حوار مع كاظم جهاد: ليس التأويل حرية متسيّبة تتيح للمرء أن يفهم النص على هواه

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
02/10/2009 06:00 AM
GMT



بعد أعمال رامبو الشعرية الكاملة، وأشعار ريلكه بالفرنسية، يقدم الشاعر العراقي كاظم جهاد، عملا أساسيا في تراث الثقافة العالمية، ينقل لنا الأعمال الكاملة للشاعر الألماني ريلكه التي كتبها بالألمانية، لتصدر في ثلاثة مجلدات عن منشورات «الجمل» و«كلمة».
ترجمة بلا شك، ستدخل عميقا في تراثنا ومكتبتنا، وبخاصة أنها تأتي، عبر هذا الشغف الكبير والعمل الكبير اللذين تتميز بهما كل ترجمات كاظم جهاد.
حول عمله هذا، كان هذا الحوار:

- بداية لا بدّ أن يأخذنا السؤال إلى عملك على ريلكه. ما الذي يعنيه هذا الشاعر لك، وما الذي دفعك إلى ترجمته؟
- لقد رافقني عمل ريلكه الشعريّ وبعض أعماله النثريّة منذ بدايات اغترابي وتجوالي الطويل بين باريس وبرلين (الغربية سابقاً) ومدريد. منذ شروعي بالقراءة بلغات غير عربيّة، فرضَ شعر ريلكه نفسه عليّ كمثْل صوت قاهر ومتمنّع ولا يمكن الصّمود أمام سحره وغوايته. هو من أولئك الشعراء الذين يرافقونك كقارئ وطامح إلى علاقة دائمة بالعمليّة الشعريّة. شعراء يشكّلون عائلتك الروحيّة وتجدهم ينتظرونك في كلّ واحد من منعطفات تجربتك، ويقدّمون لك الإجابة المناسبة كلّما وجدتَ نفسك في متاهة مترامية الأطراف مفصولاً عن دنيا الأحياء بمسافة شاسعة. ثمّة قصائد أو أعمال أدبيّة يخامرك الشّعور بأنّها صارت وطنك الحقّ لفرط ما رجعتَ إليها وتجوّلتَ في شعابها وذقتَ سلامها الخاصّ وانتعشتَ بالقلق الوجوديّ الذي تمدّك به، والذي بدونه يحقّ للمرء أن يشكّ في وجوده نفسه أو بالوجود بالذّات. هذا هو مكان ريلكه في تجربتي. وأنتَ تلاحظ معي بلا شكّ أنّ شاعراً تعود إليه على هذه الشّاكلة كلّما حسبتَ أنّك ابتعدتَ عنه أو «شفيتَ» من سحر صوته الخاصّ يصير لك في خاتمة المطاف نوعاً من صديق، لا بل شقيقاً ولدته أمّك ولكنْ فرّقتك عنه لفترة من الزّمن حسابات تحقيبيّة لا علاقة لها بالزمنيّة الشعريّة.
لكي أهب هذا الكلام الشخصيّ امتداداً أكثر موضوعيّة أضيف أنّ هذا الشعور الذي وصفتُه لك بالكلمات المحدودة التي هي كلماتي إنّما يعبّر عنه بصورة أو بأخرى أغلب العاملين على شعر ريلكه، وهم كثار في لغات المعمورة، وما فتئ عددهم يزداد منذ عشريّنيّات القرن العشرين، أي منذ صدور قصائده الكبرى وما إن تجاوزَ هوَ أشعار شبابه. فريلكه هو شاعر الرّفقة العميقة، هذا الذي يفسح لك مكاناً في غنائه الخاصّ بينما يقيم شعراء كبار آخرون مسافة قاهرة بينك وبين عالمهم الروحيّ. وإنّ في الأمر يا صديقي لمفارقة كبيرة. فحتّى في الأشعار التي عمل فيها ريلكه بصورة واعية على التأسيس لشعر موضوعيّ، يظلّ هو شاعر التبادل الذاتيّ (ما يدعى «بين ـ الذاتيّة») بامتياز. هيَ مسألة الرّفقة العميقة والحاسمة التي أشرتُ إليها. هناك في الحياة أدعياء صداقة كما هناك أدعياء في الفنّ، وهناك من يمتازون بموهبة الصداقة ويفرضون أنفسهم عليك رفاقاً كباراً أو شفعاء أمام المجهول وإن لم تعرفهم. أضيف للاختتام أنّ موهبة الصداقة هذه كان ريلكه المتوحّد قد أحلّها في صميم مسيرته الشخصيّة. ساهمَ مثلاً في إعادة اكتشاف هولدرلين وأكّد على أهميّة غيورغ تراكل الشعريّة يوم كان هذا الأخير فتى شبه مغمور.

