المقاله تحت باب قصة قصيرة في
22/09/2009 06:00 AM GMT
انتشرت العتمة وملأت المكان بسكون رهيب، الضوء اليتيم يتسلل خلفي بخفوت .يخترق أجواء الغرفة بملل كاشفاً لوحة الأرقام المعلقة على الحائط ذو اللون الغامق، على نفس الجدار صورة لعين بشرية بأوضاع مختلفة، بعضها جميل وبعضها مقرف. - لا تتحرك، افتح عينيك جيدا. دون أن يرفع رأسه قالها الطبيب .ناولني منديل ورقي, بينما فتحت يده الأخرى علبة دواء بلاستيكية. برؤوس أنامله دفع حنكي للخلف، رفعت رأسي عالياً فجاء السقف ألابيض الصقيل يواجهني بمروحتة البنيه . كانت تتدلى في الوسط و تدور ريشاتها الخشبية ببطء وميوعه . قطر في عيناي .شعرت بلزوجه وغشاوه، حدقت بتركيز فارتبكت اذرع المروحه وتموج جسم الطبيب, صار كشبح امتزجت لون نظاراته السوداء بسواد شعره اللماع، مسحت السائل النازل على الخدين بورق شفاف فيما ازادت الحرقة . -قرب وجهك, وللأمام انظر. ردّدها مرتين. دفع أنبوبا أفقيا اسودا باتجاه الحدقة فتموضعت نهايتها بين الجفون، انحجب البصر وراحت التواءات الأوردة تتناثر في مساحه شفافه وتتراءى لي كاانهار زرقاء . خلف الآلة جلس بصدريته البيضاء . وجهه المستدق يواجههني بصلابه وشكيمه ،و رائحة السكائر تتطاير قوية من فمه المزروع تحت شوراب هتلرية الشكل، عبر الانبوب المغروس بين الاجفان صار يتجول في جغرافية عيني ويبحرفيها ساد لون أصفر في الرؤيه لبرهه مختزلا اطياف الشمس ثم توارى , بكبسه زراطفأ الجهاز فعدت لوضعي الطبيعي فعرفت ان الطبيب انتهي ـ قطرة أو قطرتان عند الحاجة. قالها بجفاف, عدل جلسته . بحركة متقنه سحب جسمه للامام فاندفع الكرسي المتحرك يسارا صوب الطاولة المقابله و بدوسة قدم اوقفه. فتح خزنة اخرج منها ملفا أزرقا ثم ادار زر المصباح، شع نور قوي ملاء فضاء الغرفة مما ولّد حرقة حادة مرة اخرى ،مسحتُ بقايا السائل واكتفيت بالتامل والانتظار . من جيب صدريته تناول قلما وراح يدوّن و يرسم ويقلٌب أوراقاً , كان الملف يحوي صوراً، ووصفات طبية, وتواقيع مشوهه, ودون أن يلتفت توقف هنيهة, أضاف بصوت أجش: - حالة عينك غير مستقرة ، وتلزمك كشوفات مستمرة. - لكني لم أشكو من ألم, وقبل أن أنهي الجملة. - تحتاج عناية مركزة ومراجعات دائمة. تمتم بخفوت متجاهلا سؤالي كأنه لم يسمعني ، وارى رأسه خلف طيات الملف منكبا على كتابة بقايا تقريرورائحه فمه النتنه حاضرة بشدة بيننا . تيبس ريقي وتسارع نبضي وشكي نزّت حشرات برأسي وزاد طنينها. قلقت ، . فللمرة الثانية يخبرني بسوء حالتي، في المرة الاولي اخفيتها عن اهلي خوف وصول الخبر لدائرتي فيستبدلوني بعادل الطامح بنيل منصب محاسب لغاية معروفة بحرارة مصطنعة صافحته بعد ان اخذت الوصفه وخرجت , الممر بارد ببلاطات مربعة صفراء مطعمة بزهور ارجوانيه اللون ،وجوه شاحبة يسكنها الخوف والتساؤل, تجلس على الجانبين فوق الكراسي المبعثرة, عيون مريضه تنتظر الأمل وتخشى العمى .