المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
21/10/2009 06:00 AM GMT
كنت أريد ان أبدأ بالكلام على الدانيين، وكل التنويعات على كلمة (دان)، مثل الدون، ودانوس، ودانونا، ودانونو، الخ. لكنني سأبدأ بالكلام على الهكسوس، بحكم ارتباطهم بالموضوع. ثم أعود الى هذه الكلمات والأسماء التي حيرت عقول المؤرخين. إن حضور الهكسوس في أوروبا لم يكن تحت اسم الهكسوس، بل الدانيين (الذين قُرنوا بهم). مع ذلك سأبدأ بالحديث عن الهكسوس. ان الحقبة الهكسوسية، التي نلمس آثارها في الحكايات الميثولوجية الدانيّة، كانت نقطة تحول في تأريخ الشرق الأوسط برمته. وكما لخصها عالم الآثار الفرنسي شافير «لقد أصبح جلياً اكثر فأكثر ان حركة الهكسوس لم تكن مجرد حدث في تأريخ مصر وعلاقته بفلسطين. بل كانت حدثاً ذا أهمية اكبر بكثير، غيّر التركيبة السياسية والإثنية لآسيا الغربية كلها. وكان لها صدى حتى في جزيرة قبرص وربما كريت ايضاً». وبالنسبة الى الكنعانيين، كان عصر الهكسوس ذروة مجدهم وقوتهم. «في القرن السابع عشر ق.م. كانت فلسطين مركز «الامبراطورية» السامية الشمالية الغربية، تحت سيطرة مدينة أفاريس عاصمة الهكسوس (في الدلتا المصرية). وهذه الدولة الهكسوسية حكمت من الفرات الى توبيا الجنوبية...». وقد تركت أثرها الكبير في الحضارة الكنعانية في هيئة أساطير عن أجداد هاجروا الى مصر، وحكموها، ثم أجبرهم المصريون على العودة الى وطنهم كنعان. ودام حكم الهكسوس في مصر من 1730 أو 1720ق.م. الى 1580 ق.م. وسيهمنا هنا الحضور الهكسوسي في اليونان. يُجمع معظم المؤرخين على ان هذا الحضور تم بعد خروج الهكسوس من مصر. بيد ان مارتن برنال (مؤلف كتاب «أثينا السوداء») يميل الى الاعتقاد بأن هذا الحضور توافق مع مرحلة دخولهم مصر. وعلى أية حال، ان التغير في المادة الحضارية، والمؤثرات الغريبة الجديدة، الى جانب الأخبار اليونانية عن استيطان من مصر وفينيقيا، تقدم دليلاً على وجود غزاة من مصر وبلاد الشام حكموا جزءاً من اليونان أو كلها الى وقت مجيء البيلوبونيين من أناضوليا في القرن الخامس عشر أو الرابع عشر ق. م. أما بالنسبة الى طيبة (اليونانية)، فإن السلالة الفينيقية الأصلية دام وجودها حتى سقوط المدينة في القرن الثالث عشر ق.م. وحاول الكثير من الباحثين التشكيك في سامية أو كنعانية الهكسوس، فزعموا أنهم حوريون، أو حتى أوربيون، بيد ان معظم الأسماء الهكسوسية سامية، وأن التنقيبات في عاصمتهم في تل الضباع في الدلتا الشرقية أثبتت ان حضارتهم فلسطينية – سورية، أو خليط من المصرية والشامية. وقد أدخل الهكسوس السيف الى كريت في (1730 – 1675ق. م.)، وبقيت كلمة السيف السامية في اللغة اليونانية xiphos. وفي الفترة نفسها دخلت المعجلة الحربية «السلاح العجيب» للعصر البرونزي الأخير. وهناك بقايا هكسوسية في قبور في اليونان. وهناك مؤثرات فنية ايضاً أدخلت الى منطقة إيجة، نذكر من بينها ما يدعى «الحوثية الطيارة»، التي تصوَّر فيها الحيوانات وهي تثب وثبات سريعة مادةً سيقانها في الهواء الى الأمام والخلف، مما يعطي انطباعاً عن الحيوية والطيران والسرعة. وهذا الأسلوب يظهر ايضاً على بعض المواد الهكسوسية المزخرفة، التي عثر عليها في مصر وسورية وفلسطين. وهناك مؤثرات فنية أخرى في اليونان، مثل أبي الهول المجنّح، وهو صناعة سورية. وكان هذا من بين رموز الملكية عند الهكسوس. واسم الهكسوس (اليوناني) جاء من الاسم المصري (حقاوخاسوت)، ويعني حكام البراري، أو الملوك الرعاة. في مسرحية اسخيلوس «الضارعات» التي ألفها بين 497 – 472 ق.