الغربة بين الوطن والمنفى ، وعقوق سعدي يوسف

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
28/07/2007 06:00 AM
GMT



إذا كان أغرب الغرباء، من كان غريباً في وطنه، على رأي فيلسوف الأدباء أبي حيان التوحيدي ، فلماذا ينوح هذا الغريب، إذن، على الوطن، عندما يقرِّر أن يرحل عنه ؟.

ولماذا تظلُّ لوعة الحنين، وجمرة الشوق، تزعقُ في أنفاسه؟.
فهل الغربة داخل الوطن، أكثر رحمةً ، من الغربة في المنفى ؟.
وهل الحياة في المنفى ، أكثرُ قسـوةً ، من الموت في الوطن ؟.
وهل ألم العبودية في الوطن، أجملُ ، من لذة الحرية في المنفــى ؟.
...
هل يوجد فرق، بين المنفى في الوطن، والمنفى في الغربة ؟.
أليس المنفى هو المنفى ، والغربة في الوطن ، هي ذاتها الغربة في المنفى ؟.
ألم يكـن الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي على حق ، عندما أعلن: ( أن المنفى هوالمنفى في الوطن ، المنفى في الغربة ) ؟.

وهذا يعني أنّ كل ( العالم منفى ) .. وأنّ ( الوطن قد يأخذ أحيانا مكان المنفى ، والمنفى مكان الوطن ) .. وأنَّ ( أقنعة الوطن والمنفى ، تتغير باستمرار، وتدفع الشاعر إلى منفى جديد .. هو المنفى الذي لا يستطيع فيه العودة لا إلى المنفى ولا إلى الوطن )* .

أي أن الإنسان – الغريب ، سيبقى عائماً ، في مجرى النهر ، نهر (أنكسيمندريس)** الذي يتغيّر ويتجدّد ، دوماً ، أثناء حركته ، فيتغيّر معه كل شيء ، وتتبدّل الأزمنة ، والأمكنة ، والموجودات ، باستمرار ، إلى كائنات أخرى قد لاتشبهها، أو قد تكون نقيضاً لها.
فالوطن، وفق رؤية الشاعر ، قد يكون منفىً ، والمنفى قد يُصبحَ وطناً ، والمنفى قد يقود إلى منفى آخر جديد ( المنفى في المنفى ) .

وهكذا تستمر لعبة الحركة ، والتغيـّر ، والتناقض ، والصراع بين الأضـداد ، حيث تتحوّل الأشياء ، والمفاهيم ، والصور ، إلى أخرى جديدة ، بملامح وثياب حديثة ، تختلف عن صورتها القديمة ، وهكذا ..
وهذا يعني أنّ الوطن الجديـد ، سيكون منفىً أيضاً ! ، وأنّ عناء الغربة ، ولعنة الرحيل ، ستستمر من وطن إلى منفى ، ومن منفى إلى وطن ، حتى تنتهي إلى منفى، لايتمكن الغريب فيه ، من العودة إلى منفى، أو إلى وطـن ( غربة دائمة ).
فإذا كان الأمر ، هو كذلك ، فلماذا يستمريء الإنسان ، إذن ، هذه اللعنة ، وهذا العنـاء ؟.
ولمَ يصرُّ على استبدال منفى بآخر ، وغربة ٍ بأخـرى ، وعذاب ٍ بعذاب آخـر، مادام أنـّـه ، في نهاية المطاف ، لن يصل إلى ما يسعى إليه من خلاص ؟.

...

عن ماذا يبحث الغريب ؟.
هل يبحث عن وطن ٍ _ منفى ( جديد ) ، ومرفأ آخر ( بديل ) للغربة ، أو اللعنة .. أم عن وطن ٍ _ منفى ( مؤقت ) ، يغسل روحه من أدران الحزن ، واليأس ، والقلق ، وغبار العتمة ، والوحدة ؟ .
وهل يسعى إلى لذة إكتشاف سر ، أو سحر ، أو عذاب المنفى الآخر ، خارج أسوار الوطن _ المنفى الذي يقبع فيه ؟ .
أم أنّ القضية هي أبسط من ذلك ، وأوضح مما يقوله بعض الشعراء ، والفلاسفـة ، وأنـّها لاتعدو أن تكون سوى ( رغبة ) مشروعة لعناق الأمان ، والحرية ، والمعرفة، والتسامح ، وأشياء أخرى ، يصعب الحصول عليها في الوطن الأم ، خصوصاً عندما يتفشى فيه القهر، والقمع ، والطغيان ، والقتل ، والجوع ، والتوحش ، والتبلّد ، والتخلّف ، والتزمّت ؟.
وهل أنّ تحقيق مثل هذه الرغبة ، يبرّر للإنسان المُهجَّر ، أو المهاجـِر، أن يكره وطنه ، أو أن يجعل منه مجرّد محطة قديمة ، وعابرة ، مفعمة بذكريات الطفولة ، والأهل ، والأصدقاء ، فقـط .. يستطيع بعد أول رحلة ، أن يركنها في زاوية مهملة من زوايا الذاكـرة ؟!.
أو أن يتقمّص هذا الإنسان ، دور الضحية أو الشهيد ، فيزعم أنه قد نسيَ ذلك الوطن الغليظ القلب ، أو يريد أن ينساه ، ولايريد أن يعود إليه ؟.
أو أن يرتدي قسوة الجلاد ، فيتمادى في حقده ، وجحوده ، ويعلن موت الوطن في عقله ، وضميره ؟ !.
أو أن يحاول البعض ، ممَّن كان الوطن ، هو عبير أغنياتهم ، ووهج قصائدهم ، أن يطعنوه ، ويجرحوه ، بتبرؤهم من الإنتساب إليه ، وقولهم بأنّ الوطن ( لم يعـد لهم وطناً ) ، وأنـّه صار ( وطناً ملغىً ) ، بالنسبة لهم ، كما صرّحَ بذلك ، أخيراً ، الشاعر العراقي (سعدي يوسف) ! ، حتى وإن كان هذا القول من وراء قلبه ، لدرجة أنّه أعلنَ عن عدم رغبته في ( أن يدعوه أحد بالشاعر العراقي ) ، بينما كانت سلسلة ذهبية تتدلى من رقبته ، ترقد في نهايتها خارطة صغيرة للعراق*** ؟!!.



الهوامش
ـــــــــــــــــ
* حوار مع الشاعر البياتي، أجراه معه ( فراس عبد المجيد ) في المغرب – موقع الكاتب العراقي
** فيلسوف يوناني قديم، عاش قبل سقراط وأفلاطون
*** حوار مع الشاعر سعدي يوسف، أجراه معه ( محمد شعير ) في مصر - موقع الحوار المتمدن



فارس الطويل - ألمانيا
mailto:Altaweel60@hotmail.com