرى مع زمنه القديم الذي راحت تتداعى صوره أما عينيه حيث التعرّف على الشاب المسيحي (جسّار) المثقف النظيف الملبس في المقهى الذي لا يبعد كثيراً عن نهاية الزقاق , والذي كان يتحلـّق حوله بعض من فتيان وشباب المنطقة وهو يقصّ عليهم حكايا جديدة على مسامعهم .. حكايا لم يعتادوا سماعها من قبل عن أهميّة وقيمة الأنسان وضرورة النضال والكفاح من أجل أنهاء معاناته وعذاباته وكان يؤكـّد في جلساته التي أتخذت من الزاوية القصية في المقهى مكاناً دائماً لها , على محاربة الفقر والجهل وضرورة المساواة بين الأجناس والشعوب , ممّا دفع السيد حسين أحد الجلاّس المستمعين عن بعد أن يمازح قائلاً : ــــ أكول يمكن هذا الأستاذ النصراني معجب بالأمام علي وديحجي هذا الحجي . توالى شريط الذكريات يستعرض نفسه امام عينيه الكليلتين وتذكـّر كيف أصبح شغوفاً بحكايا الأستاذ ومؤمناً بآرائه ومسحوراً بثقافته , وكيف امسى ينتظر وقت اللقاء بفارغ الصبر .. فأحاديثه تحمله الى عالم وردي خالي من الكراهية , يعيش فيه الأنسان بكرامته لا يحتاج شيء ولا أمر يشغله سوى حب الناس والوطن .. وان يحيا بسلام بعيداً عن العنف والحروب , كما سمع منه لأوّل مرّة كلمتي ( الوعي الثقافي ) التي كان يرددها دائماً , وكثيرا ما كان يؤكـّد أن بلادنا نشأت فيها أول حضارات الوجود الأنساني التي علـّمت البشرية كل شيء . تعبت قدماه من الوقوف خلف عربته فما عادت تعينه , فقد مضى به العمر حتى شارف على الشوط الأخير , فأسترخى على عتبة أسمنتية قريبة منه وأشعل سيجارة جديدة وواصل بالرجوع الى ماضيه الأوّل حيث كان يؤكد عليهم الأستاذ (جسّار) بأن هناك صراع أزلي بين الحاكم والمحكوم , بين القلـّة المالكة والأغلبية المسحوقة , حتى تجرّأ مرّة وسأله حين كان يجالسه وحيداً : ـــ منين عرفت كل هذا ؟ وهل صحيح أحنه لازم نصير أحسن من حالنه هذا ؟ لو احنه نخالف ارادة الله ومشيئته وما أختاره النه ؟ أجابه بعد أن ابتسم الأستاذ وهو يأخذ رشفة شاي من قدحه : ـــ الله خلق الأنسان لكنّه جعله هو الذي يختار قدره عن طريق التفكير والبحث والسعي لتغيير وضعه , لا ان يبقى قانع بوضعه المأساوي ومخدوع بما يقول له الوعاظ . عاد مرّة أخرى وسأله : ـــ وشنو الحل يا استاذ ؟ ـــ النضال لتغيير ذلك هو هدف سامي , علينا جميعا ً أن نسعى اليه . بعد لقاءه هذا .. اتخذ قراراً لا رجعة فيه هو البحث عن العالم الذي تحدّث عنه الأستاذ (جسّار) وضرورة النضال من أجل الوصول أليه .. وأصبح بمرور الأيّام ملازما له , فحال أنتهائه من عمله في محل السيد حميد في ( الحيدرخانه ) الذي يتقاضى لقائه أجر لا يكفي حتى لسدّ جوعه وجوع والدته المريضة واجرة الغرفة الصغيرة المظلمة , يلتحق به فوراً ..وراح يحضر اجتماعات غير معلنه ويتبادل المنشورات السرّية الصغيرة مع رفاقه , وعرف ان القضية هي أكبر واخطر ممّا كان يتصوّر, فتعلـّم الحذر وكيفية مفاتحة الآخرين وكيف يتسلل الى غرفته ويخرج منها . أنقطع الأستاذ ( جسّار ) عن المجيء الى المقهى والتواجد في ألأوكار التي أعتادوا الأجتماع بها بشكل مفاجيء , ولم يتمكـّن جميع رفاق المقهى من معرفة أسباب أنقطاعه حتى جاء اليوم الذي لمحوا فيه وجوهاً قاسية متغضـّنة بالكراهية تدلف الى المقهى وهي تبحث بالوجوه وبعضها راح يذرع الزقاق وآخر يتوزّع حول محيط المكان , فعرفوا وسط دهشتهم ومخاوفهم أين يكون الأستاذ الأن . ادرك أن الخطر وصل اليه والى رفاقه و فقرّر الهرب مع والدته الى بيت خاله في ( المسيّب ) .... ثم قطع شريط ذكرياته صوت صبي صغير : ـــ عمو أنطيني لفة بيض وعنبة الي ولأخويه . بعد ان سلمهما الشطيرتان عاد وأسترخى على العتبة بعد أن اشعل سيجارة جديدة وسحب نفساً عميقاً أعاد له بعضاً من صفاء روحه , كما عادت ذاكرته تستعرض السنوات الطويلة والمريرة التي قضاها في ( المسيّب ) بعد أن استقرّ فيها والتي شهدت تعاقب الأنظمة العسكرية وما صاحبها من دماء ومجازر وحروب , وكان الأستاذ ( جسّار ) من أوائل ضحاياها , لكنـّه ظل في ذاكرته يمثـّل الحقيقة . أسترسل بعيداً في أستعادة سنواته الماضية وقد وصل به العمر الى اعتاب الشيخوخة حين عاد الى بغداد حيث محلته وزقاقه القديم , وقد هاله ما رأى ..فلا الناس ناسه ولا القيم الأجتماعية التي تربّى عليها بقيت على حالها ولا الوعي الثقافي الذي عرفه لفرط ما كرّر ذكره الأستاذ ( جسّار ) في جلساته عاد كما كان وحتى قصص الحب لم يبق لها مكانا بين شناشيل زقاقه الذي أحبه ..كل شيء قد تغير .. لا طمأنينه ولا سلام .. لا آواصر محبه بين مكونات الناس .. ولم يعد يدخل الى الكنيسه سوى بعض العجائز اللائي يطلبن المغفرة لذنوب لم يرتكبنها .. فقررّ أن يبقى في محلته وأن لا يبتعد عن ( مساطر ) العمال , فلعلـّه يرى بين حشودهم ظلالاً لقامة الأستاذ ( جسّار ) .. وان لا يكون على مبعدة من نصب الحرية .. فلعلّ يوماً قادماً سيأتي فيرى مجاميع من صبية وفتيان المدارس الصغار وهم يفرشون ساحته بالورد , أذ لا بد أن يعود زمن الأستاذ .
|