المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
21/10/2009 06:00 AM GMT
في التأليف الشعري، لا بدّ، ولو غريزياً، من معرفة التدرجات الهارمونية في اللون والحركة والصوت أوّلاً، ومن المهارة في تزمينها، أو توقيتها، في النصّ وهو الأهمّ. بالتوقيت الدقيق تبدو اللفظة على أشُدّها وقعاً وجرساً، حتى وإن كانت حروفها كامدة، وعلى أشدّها لألأة، وإن كانت غائمة ومعتمة.
في حالة واحدة فقط، حينما يُتْقِن الشاعر تصوير السكون، سيكون لصوت الأبرة زلزلة وارتطامَ صخور. في حالةٍ واحدة فقط، حينما يُجسّد صلابة الظلمة، بحذق، يكون للنور طعم الماء في صحراء قحط. في الشعر الغريزي، وشيكسبير وكذلك المتنبّي، أكبر شاعريْن غريزييْن، يعمد الشاعر لسكب عواطفه إلى إحدى حواسّه الخمس. لا تتكثف الصورة الشعرية، أو تعمق إلاّ باستعمال حاسّتين أو أكثر معاً، كما اجتمعت في قصيدة "الشرفة" المدهشة لبودلير، أو في قصيدة:"على قدر أهل العزم" للمتنبي، أو قصيدة النيل لأحمد شوقي. أمّا شاعر كرامبو مثلاّ فإنّه يعمد إلى "تدمير" الحواس، أي إلى مزجها أوصهرها جميعاً، فتظهر لنا صورة شعرية متواشجة مؤثرة وكثيفة. بعد ذلك يختار الشاعر، فطرياً، لا إراديّاً، الوعاء الذي يسكب فيه تلك الحواس المنصهرة، فقد يختار اللون وتدرجاته، أوالصوت وتدرجاته، أو الحركة وتدرجاتها. هذه التدرجات هي إحدى معاني الموسيقى الداخلية للوحة أو النحت أو الرقص، أو النصّ اللفظي، وما همّ بعد ذلك إنْ كان النصّ نثراً أو شعراً. لنأخذ مقطوعة قديمة، ونحاول أن نتتبع تدرجات الحركة وأصداءها: أنزلني الدهرُ على حكمِهِ من شامخٍ عالٍ إلى خفضِ لولا بنيّاتٌ كزُغْبِ القطا أُجْمِعْنَ من بعضٍ إلى بعضِ لكان لي مضطربٌ واسعٌ في الأرضِ ذاتِ الطولِ والعرضِ وإنـما أولادنـا بيننـا أكبادنا تمشي على الأرضِ لو هبّت الريحُ على بعضِهم لامتنعتْ عيني عن الغمض هذه المقطوعة التي لا تنسب إلى أحد، وتنسب إلى آحاد هي من معجزات الشعر العربي في موسيقاها الداخلية. لننسَ للحظات أنها من مجزوء بحر السريع(أو مجزوء بحر الرجز): أيْ (مستفعلنْ مستفعلنْ فِعْلنْ)،ولنحاول إيجاد العلاقة الهارمونية بين الأمزجة المتقابلة المتضادة. بهذا التضادد الحاذق يظهر حسن المقطوعة على أفضل وجه، أو كما يقول المعرّي:"والحسن يُظهر حسنه الضدُّ". حتى بقراءةٍ سريعة لهذه المقطوعة ندرك على الفور، أنّ الشاعر قد تمثّل لنا نصفاً طيراً، ونصفاً بشراً. بكلمات أخرى، أصبح للإنسان جناحان وعشّ وفراخ. هكذا أضاف الشاعر إلى جِبِلّته الإنسية، جبلّة طيورية، وإلى حركاته المقيّدة، خفقات أجنحة، وإلى حناناته، حنان حوصلة وهديل. منذ البداية، وبجملة "على حكمِهِ"، صوّر الشاعر حالة لا مفرّ منها، قدراً محتماً لا رادَّ له. وبكلمة:"أنزلني"، جمع الشاعر حالتيْن: الدرجة المتدنية للإنسان، والكفّ عن التحليق لدى الطائر. تدلّ على ذلك كلمة:"شامخ" وهي صفة ربما تعمّد الشاعر إلى حذف موصوفها حتى يتداعى إلى ذهن القارئ كلّ شامخ. عدم تحديد الموصوف كثّف الغموض وزاد من سعته. بهذه الحيلة الفنية بات القارئ طرفاً في الفضول. وحتى يُعطي الشاعر ذلك الشيء الشامخ، مسافة بصرية أخرى تدقّ على النظر الحديد أضاف كلمة:"عالٍ"، ليصبح السقوط مأساويّاً وصاعقاً. وبكلمة "خفْضِ" (فِعْلنْ) الحادّة النبرة، أصبح السقوط أسرع ومرّةً واحدةً، وكأنّه ارتطام. بالمناسبة يعرف مربّو الطيور كيف ينزل الطير البيتي الذكر من علياء