علب فارغه لادويه و وصفات طبيه ممزقه مرميه بالممر. الى باب البناية وصلت باستخدام المصعد الكهربائى، في الخارج الطريق الإسفلتي لينا تظلل جانبيه أشجار صنوبر بقاماتها الممشوقة وخضرتها الوارفة. نسيم العصر يبعث إحساسا جياشاً لا تعكره سوى لسعه حرارة متبقية من نهار يوم قائظ. ممسكاً بالوصفة الطبية امشي واهمس ماذا يعني الطبيب، أأكون في طريقي للعمى، لا أظن الأمر مزحة اومبالغه هو ملزم بقول الحقيقة ،. اجتزت زحام الارصفة المتراصة اراقب عيون الناس ، البقالة. المتسولين والاطفال والنساء والسكارى كل الاشياء حولي صارت عيون حتى النوافذ الخشبية المعلقه والمطلية باللون الاحمر في تلك الازقه الملتويه تحولت لعيون بشرية تسخر مني وتفتح ضلفتيها كجفنين براقتين وتلتهمني بوحشية ونهم. مررت بمباني بائسه ثمة ملابس تنشر على سطوحها الرثة تعكس حال ساكنيها وتذكرني بالعيون . وصلت النهر. فهذا الفارس العملاق يمتد بثقة واتزان في عمق الأرض، تعانق مياهه الغروب بحضن دافئ، فتنعكس موجاته عالياً مولدته نزقًا لونياً تتباهى به الطيور وهي تناغم هذا الأصيل البهي الساطع، أطفال صغار يتوزعون جوانب النهر قرب الأرصفة بين السيارات يبيعون السكائر والمشروبات الغازية. سحرني المشهد. كان دجلة على الجرفين ينتظرني وهو يغسل خصلات من َشعَر بغداد، انقدت نحو المتنزه, على إحدى المساطب الخشبية الموزعة بفوضى وإهمال استرحت, أخرجت علبة سكائر, أشعلت واحدة .راقبت دخانها, التراب المهمل أمامي يحارب اللون الأخضر في الطبيعة بزحفة اللا أخلاقي على الحديقة المنسية, فضلات هنا وهناك, بقايا مأكولات وأكياس ورقية تشوه المكان . كنت أفكر بكلام الطبيب عشاق صغار شغلوا المصطبة القريبه، جلسا سويه, كاد الشاب يلتهم فتاته، يدنو منها تاره ويبتعد اخرى . المسافة بينهما خجولة ، همس بريء وحوار ملتهب ورغبة دفينه بالعناق الممنوع . تمعنت اليهما بحذر دون ان ينتبها , سماء وفراغات وموسيقى شكلا لوحه عشق شرقية تفوح منها صبابة ووجد , الفتاة صامتة تنظر بعيون عطشانه و الشاب يستعرض فلسفته بالدنيا, تعينة في ترجمة مشاعره حركة يداه المشعرتين غير عابئ لطنين الذباب وهجمات البرغش ورطوبه الجو . بدأ الغروب يزحف نحو المكان بطراوة فيما اعتلت الأضواء قامات الأعمدة المتناثرة بين الأشجار. نهض العاشقان وغادرا , سارا متقاربين تابعت خطواتهما وقبل ان يصلا الشارع اقتادو رجل كفيف يريد الاجتياز بكلتا يديه و عبروا.غاب الثلاثه في زحام الضفه الثانية من الشارع . اخذني المشهد بعيد ولم افق الا على لسعه جمر السيكاره المنسيه بين اصابعي فتلاشت ملامح الطبيب وتحولت كلماته لفتات خبز تجمعت عليها الأسماك، النهر لبس ثوب زاه فاأمح من الذهن وجه عادل ، وارتفعت في الجو صيحات الخمارة ورائحه المسكوف. وعلى شاطئ دجله تلآلآت حبات الرمل السهرانه والمغسوله باضواء ابو نؤاس لتحيل موجات النهر الى سمفونيه حب قادمه انذاك غادرت موضعي جذلا نحو بيتي الذي كان ينتظرني لكن هذه المرة بغير عادته.
|