- غير السبب في «تحسين» لغتك الألمانية، مثلما تقول في تمهيدك للكتاب، هل كانت ثمة معوّقات أخرى منعتك من نشر هذه الترجمات قبل الآن، وبخاصة أننا نعرف أنك بدأت نشر بعض الترجمات منذ ثمانينيات القرن المنصرم؟
- كانت المعوّقات آتية في الحقيقة من ضخامة عمل ريلكه نفسه. من ضخامة معانيه وكثافة إيقاعاته، وكذلك من امتداد عمله من الناحية العدديّة. ما سيكون في أيدي قرّاء العربيّة بعد أيّام قليلة هو كامل المجموعات الشّعريّة التي نشرها ريلكه في حياته باستثناء أشعار شبابه التي تنكّر هو لها ورفض إعادة نشرها. وكما يفعل الناشرون والمترجمون الآخرون، مثّلتُ أنا على أشعار الشّباب هذه بصفحات معدودة، لغايات توثيقيّة ولإعطاء صورة عن بدايات الشّاعر وطبيعة تهمّساته الأولى. الحال إنّ هذه المجموعات المترجَمة تغطّي ثلاثة مجلّدات تنيف بمجموعها على ألف صفحة. ويبقى أن أكرّس مجلّداً آخر أو اثنين لقصائد ريلكه من وراء القبر، أي أشعاره التي نُشرت بعد وفاته. وهي تضمّ قصائد لم يدرجها هو نفسه في مجموعاته لأنّها لم تكن، رغم رضاه عنها، لتنسجم مع بناء هذه المجموعة أو تلك، أو لأنّها متأخّرة زمنيّاً ولم يُتَح له أن يجمعها بنفسه. وهناك أيضاً أشعاره الفرنسيّة التي سبق أن ترجمتُها وقد نفدت طبعتها الأولى أو تكاد، وعليّ أن أعيد نشرها مسبوقة بدراسة مقارنة بين شعر ريلكه الألمانيّ وشعره الفرنسيّ.
تبقى مسألة اللّغة، ولا أريد أن أتجاوزها. سبق أن ترجمتُ عن الفرنسيّة أعمالاً غير فرنسيّة قليلة. هناك صفحات معدودة للبرتغاليّ بسوا واليونانيّ إيليتيس نشرتُها في مجلّة «الكرمل»، وهناك ترجمتي لعمل دانتي «الكوميديا الإلهيّة» بأجزائها الثّلاثة. لقد ترجمتُ هذا العمل مستأنساً بقرب إيطاليّة دانتي، وهي شديدة الاختلاف عن الإيطاليّة الحاليّة، من الفرنسيّة ومن الأصل اللاّتيني المشترك الذي كانت دراسة نظامه النّحويّ والصّرفيّ من بين الدّروس الإجباريّة التي تلقّيتُها في السّوربون الجديدة غداة وصولي إلى باريس. فإذا ما استثنينا ترجمتي لبسوا وإيليتيس، إذ الأمر يتعلّق هنا بصفحاتٍ محدودة، فأنا لم أترجم عن لغة وسيطة إلاّ عمل دانتي، ترجمتُه بتكليفٍ من منظّمة اليونسكو التي فطن مسؤولو النّشر والتّرجمة فيها إلى ضرورة وجود ترجمة حديثة لهذا العمل في العربيّة. لكن إذا كانت ترجمة دانتي عن لغة وسيطة بدت لي ممكنة بسبب من قرب إيطاليّته من الفرنسيّة وكذلك بباعث من غلبة البنية السّرديّة على عمله، فالأمر بدا لي مغايراً بصورة كليّة في حالة ريلكه. إنّ الظرف التاريخيّ لعلاقة الثقافة العربيّة باللّغات الأخرى يدفع أحياناً إلى المرور بلغة وسيطة، إلاّ أنّ كثافة الصّور وخصوصيّة المفردات وأهميّة الإيقاع المتعدّد في شعر ريلكه، هذا كلّه جعلني أعتبر ترجمته من لغة وسيطة أمراً غير مبرَّر.
