المقاله تحت باب في السياسة في
10/09/2009 06:00 AM GMT
د.يحيى الكبيسي
يؤكد مونتسكيو في كتابه "روح القوانين" الصادر عام 1748 ، على مبدأ الفصل بين السلطات Separation of powers الثلاثة: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. وضمان استقلالية كل منهما عن الأخرى كونه الضمانة الحقيقية للحفاظ على استمرار أسس الدولة الحديثة، وضمان الحريات العامة، واحتكار أي من هذه السلطات للسلطة، يهدد بإحلال الاستبداد والطغيان محل القانون. وقد صار مبدأ الفصل هذا مقدمة ضرورية لنشأة الدولة الحديثة، وأحد أهم المبادئ الدستورية والأساس الذي تقوم عليه النظم الديمقراطية الحديثة. هذا الفصل يعني التوزيع المتوازن للسلطة (Power) بين السلطات الثلاث، وتفعيل الرقابة المتبادلة بينها: Power should be a check to power ، ويتطلب ذلك، بداية، احترام كل سلطة لاختصاصاتها التي حددها الدستور. ظلت فكرة الفصل بين السلطات مغيبة في الممارسة السياسية العراقية على مدى تاريخه الحديث، وإذا كان القانون الأساس لعام 1925 قد حاول الاقتراب من المفهوم من دون النص عليه بشكل صريح، فإن الدساتير الجمهورية بداية من العام 1958 قد أسقطت هذا المفهوم تماما. سواء من خلال عدم ذكره في الدساتير المؤقتة المتتالية )1958، 1964، 1968، 1970(، أو من خلال الممارسة السياسية التي شهدت احتكارا أحاديا للسلطات بشكل كامل. على الرغم من ذلك، فقد حرصت الدساتير العراقية جميعها على النص على "استقلالية القضاء": ـ دستور 1925: " المحاكم مصونة من التدخل في شؤونها " )المادة 71.( ـ دستور 1958 المؤقت: " القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة أو فرد التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة" )المادة 23.( ـ دستور 1964 المؤقت: " الحكام والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة" )المادة 85.( ـ دستور 1968 المؤقت: " الحكام والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأيه سلطة التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة" )المادة 79.( ـ دستور 1970 المؤقت: " القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون" )المادة 60/أ.( وكان واضحا انه على الرغم من النيات الحسنة، لم تكن فكرة الفصل بين السلطات ومعها مفهوم الاستقلالية واضحين في ذهن النخب السياسية، على سبيل المثال لا الحصر، صدر في العام 14/5/1963، أي بعد شهرين من تولي القوميين والبعثيين السلطة في العراق، القانون رقم 26 الخاص بـ "السلطة القضائية"، وقد جاء في الأسباب الموجبة لهذا القانون: " إن من أهم المبادئ الأساسية التي أرست كيانها ثورة 14 رمضان المبارك، مبدأ سلطان القضاء وصيانة استقلاله وهذا لا يتم ألا بإصدار التشريعات الحديثة التي تكفل ذلك". ولكن أحد مواد القانون نصت بشكل صريح على تدخل السلطة التنفيذية في أعلى مجلس في السلطة القضائية، جاء في القانون أنه في حالة غياب بعض أعضاء مجلس القضاء " للوزير أن يعين أعضاء احتياطيين من كبار موظفي وزارة العدل وحكام محكمة التمييز ليقوموا مقام الغائبين" )المادة 28/أ(. وربما كان قانون وزارة العدل الذي صدر في 27/7/1977 ، أكثر تعبيرا عن رؤية النخبة السياسية العراقية لسلطة القضاء، فهذا القانون ألغى، منذ البداية، قانون السلطة القضائية السابق، والذي بدا واضحا انه لم يكن سوى خطاب متعال لا علاقة له بما يحدث على الأرض، ونص على أن: "تتولى وزارة العدل الإشراف على القضاء وأجهزة العدل الأخرى" )المادة 1/أولا.