م. يصف اسخيلوس مجيء دانوس (الهكسوسي) الى آرغوس اليونانية (في البيلوبونيز)، مع بناته الدانيّات. وهناك تلاعب لفظي بين اسم المسرحية Heketides باليونانية، ويعني «المتضرعات»، واسم الهكسوس Hyksos. ومجيء الدانيين الى اليونان كان استيطاناً، كما سبقت الإشارة الى ذلك. لكن الكبرياء اليوناني لم يتقبل هذا الاستيطان أو الغزو لبلدهم. لذلك أطلق اسخيلوس على الدانيات صفة المتضرعات، بما يفيد معنى اللاجئات كما سنرى، وذلك استرضاء للشعور القومي اليوناني، مع ان هذه المسرحية لم تستطع إنكار حضور الدانيات في اليونان. لكن، ما هي قصة المتضرعات؟ تقول الأسطورة ان ايجيبتوس ودانوس كانا أخوين في مصر. وكان لإيجيبتوس خمسون ابناً ولدانوس خمسون بنتاً. ثم طلب الخمسون ولداً ايدي الخمسين بنتاً، لكن أباهن، دانوس، رفض تسليمهن، وهرب مع بناته في سفينة الى بلدة آرغوس اليونانية، حيث وجدن مفزعاً عند بيلاسغوس ملك آرغوس. ثم جاء رسول من ايجيبتوس وأبنائه يأمر بإعادة بنات دانوس، لكن بيلاسغوس رفض اعادتهن. وتنتهي المسرحية بإقامة دانوس وبناته مع بيلاسغوس وشعبه في آرغوس. وفي رواية أحدث، ان دانوس اعطى كلاً من بناته خنجراً في ليلة العرس ليقتلن أبناء عمهن. وهكذا فعلن، عدا واحدة هرّبت خطيبها لينسيوس، الذي جاء من سلالة بيرسيوس (قاتل الميدوزا)، فرماها أبوها في غياهب السجن. وفي رواية أخرى انها هربت مع لينسيوس. وقُضي على الدانيّات التسع والأربعين ان يذهبن في العالم السفلي الى شاطئ النهر ليملأن جراراً مثقوبة لكي ينضح الماء منها باستمرار ويعدن الى النهر لملئها من جديد الى الأبد. لكن المؤرخين يربطون بين حكاية الجرار هذه وعملية الإرداء المقترنة بالدانيّات، وبالأنهار التي اشتُقت اسماؤها من مادة (دان)، التي سنأتي على ذكرها. ومن نعوت دانوس في مسرحية «المتضرعات» وغيرها انه قاض، حكيم، أو مشرّع، أقام في آرغوس اليونانية، وأنه هو وبناته عرفوا على وجه الخصوص بارتباطهم بالري، فهم أول من حفر الآبار في آرغوس. هناك عدد من النظريات حول اصل الدانيين، من بينها آراء تذهب الى ان اصلهم يوناني، من ميسينيا اليونانية (وميسينيا اليونانية هي اليونان في العصر البطولي، يونان هوميروس، بين 1500 – 1100ق. م.). بعض هذه الآراء يستند الى اسم الشعب الإرلندي الأسطوري، الدانيين، الذين وصلوا الى ارلندا من الجنوب، أي من اليونان الميسينية. بمقتضى هذه النظرية ان الدانيين قدموا الى بريطانيا من اليونان من طريق الدنمارك التي منحوها اسمهم. ومع ان هناك أخباراً متواترة عن ملوك بأسماء مثل ديون، ودون، ودانو، إلاهة الدانيين، غزاة ارلندا، وحروبهم مع الاسكندنافيين، إلا ان هذا يبقى في إطار أخبار الأساطير. ومن الفرضيات الهندية - الأوروبية الأخرى، أن كلمة Danaan تأتي من اسم النهر الهندي – الأوروبي «Dan-» الذي نجده في اسماء الأنهار الآتية: الدون، والدنيبر، والدنيستر في روسيا، ونهر الدانوب في أوروبا، وهناك أربعة أنهار باسم الدون في بريطانيا ايضاً. لكن اسم (الدون) يعني (نهر) بلغة الافيستا الإيرانية القديمة، وكذلك بلغة السكيثيين القدامى والأوسيتيين المعاصرين. كما ان صيغة اسم (الدون) في بريطانيا وكذلك اسم