وعليه فقد جاء ريلكه ليضيف لغته إلى الفرنسيّة والإسبانيّة اللتين تزيد ممارستي لأولاهما على ثلاثة عقود وللثانية على عقدين من السّنوات. هذه المغامرة لا أعدّها أنا مأثرة بقدر ما أرى فيها مراساً ورثتُه من بيئتي العراقيّة الأصليّة أوّلاً، وعزّزه وجودي في الأجواء الثّقافيّة الأوروبيّة داخل الجامعة وخارجها ثانياً. فالعراقيّون شعبٌ موهوبٌ في تداول اللّغات. إنّ الكثير من سكّان جنوب العراق وشماله ممّن يعيشون في بيئات متعدّدة الإثنيّات أو المجموعات الثّقافيّة يُحسنون الكلام بلغاتٍ عديدة إلى جانب العربيّة، كالكرديّة والفارسيّة والتركيّة والسريانيّة والآشوريّة، والكثير منهم يحذقون الإنجليزيّة. وعديدون هم المنفيّون العراقيّون الذين يكتبون في لغات البلدان المقيمين هم فيها. أمّا في الأوساط الجامعيّة الأوروبيّة فيندر أن تجد من يقرأ بأقلّ من ثلاث لغات، وإذا ما وُجد أستاذ من هذا النّمط اعتبرَه زملاؤه غير مكتمل التكوين الثقافيّ. وعليه فما حاولتُه وأحاوله من مراسٍ لغويّ متعدّد إنّما هو انهماك موروث وليس ميزةً شخصيّة.

- هل توافق على الترجمة من لغة وسيطة فقط من أجل ناحية التاريخ الثقافيّ؟ ألسنا بحاجة إلى ذلك نحن في العالم العربيّ؟
- عندما أشير إلى التّاريخ الثّقافيّ فأنا أقصد الإمكانات الموضوعيّة المتاحة أو غير المتاحة للغة معيّنة في فترة معيّنة من تاريخها. فمثلاً، عندما سطع نجم الرّوائيين اليابانيّين في العالم، اضطرّ الفرنسيّون في البداية إلى ترجمة أغلب أعمالهم الكبرى عن الإنجليزيّة، ثمّ تكوّنت في العقدَين الأخيرَين بخاصّة مجموعة من المترجمين الفرنسيّين اللاّمعين عن اليابانيّة تلقّى أغلبهم إعداده اللّغويّ والأدبيّ في المعهد العالي للّغات والحضارات الشّرقيّة الذي أعلّم أنا فيه. كما أنّ أغلب التّرجمات الفرنسيّة لرباعيّات الخيّام أو لأشعار رابندرانات طاغور قيم بها عن الإنكليزيّة. العرب هم أيضاً ما زالوا مضطرّين إلى المرور بالتّرجمات الوسيطة حتّى في ترجمة أعمال مكتوبة بلغات متداوَلة في بلدانٍ مجاورة للبلاد العربيّة. فعلى سبيل المثال، لم يتقدّم أحد لترجمة