( وكان ذلك المانفيستو الأخير لمقولة استقلال القضاء. المفارقة أن الاحتلال الأمريكي للعراق هو الذي فرض مبدأ الفصل بين السلطات بشكل صريح في قانون إدارة الدولة المؤقت الصادر في آذار 2004، التي نصت على إن نظام الحكم الاتحادي في العراق يقوم على "الفصل بين السلطات" )المادة4(. وقد اعتمد الدستور العراقي 2005 هذا المبدأ، فقد حدد نظام الحكم بأنه نظام نيابي (برلماني) ديمقراطي (المادة 1). وحدد طبيعة السلطات فيه بأنها: "السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات" (المادة 47). وفي السياق نفسه جاءت النصوص الدستورية الخاصة باستقلالية القضاء: ـ قانون إدارة الدولة المؤقت 2004: "القضاء مستقل, ولا يُدار بأي شكل من الأشكال من السلطة التنفيذية وبضمنها وزارة العدل. ويتمتع القضاء بالصلاحية التامة حصراً لتقرير براءة المتهم أو أدانته وفقاً للقانون من دون تدخل السلطتين التشريعية أو التنفيذية" ) المادة 43/أ(. ـ دستور 2005: " القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون" )المادة 19/أ.(
والسؤال ههنا هل نحن هذه المرة بإزاء فصل حقيقي بين السلطات، أم بإزاء إعادة إنتاج للعلاقة التي حكمت مؤسسات العراق منذ بداية تأسيسه الحديث عام 1921. أي أن نكون بإزاء ممارسة سياسية تتحرك بعيدا عن النصوص الدستورية والقانونية التي يفترض أنها الوحيدة الحاكمة: ـ صرح الدكتور مدحت المحمود في لقاء تلفزيوني الأسبوع الماضي أن عدد المشمولين بقانون العفو بلغ أكثر من 143 ألفا، بعضهم لم يتم إلقاء القبض عليه أصلا. ولكنه صرح أيضا بأنه لا يعرف عدد المفرج عنهم فعلا من هذه الأعداد. أي أنه ببساطة ثمة عدد من المعتقلين المشمولين بالعفو لم تقم السلطة التنفيذية بإطلاق سراحهم. وعلل الأمر بأنه ربما كان هؤلاء مطلوبين بقضايا أخرى. وهذا يعني ببساطة عدم وجود إرادة سياسية لدى السلطة التنفيذية بتنفيذ القرارات القضائية الملزمة دستوريا وقانونيا. والغريب في تعليل السيد رئيس مجلس القضاء الأعلى ـ وهو في الوقت نفسه رئيس المحكمة الاتحادية العليا ورئيس محكمة التمييز ـ إن أوامر إلقاء القبض يفترض أنها تصدر عن السلطة القضائية نفسها، فهل يعني ذلك أن ثمة اعتقالات تتم من دون معرفة السلطة القضائية، أم أن ثمة أوامر إلقاء قبض لا تعرف بها السلطة القضائية نفسها؟ خاصة في ظل تصريحات السيد رئيس الوزراء الأسبوع الماضي )وهو ما أشرنا إليه في مقالة سابقة(، والتصريحات المتوالية لبعض أعضاء مجلس النواب وقادة أمنيين بصدد هذا الموضوع. ـ ما زلنا نتذكر جميعا تهرب السلطة القضائية في البت بقضية رئاسة مجلس النواب، وتأجيلها المستمر لذلك، ما دفع الناطق باسم جبهة التوافق إلى اتهام المحكمة الاتحادية العليا بأن هناك أهدافا سياسية تقف وراء التأجيل ) أصوات العراق في 24/3/2009(. ـ وما زلنا لا نعرف رد المحكمة الاتحادية العليا على السؤال الذي وجهناه لها في هذه الصفحة بتاريخ 13/4/2009 بصدد عدم تدخل المحكمة الاتحادية العليا المكلفة دستوريا بـ "الرقابة على دستورية القوانين" (المادة 93 أولا من الدستور)، للاعتراض على قانون انتخابات مجالس المحافظات عند صدوره، أو الاعتراض على المصادقة الرئاسية عليه، أو اعتماده في إقامة الانتخابات، ومن ثم نقض النتائج النهائية لانتخابات مجالس المحافظات، على الرغم من مخالفة ذلك لتفسير المحكمة للكوتا النسوية. ـ أخيرا وليس آخرا فان بقاء المحكمة الاتحادية العليا في موضع المنفعل وليس الفاعل في مجال تفسير المواد الدستورية، أو البت في الخلاف الناشئ بين السلطة الاتحادية وسلطة إقليم كردستان يبعث على تساؤل آخر ضمن سلسلة التساؤلات المطروحة. أخشى أننا إنما نعيد إنتاج احتكار السلطة بشكل منهجي، ليس الأمر مجرد هواجس أو تخوف غير مبرر، وإنما وقائع ثابتة.
|