الدانوب تأتي من الصيغة السلتية danu التي تطلق على النهر. وهذا يذكرنا بالمفهوم التقليدي عن دانوس وبناته وعلاقتهم بالإرواء. هذا مع العلم ان كل الأخبار عن دانوس لا تربطه بالشمال (الهندو – أوروبي)، بل بمصر والجنوب الشرقي، وهذا لا يعزز كثيراً النظرية الهندية – الأوروبية. اما الفرضية الهندية – الأوروبية الأخرى فتقرن دانونا باليونانيين، لأن اليونانيين كان يُطلق عليهم اسم Danaans عند هوميروس. لكن التقاليد اليونانية تذهب الى ان الدانيين أقاموا في آرغوس (وهذا يعود بنا الى الأخبار عن مجيء الدانيين الى آرغوس من مصر وبلاد الشام). لكن موطن الدانيين الحقيقي هو ساحل البحر المتوسط الشرقي. فهناك أدلة تأريخية على وجود كيان جغرافي للدانيين في منطقة قيليقيا، وقيليقيا تقع في الجنوب الشرقي من تركيا على الحدود مع سورية، لكن قيليقيا واقعة ضمن أرض كنعان. وأقدم ذكر للدانيين في قيليقيا ورد في رسائل تل العمارنة (في مصر)، في رسالة من ابيملكي ملك صور الى الفرعون المصري أمنحوتب الرابع، في حدود 1365ق.م. تذكر دولة دانونا. والمهم في هذه الرسالة ان ابيملكي يذكر أرض دانونا داخل حدود أرض كنعان. وهذا يعني ان دانونا تقع في شمال أوغاريت مباشرة. وهذا هو موقع أرض قيليقيا الشرقية التي كان يقطنها الدانيون، كما كشفت عنه ايضاً مخطوطة قره تبة في أواخر القرن الثامن ق.م. لكن أقدم ذكر للدانيين ورد في نص مسماري من أبو صلابيخ في العراق يرقى الى منتصف الألف الثالث ق.م. في قائمة جغرافية تحت اسم ارض أو بلاد Da-ne، المقصود بها «الغرب البعيد»، وعلى وجه الخصوص كريت ومنطقة إيجه. فهل يتعارض هذا مع النظرية الكنعانية لدانونا؟ لا نعتقد ذلك، إذا علمنا ان الكنعانيين كان لهم حضور في كريت وبحر إيجه واليونان قبل مجيء اليونانيين الى هذه المناطق. وكان سكان كريت الأوائل مهاجرين من سورية وغربي الأناضول، تدفقوا إليها في الفترة بين 4000 – 3000 ق.م. مما تقدم نستطيع ان نتوصل الى الحقائق الآتية: ان اسم الدانيين مشتق من الفعل (دان) الذي يفيد معنى القضاء، وأنهم كانوا كنعانيين اقاموا في بلاد الشام. ثم غزوا مصر بين 1730 – 1580ق.م. وعرفوا بالهكسوس. وبعد طردهم من مصر، عاد بعضهم الى وطنهم الأصلي، وذهب آخرون الى جزر إيجه واليونان. وهم الذين أدخلوا الزراعة والأبجدية الى اليونان، وتركوا آثاراً على الأرض اليونانية، وبصمات في الآداب اليونانية. وبواسطتهم انتقل الكثير من مفردات اللغة الكنعانية الى اللغة اليونانية، ومن بين الأسماء الكنعانية الباقية في التراث اليوناني، نذكر: دانوس (الذي يرتبط اسمه بالهكسوس)، وبيلوس (بعض)، وأدونيس (ودايونيسيوس)، وقدموس، وأوروبا (من كلمة عرب بمعنى الغرب في اللغات السامية)، وبيرسيوس (من الفعل فَرَسَ بمعنى دق العنق. من هنا قاطع رأس الميدوزا)، وآخيل (من الجذر السامي حلّ، أي كان في كعبه أو رجله رخاوة، فهو أحلّ، من هنا كعب آخيل)، وسيزيف من كلمة Sophos (الحكمة) باليونانية، وهي المقابل لكلمة (أشيفو) الأكادية بمعنى الشافي، والإلياذة من (ايليوم)، التسمية الأخرى لطروادة، ونحسب ان هذه من (إيل) السامية التي تقال للإله. وفي ضوء الغموض الذي يكتنف اسم هوميروس، اننا نتساءل ان كان يعود الى الجذر السامي (عور) الذي يفيد معنى العمى (وهذا هو معنى اسمه). فكلمة (خاميرو) الأكادية تعني (أعمى)، من الجذور (عور)... وإلى آخره.
|