روايات الأفغانيّ عتيق رحيمي المكتوبة بالفارسيّة حتى بادرتَ أنتَ وترجمتَها عن الفرنسيّة. الشيء نفسه بالنّسبة للتركيّ أورهان باموق، فالقليل من أعماله مترجم إلى العربيّة عن التركيّة. ومنذ عقود والغرب ينهل من «كتاب الشّاي» لليابانيّ كاكوزو الذي بقيت الثّقافة العربيّة تجهله حتّى قام سامر أبو هوّاش بترجمته أخيراً عن الإنجليزيّة. هذه الممارسة شائعة إذَنْ عالميّاً ولها ما يبرّرها، ولكنّها تحمل أحياناً من الإشكالات أكثر ممّا تحمل التّرجمة المباشرة، التي لا تخلو من الإشكالات هي أيضاً كما هو معروف. ذلك أنّ المترجم الذي يترجم عن ترجمة (وقد يكون مترجماً خلاّقاً) لا يرث منها العمل المترجَم وحده بل عيوبها أيضاً ومزالقها الممكنة واختيارات صانعها اللغويّة.
لقد أعيدت في فرنسا ترجمة روايات دستويفسكي كلّها في السنوات الأخيرة، وأخذ المترجمون الجدد وكذلك دارسو الأدب على مترجميه الأوائل أنّهم فرضوا على أسلوب صاحب «الإخوة كارامازوف» مهابةً لغويّة لم تكن من اختياره، إذ تكشف دراسة عبارته الأصليّة عن قربٍ متعمّد ومُستهدَف من إيقاع الكلام المباشر بما يحمله ذلك من غلبة للتّعبير العفويّ والجمل المتداخلة وضرب من الهذيان. كما أعيدت ترجمة أعمال كافكا وكان مأخذ المترجمين الجدد على سلفهم الكبير ألكسندر فيالات كونه طمس نوعاً من السّخرية المتكتّمة يبدو أنّه دائم الحضور في لغة كافكا. مثالٌ أخير: معروفٌ أنّ الكاتب التشيكي ميلان كونديرا قد أشرف بنفسه على وضع ترجمة فرنسيّة جديدة لرواياته بعدما أتقن الفرنسيّة، وفاجأ الجميع بالقول إنّ التّرجمات السّابقة لا علاقة لها برواياته. خلاصة القول إنّ على المترجم الذي يضطرّه الظّرف التّاريخيّ للغته أو رغبته الشّخصيّة إلى المرور بترجمة وسيطة أن يتأكّد أوّلاً من مصداقيّة هذه التّرجمة ودرجة قربها أو ابتعادها عن النّصّ الأصليّ. أمّا في الشّعر فأنا أعتقد أنّ هذه الإشكالات تزداد حدّة وخطورة، نظراً لتعويل الشّعر على الإيقاع وكثافة اللّغة وشبكات الصّوَر والمجازات، وذلك بشاكلة تدفعنا إلى القول بوجود شعراء لا يمكن ترجمتهم إلاّ عن لسانهم الأصليّ.

