ساحر الطاطران

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
10/10/2009 06:00 AM
GMT



 ما تبقّى في الكنانة منزع، أشهدكم على قلقي وتوتري حيال الجسد الذي يصارع المرض، والعقل الذي يخلع صاحبه من ربقته، أخبركم عن أخطر القصاصين وأعشقهم للمغامرة والسفر. ولن أقول ما يُعد رجماً بالغيب، وفوق ما يُظن مألوفاً عند أصدقائه وخصومه.

فقد كفى هذا القاص نفسه بنفسه وكتب عن حياته وفنه شهادات معاناة طفولة شقية، وحرر رسائل حب جامحة، ودبج مقالات شاكية وأخرى ساخطة، وأبدع زيادة على ذلك تلالاً من الروايات والقصص التي أسكرت روحه وأنزفت دماغه وشقت جسده نصفين.
ظل طموحه تسديد ديون حياة متراكمة للماضي، وكانت تتعاظم كلما ابتعد عن زقاق الطاطران البغدادي وتشرد في مدن الحب المغسولة بالمطر. خشي الأخطاء وشعر أن حياته خطأ تكرر مراراً، إلا أنها لم تكن أكثر من ثلاثة: الطفولة الشقية، النساء، السفر. اعترف بها سراً في وحدته، وتحدى بها الآخرين علناً، ثم حاول تبييضها وتعويم أصولها في قصصه، فلم يفلح إلا في توكيد جزئياتها والتمسك بضلالاتها، فهي محصول عالمه، لا غنى لنص عنها ولا عوض يشبهها.
كان هذا الطاطراني المتشرد أكبر من كفوء، محظوظ، ذكي، أجاد أكثر من مهنة وتلبس عدة أدوار: دون جوان بغدادي، مقامر دستويفسكي، صانع كتب محترف، إلا أن المهنة الوحيدة التي تطوع بحمل أوزارها كانت مهنة نقل رسائل الحب إلى نساء ملائكيات وأرضيات، وانتزاع اعترافهن بقدرته على تجسيدهن في مخيلته التشردية. إن الحب هو المهنة المستحيلة التي أدخلها القاص الطاطراني إلى أصناف القصة العراقية، والسحر المباح الذي امتلك بفضله إعجاب قرائه. أخذت تطير من عباءة ساحر الطاطران مئات الحمامات الأليفات، جابت سماوات العالم ثم عادت إلى سماء (الشمس العراقية) طائعة هادلة.
إنه ساحر حقاً، ضمّ إلى ردائه مئات الشخصيات الضالة في أروقة الواقع الحي، في حين لا يميز قارئه سوى شخصية تتكرر في كل قصة، تظهر على مقاسه وتتكلم بلغته وتعبر عن رغباته النرجسية، فكأنه يقرأ ـ هذا القارئ ـ قصة واحدة في مئة قصة، ومئة قصة في قصة واحدة. غير أن هذا هو عين السحر، عندما تولّد القراءة الخصيمة، من الجسد البارد، أزواجاً فتاكة وأخيلة مهتاجة. لقد حسبه القارئ الخصيم كاتباً شيزوفرينياً يخلط سعادته بشقاء شخصياته، ومتنكراً كوزموبوليتياً يمزج الحقائق البشعة لزقاقه العراقي بأمكنة الحب المباح التي طرقها أو ساح فيها. وكان هو طرفاً في هذا الخصام، لا يتعب من مراقبته، والسخرية من أصحابه. فإذا كان قد خاصم أحداً, فلأنه كان يرى الخصومة نظير الصداقة: ارتفاعاً على مسببات الخنوع والتبعية، وازدراءً لعلاقة الجسد العابرة.
لا أعرف قصاصاً مشدوداً إلى ضميره المعذب مثل عبد الستار ناصر، صارع شوائب السياسة ببوهيمية صريحة، وقايض سلطة القمع والإذلال بأبيقورية صادقة، ورهن حياته سنوات طويلة تحت طائلة الخوف والهرب. أستطيع أن أقدم موجزاً بليغاً لصورة الفنان الطاطراني مركبة من شخصيته طفلاً وابناً لأبٍ مقامر وزير نساء، وشاباً مغامراً في شخصية (محمود)، ورجلاً مطارداً في شخصية (شريف نادر)، ومجنوناً في شخصية نزيل (الشماعية)، وكاتباً مسافراً في شخصية (سيرينو ناصرتو)، وفي كل شخصية من هؤلاء مزيج مركب من (بطل خائف)، اعترف بوجوده لشربل داغر: ((أنا مزيج غريب من بطل خائف.. كنت فوق الخوف بفراسخ لا ترى، وكنت في الوقت نفسه تحت هذا الخوف بفراسخ لا يعرفها غيري، كنت أخاف من هذا الخوف)).
جعله الخوف بطلاً غير منظور في الحياة العامة، وبطلاً جباراً في القصص؛ أخلاقياً فوق الواقع بفراسخ، وشهوانياً متمرداً تحت الواقع بفراسخ؛ مزيجاً من وعي مبكر بالظلم الاجتماعي والوأد الجسدي، ونضج أدبي مدمر. وما برح يشكل خوفه ويدحره ويفتح سبلاً أمام ماضيه، فإذا الخصم المتربص يطرحه الفراش، ويقرع ناقوس نهاية الصراع.
إن الوعي بسلطة القهر الذي شكّل عالم قصاصنا في وقت مبكر من حياته، ووعي الغربة الذي منحه أشكالاً تشردية، والصراع الداخلي الذي حرر مزيجه الإنساني والإبداعي من سيطرة الخوف، سترتقي كلها بالجسد البارد فراسخ فوق حقيقة الصدمة الدماغية المفاجئة.
لقد اتسع (بيت القصة) لتناقضات عالم مأهول بالناس وخصوماتهم. هُدِم بيت المحلة القديم، وامتد زقاقه إلى نهايات الخيال الشقي. حُررت النصوص المختومة بختم العبودية والخوف, ولن تعود إلى كتابها الأول. انطلق السهم مع كلمات عبد الستار ناصر الأخيرة: وداعاً لبيت الماضي، وداعاً للخوف، مرحى للجسد الجياش بالحرية.