سمائه، ومرّة واحدة، وكأنّه كتلة بلا جناحين، إن هو رأى أنثاه داخل البيت. هذا السلّم في الحركة المتضادّة، الصاعدة الشامخة، مقابل الهبوط المفاجئ، هو أحد مظاهر الموسيقى الداخلية للشعر، بغضّ النظر عن الوزن الشعري الذي كُتبتْ فيه. ثمّ إنّ كلمة: خفض، قاموسيّاً لا تعني السقوط كليّاً على القاع والأرض، وإنما تعني الطيران الواطئ، أو الطيران المشدود إلى بقعة معينة. الطير مشدود إلى بقعة محدودة حيث أنثاه، والأب مشدود إلى بيته حيث بناته. يتجسّد حنوّ الانشداد هذا، أكثر فأكثر إذا ما قورن بـ:"لكان لي مضطربٌ واسعٌ". كما هو واضح، فإنّ الموسيقى الداخلية للبيت الأوّل لم تنقطعْ بانتهائه. لننظرْ إذنْ كيف استمرّ الشاعر في تقليص المسافة، وكأنها نتيجة حتمية إلى كلمة:خفض. ففي البيت الثاني نجد أنّ كلمة "بنيّات" مصغّرة تدلّ على قرب الرائي منهنّ، سواء كان آقتراباً ذهنيّاً أم واقعياً. وبتشبيههنّ:"كزغب القطا"، اقتربت المسافة أكثر، فإذا وصلنا إلى الشطر الثاني من البيت:"أُجْمِعْنَ من بعضٍ إلى بعضِ"، فلا تدري هل الشاعر يصف البنات أم فراخ الطير؟ وما همّ؟ في البيت الرابع يتوضّح القربُ أكثر بكلمتيْ:"بيننا" و "تمشي على الأرض". هنا يظهر السلّم الموسيقي على أشُدّه وضوحاً وتأثيراً، إذا ما قابلنا في البداية، الطيران الشامل، الشامخ العالي، بما انتهت إليه المقطوعة من "مشي" على الأرض. المظهر الآخر الذي يمكن الآستدلال به على الموسيقى الداخلية، هو مقدرة هذا الشاعر الفائقة على تبعيض الكمية الكليّة إلى أجزاء، منفصلة متصلة، في آنٍ واحد. إنّ مجرّد تصغير بنات إلى بنيّات، إنما نقلك الشاعر من دلالة عامة إي جنس البنات، إلى دلالة تفصيلية خاصة وأثيرة. وحينما ذكر:"كزغب القطا"، لمس في قلبك الوتر الحساس، لا بالتجاوب مع جمالهن، بل باستدرار عطفك، فلا تدري ما الذي تقوله:"لأفراخ بذي مرخٍ، زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ" فتقف مكتوف الأيدي حزيناً وفي الغالب دامعاً وكأنّك مع الحطيئة في:"قعر مظلمة"، لا حيلة لك. أضاف الشاعر بشطر:"أُجمعْنَ من بعضٍ إلى بعض"، إلى جمال البنيّات، ومسكنتهن، صفة جديدة هي الهشاشة، وكأنّ جمعَهن "من بعضٍ إلى بعضِ"، ما هو إلاّ شيء شبيه ببناء عش، محكم وواهٍ في الوقت نفسه. يبدو أنّ أخطر تبعيض في هذه المقطوعة، جاء في البيت الرابع:"أكبادنا تمشي". انتقل الشاعر بكلمة: أكبادنا إلى جوارحه الداخلية، إلى الأحاسيس اللامنظورة التي لا يمكن دفعها. بالإضافة فإنّ المشي هنا للطير كما هو للإنسان ولكنّه داخل هذا النصّ يثير القلق والخوف، لدى الأبويْن خشية أن يدرج الأطفال بعيداً، فلا يُرَوْن، وكأنّ الشاعر كان يمهّد بهذا البيت، إلى القلق والخوف في البيت الأخير: لو هبّت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض امتناع العين عن الغمض، يدلّ، لا ريب، على حنو وغريزة رحمية، كما يدلّ على آنفرادية العين عن بقية الأعضاء. هل بدأت حواس الشاعر بالتفكّك؟ الحب العظيم إذا ارتفق بالقلق يقود عادة إلى تفكك الحواس فالجنون. أيّ خطر يحيق بالبنات سيقود الشاعر إلى الجنون إذن. بالمثابة نفسها يمكن مقارنة الفعل:"أنزلني"، في أوّل القصيدة الذي يدلّ على الإكراه والإجبار من قبل قوّة غامضة هي الدهر، بفعل:"امتنعت" الذي يدلّ على تبنّي موقف غريزي انعكاسي حتى كأنّ الريح، إنْ هبّت لا تهدّد أطفالاً، بقدر ما تهدّد فراخاً، إنْ هي أودتْ بعيدان أعشاشها الهشة.
|