- تقول إنّك عدت إلى ترجمات ريلكه المختلفة، إلى اللغات التي تعرفها. بماذا أفادك ذلك؟ هل كانت ثمة اختلافات بين نص وآخر؟ هل ثمة تأويل بين ترجمة وأخرى؟
- لقد عدتُ إلى العديد من التّرجمات في بداية اشتغالي على ريلكه قبل ما يقرب من عشرين عاماً لأستمدَّ منها عوناً في فهمه وتذوّقه. وهالني منذ تلك الفترة ما لاحظتُه بينها من اختلافات دلاليّة وخصوصاً إيقاعيّة. ولا أكتمك أنّ هذه الفوارق هي أهمّ ما يقف وراء قراري بالتريّث والاقتراب من لغة ريلكه. وظللتُ أستأنس بقراءة هذه الترجمات لألاحظ تناقضاتها وأرى مَن يصل من بين مختلف المترجمين إلى ما أعتقد أنّه يشكّل المعنى الصّائب لهذا البيت الشعريّ أو ذاك. وكلمة «الاعتقاد» واهية هنا في الحقيقة لأنّ الأمر يتعلّق بفهم عمل المعنى داخل السّياق الكليّ المندرج هو فيه. وعلى قلّة معرفتي بالإيطاليّة فقد لاحظتُ لدى مترجمي آثار ريلكه الشّعريّة الكاملة إلى هذه اللّغة اشتغالاً على الجانب الصّوتيّ لأبيات ريلكه لا تراه حاضراً بالكثافة نفسها في التّرجمات الفرنسيّة. وهو أمرٌ عائد إلى اختلاف الطّبيعة الصّوتيّة لكلٍّ من هاتين اللّغتين، وكذلك إلى اجتهاد المترجمين واستراتيجيّات الصّياغة التي يتبعونها في ترجماتهم. وإلى جانب البعد الدّلاليّ الذي يهمّني كثيراً بطبيعة الحال، لاحظتُ في بعض التّرجمات الفرنسيّة شيئاً من التّلاعب بامتداد البيت الريلكيّ نفسه. عندما تترجم بيتين أو ثلاثة أبيات تجمعها بنية نحويّة ومعنويّة واحدة يجوز لك بطبيعة الحال، لمداراة بناء لغتك، أي ما يُدعى اللّغة المستقبِلة، أن تضع في البيت الأوّل كلمة أو عبارة جزئيّة تشغل في النّصّ الأصليّ مكاناً في البيت الثّاني أو العكس. لكن أن يعمد المترجم إلى تقسيم بيت طويل لريلكه إلى بيتين أو ثلاثة، أو إلى جمع أبيات قصيرة عديدة في بيت طويل واحد كما لاحظتُ لدى بعض المترجمين الفرنسيّين، فهذا يهدّد في اعتقادي بإبعادنا عن إيقاع العمل الأصليّ بصورة خطيرة. صحيحٌ أنّ لغة ريلكه مكثّفة بصورة رهيبة، فتراه يقول في بيت واحد ما يقوله شعراء آخرون في ثلاثة أبيات. لكنّ امتحان التّرجمة يتمثّل في اعتقادي في العمل على محاكاة كثافته هذه. هناك أيضاً الإشكالات الدّلاليّة. تجد الكثير منها في ترجمة الشّاعر الفرنسيّ، الهنغاريّ الأصل، لوران غاسبار، لـ «مراثي دوينو» و«جنّاز» وللقسم الأوّل من «قصائد جديدة» مثلاً. لقد وضع هذا الشّاعر الفذّ ترجمته هذه في العقد السّبعينيّ من القرن الفائت، وللأسف فقد أعاد نشرها منذ سنوات دون أن يعدّل فيها شيئاً. والحال، وباعتراف الكثير من المختصّين بعمل ريلكه، تحفل هذه التّرجمة بالكثير من أخطاء الشّباب. أهبكَ مثالاً واحداً. تتردّد في شعر ريلكه مفردة Sprung (وهي تُلفظ بالألمانيّة «شبرونغ»)، ولها معنيان متضادّان كما في ظاهرة «الأضداد» المعروفة في العربيّة. فهي تدلّ على «وثبة» أو «قفزة» أو «فزّة» من جهة، وعلى «شقّ» أو «صدع» من جهة أخرى. وهي غالباً ما ترد عند ريلكه بالمعنى الثّاني. ففي قصيدة «جنّاز» مثلاً، يخاطب ريلكه الشّاعرَ الشّاب المنتحر فولف فون كلاكْرِويثْ قائلاً له إنّه عندما ينتحر أحدٌ فإنّ «صدعاً عميقاً» يتغلغل في أعماق الأرض. والحال، فإنّ ترجمة «الصّدع» هنا إلى «وثبة» كما يفعل غاسبار تظلّ في غير معناها لا سيّما أنّ الشّاعر يضيف في المقطع نفسه أنّ هذا الصّدع تنصعق منه حتّى أدمغة الحيوانات، فالانتحار، انتحار الفنّان بخاصّة، إنّما هو في نظر ريلكه صنيع سلبيّ يرجّ نواميس الكون.
أمّا عن التأويل الذي تذكره في سؤالك فهناك للأسف الكثير منه. خذ مثلاً الترجمة التي وضعها المسرحيّ المعروف آرتور آداموف، وهو فرنسيّ من أصل روسيّ، لقصيدة ريلكه الطّويلة «كتاب الفقر والموت» في أربعينيّات القرن الماضي. صحيحٌ أنّ المترجم يُقرّ بكونه تصرّف في ترجمة بعض الأبيات وحذف بعضاً منها، لكنّ هذا التصرّف في ترجمة قصيدة واضحة وشديدة التّماسك كهذه لا يمكن فهمه إلاّ باعتباره نتيجة لإفلات شبكات المعاني والصّور من قبضة مترجمها. هاكَ مثلاً. ففي مطلع هذه القصيدة التي هي من أولى أعمال ريلكه «النّاضجة»، يتخيّل الشّاعر نفسه معدناً لم يخرج إلى النّور بعد، وما يزال يقبع في أعماق الجبل وسط كتل الظّلام المتكاثف حوله. وعندما يصوّر الشّاعر نفسه «غائصاً بعيداً» فلا يرى «من مسافة ولا من غاية»، ويترجم آداموف إلى: «أنا ضائعٌ في هاويةٍ غير متناهية/ في ظلام عميق وبلا أفق»، فلا شكّ في أنّه يُبعدنا عن صورة الانحصار في كثافة الصّخر ويزجّنا في ضرب من انتشار فضائيّ شديد الإرباك للسّياق الشعريّ الأصليّ. في القصيدة نفسها يكتب ريلكه أيضاً أنّه لم يصبح بعد معلّماً أو أستاذاً أو خبيراً Wissender في الألم. وعندما يترجم أداموف إلى: «ما زلتُ لا أعرف أن أعاني كما ينبغي»، أو عندما يترجم فريدريك كيسل وغاستون كومبار إلى: «ما زلتُ متدرّباً في الألم»، فلا شكّ في أنّهم يخفّفون قليلاً فكرة «الأستاذيّة» في المعاناة، «الأستاذيّة» في تكبّد الألم وتجاوزه بتحويله إلى شيء خلاّق، هذه الفكرة التي تشكّل إحدى ثوابت عمل ريلكه. هذه مجرّد أمثلة بسيطة، وفي ترجمات عمل ريلكه الأساسيّ «مراثي دوينو» (وهناك ثلاث عشرة ترجمة له في الفرنسية وحدها) تلاحظ لدى القراءة المقارنة تجاوزات أخرى هي أكثر دلالة وربّما كانت أكثر عنفاً أيضاً. 

- كيف عملت أنت على النصّ العربيّ؟ هل الترجمة كتابة أخرى؟ كيف تفهمها؟
- مثلما في ترجماتي الأخرى، حرصتُ هنا على عدم الابتعاد لا عن دلالات الشّاعر فحسب بل عن بنائه وشكل قصيدته أيضاً. إنّني أفهم التّرجمة باعتبارها «استحداثاً للرّجّة نفسها في نظامٍ لغويّ آخر» كما ورد في تعريف الشّاعر الفرنسيّ بول فاليري لهذه المسألة. والجميل، والدّقيق أيضاً، في هذه العبارة أنّ فاليري لم يتحدّث عن استحداث المعنى نفسه، بل تكلّم على «رجّة»، أي على أثر شامل للنصّ يستوعب كلاًّ من دلالاته المعنويّة وآثاره الفنية. أنا لا أفهم التأويل بمعنى الحريّة المتسيّبة التي تسمح للمرء بأن يفهم النّصّ «على هواه» ويعيد إنتاجه بيسير من الجهد، بل أفهمه باعتباره تمحيصاً فكريّاً وذوقيّاً مضنياً وصاحياً ومسؤولاً يستهدف المعنى الأساسيّ إن لم أقل الأوحد الذي يريد الشّاعر أو المؤلّف إيصاله. وهذا وحده لا يكفي. فالمعنى لا يأتي كبلاغٍ عاديّ أو رسالة معنويّة محض، بل تنبغي إعادة خلقه بأقرب ما يمكن من ترتيبه السّياقيّ والبنائيّ الأصليّ وفي نوعٍ من المحاكاة لرجّته الخاصة. وذلك ضمن الحدود التي تسمح بها اللّغة المستقبِلة طبعاً، مع شيء من السّعي إلى زحزحة هذه الحدود تدريجيّاً. واللّغات نفسها لا تفتأ تزحزح حدودها وتكتسب وتائر جديدة في القول يمليها تطوّر المعيش اللّغويّ والفكريّ والجماليّ لكلّ ثقافة. ذكرتُ المعنى الأساسيّ إن لم أقل الأوحد الذي يقصده الشّاعر، لأنّني أعتقد أيضاً أنّ هناك دائماً دلالة يقصدها الشّاعر هي لا سواها، وهذه الدّلالة لا نبلغها بفعل تخمينٍ ولا نقاربها عفوَ الخاطر، بل نستقصيها ونستنبطها عبر دراسة كامل السّياق المنبثقة هي فيه. ذلك أنّ السّياق الذي تندرج فيه فكرة أو صورة ما لا يكفّ في حقيقة الأمر عن إطلاق إشارات وحوافز تدفع القراءة في اتّجاه معيّن، كما في سياق الكثافة الصخريّة أو التراصّ الجبليّ الذي يلحّ عليه ريلكه ويؤسّسه تأسيساً في أبيات متلاحقة في مطلع «كتاب الفقر والموت» المشار إليه أعلاه.
أشير أخيراً إلى أنّ هذا المعنى الرّئيس إنّما تتضافر في صنعه أغلب الأحيان دلالات حافّة أو إيحاءات مكنونة لصيقة بثقافة الشّاعر ويلتقطها أبناء ثقافته أو معاصروه بسهولة، ولكنّها غالباً ما تخفى على أبناء الثّقافات الأخرى أو الحقب الأخرى. وهنا تبرز ضرورة الحواشي التي لا تزيل فحسب إمكانات عدم الفهم بل تقلّل من إمكانات إساءات الفهم أيضاً. إساءات فهم من النّوع الذي جعل قرّاء العربيّة يعتبرون شاعراً مثل سان ـ جون بيرس شاعر قصيدة نثر، وهو في الحقيقة شاعر البيت الذي يمتدّ على حدود فقرة كاملة كما في ما يُعرف في العربيّة بالقصيدة المدوّرة. من هنا جاءت ترجمتي هذه هي الأخرى مدعومة بمئات الحواشي التفصيليّة والمعمّقة، قمتُ بتكثيفها عن الشّروح التي كان موجِّهي في هذه التّرجمة زميلي البروفيسور النمساويّ غيرالد شتيغ قد وضعها لأعمال ريلكه التي أشرف هو على نشرها في سلسلة «لابلاياد» الفرنسيّة. 

- ذكرت قبل وهلة ترجمتك لقصائد ريلكه المكتوبة مباشرة بالفرنسية. اليوم تصدر نصوصه المكتوبة بالألمانية. ما الفارق بين «الشاعرين»؟ إلى أيّ مدى ثمة «خيانة» في اللغة عنده؟
- لا يمكن في الحقيقة الكلام على «شاعرَين» بقدر ما على شاعر واحد يقول في الفرنسيّة بنبرٍ خفيض أو متكتّم أشياء قالها في أشعاره الألمانيّة بنبرٍ جهيرٍ أو هادر. ذكرتُ أعلاه إنّني أعِد قرّاء العربيّة بدراسة مقارنة بين أشعار ريلكه في اللّغتين، قد أضعها بنفسي أو بالتّعاون مع غيرالد شتيغ. يكفي أن نقول الآن إنّ المختصّين بعمل الشّاعر يلاحظون فوارق في العمق وصرامة البناء الشّعريّ. أن نساوي بين أشعار ريلكه في اللغتين يعني أن نعمى عن ريلكه الأساسيّ. ريلكه نفسه، بنزاهته الكبيرة المعهودة، كتبَ يقول إنّ أشعاره الفرنسيّة، التي ألّفها في سنيّه الأخيرة، إنّما تتقدّم في هامش شعره الألمانيّ. إنّ اللّغة غير الأصليّة تصمد أمام الشّاعر وتقاومه، ولا أكثر طبيعيّة من هذه المقاومة. والشّاعر يداريها بالإفراط في الوشي والنّمنمة والتّأنّق، وهذه أشياء غائبة تماماً عن أعماله الألمانيّة النّاضجة. بل ترى حتّى أنّه يلجأ إلى الوزن والقافية في الأغلبيّة الغالبة من أبياته الفرنسيّة، هو الذي هجر القافية وتبنّى البيت الحرّ في أغلب أشعاره المتأخّرة، خصوصاً في أغلب صفحات «مراثي دوينو». لا شكّ في أنّ الهجرة اللّغويّة أو استخدام اللّسان المستعار قد أنتج لنا روائيّين كباراً من أمثال جوزيف كونراد الذي هجر البولنديّة إلى الإنجليزيّة، وصموئيل بيكيت الذي هجر الإنجليزيّة إلى الفرنسيّة في أغلب أعماله، وفلاديمير نابوكوف الذي هاجر من الروسيّة إلى الإنجليزيّة. لكنّنا لا نعرف مثالاً واحداً على شاعر أنجز عملاً حاسماً في لغة غير لغته. ينبغي بالطّبع الانتباه إلى أنّ شعراء يمارسون لغةً أجنبيّة منذ نعومة أظفارهم كما في حالة جورج شحادة الذي كتب بالفرنسيّة لا تندرج ضمن ظواهر الهجرة اللّغويّة، فاللّغة الأجنبيّة هي هنا لغتهم الثّقافيّة الأولى. ولنتذكّرْ أنّ بيكيت نفسه، العبقريّ في مجال الرّواية، كتب بالفرنسيّة أشعاراً لم تجتذب إلاّ أنظار القلائل من العارفين بأعماله عن قرب، وهم يتناولونها باعتبارها ملحقاً بعمله الرّوائيّ الحاسم والضّخم. على النّحو ذاته، يُعجب قرّاء ريلكه بأشعاره الفرنسيّة باعتبارها إضافة جميلة لعمله الألمانيّ. وهناك الكثير من الرّموز والظّواهر والتناولات المشتركة بين أشعار ريلكه الألمانيّة والفرنسيّة. وبالمقارنة بين المعالجات التي يُخضعها لها الشّاعر في كلّ من اللّغتين يستطيع المرء أن يشخّص الفارق الكثافيّ أو تفاوت العمق والجذريّة بينها في شعره المكتوب بلغته الأصليّة وبينها في شعره الموضوع في اللّغة المُعارة. هذا يعني أنّ المقارنة ينبغي أن تُجرى بين ريلكه وريلكه، لا بينه وبين شاعر سواه. ولعلّ القارئ العربيّ باتَ اليومَ قادراً على إجراء هذه المقارنة بنفسه.
"عن السفير"