المقاله تحت باب قصة قصيرة في
14/08/2009 06:00 AM GMT
إهداء: إلى نازك الاعرجي.. حارسة الصمت
جميع الذين اختارهم أبطالاً لقصصه في الماضي كانوا من جيرانه ومعارفه وأصدقائه المقرّبين.. يقتلعهم من بيوتهم، ويخلع عنهم أهابهم الفاني الهش ويضعهم في مهب أبواب مختلفة تستعصي على الزوال، ثم يرسلهم إلى الشوارع وباقي بقاع الأرض، ويُجري على ألسنتهم لغاتٍ أخرى غير لغاتهم، وأحياناً يسمح لصوته أن يعلوعلى أصواتهم، ثم يجعلهم يسيرون..... هكذا يُطلقهم الى الوجود مثل دمى المغازة الواقفة بقاماتها الشاخصة في الواجهات الزجاجية.. فيكون رسوخهم في الواجهات أبدياً ولا يتغير بتغير الفصول.
هذه المرة، جلس الكاتب أمام السُّلّم المؤدي إلى الطابق الثاني من المحكمة، وراح يراقب الناس وهم يصعدون ويهبطون السلم، وكان أكثرهم رجالاً بشوارب كثّة ووجوه غير حليقة، تنساب بينهم أحياناً وجوه جميلة وناعمة وتستحق النظر. وضع الأوراق قي حضنه وقال: سأحدّق في كل الوجوه لكي أعتقلُ شخصاً واحداً يهبط السلم وأصفه بوضوح، ثم أرسم له سيرته ومساره وسريانه في الحياة.... سأجعل واحداً منهم بطل القصة الذي لا يموت.. أنتم تعلمون أن أبطال القصص لا يموتون ، وبالرغم من أنْ ليس لديهم هواتف خلوية ولا شاشات إلكترونية، فإننا نعرف عنهم وعن أحوالهم الشيء الكثير، وهذا جيد وجميل جداً، بل هو أجمل ما في كتابة القصص. كان يجلس على مصطبة عريضة مواجهة للسلم، وعلى ما يبدو كانت إحدى أرجلها مكسورة، لأنها كانت تتحرك وتهتز باستمرار ما جعل الكاتب ينهض من مكانه ويطوي ورقة بيضاء طيات عدة.. (لم تكن بيضاء تماماً وانما فيها بعض الشخبطات ) ، ويحشرها تحت الرجل المكسورة للمصطبة. الرجل الأول الذي هبط السلم، كان طويلاً جداً، ويعلق في رقبته باجاً من تلك الباجات المريبة التي يضعها الناس في أعناقهم ويكونون على الأغلب من ذوي الوظائف الحساسة. كان أنيقاً..ومترفاً.. يرتدي قميصاً وردياً وحذاءً بنيَّ اللون.. فقال الكاتب لنفسه: هذا رجل أنيق ووسيم ومهذب وابن ناس فلأتّخذه لي بطلاً، وما دام وجيهاً سأجعله يُخطَف ثم ينتهي إلى المجهول.. أم.. لا.. لا.. لا.. مادام غنياً فأنه سيدفع الفدية ثم يعود محتفظاً بحذائه البني الجميل . الرجل الثاني الذي هبط السلم قفزاً، كان شاباً أسمر اللون، وله وجه صغير، ويضع على عينيه نظارة طبية، فقال الكاتب لنفسه، وهو يحدق في وجهه ملياً: هذا لا يصلح بطلاً للقصة، بل هو يصلح للقراءة وتحصيل العلم، وقد يسافر إلى أمريكا طلباً للجوء فيضيع هناك ويعمل جليساً للاطفال.. أو.. من يدري؟ قد يبقى هنا فيصبح عميداً أو وزيراً أو طبيباً للعيون ، فيشاء له القدر أن يصبح بطلاً للقصة. شخبطَ الكاتب تلك الأفكارفي سطوركتبها على عجل فوق أوراقه البيض وقال لنفسه: سأنظر في أمره فيما بعد. الشخص الثالث كان رث الملابس غليظ القدمين، ترافقه امرأة ترتدي عباءة كالحة اللون ونعلين مهترئين لا يغطيان الكثير من أصابعها العظمية النحيلة . كان الكاتب يريد التركيز على الوجوه وأعالي قامة الانسان، فإذا بالأقدام تلفت انتباهه أكثر من الوجوه، وهذا أمرٌ متوقع من شخص يجلس في موقعه أسفل السلم، ولا تطالعه من الأجسام، عند هبوطها، غير الأقدام. القدمان الغليظتان يغطيهما نعلان أكثر منهما غلاظة ، والوجه الذي أغرى الكاتب بالتسلق إليه بعد النعلين والملابس كان غليظاٌ هو الآخر. قال الكاتب: هذا الرجل جاء ليبحث عن العدالة في هذه المحكمة أو ربما حضر شاهدا على دين مستحق ولكنه سيركب حافلة تقلّه إلى حي الأشغال، وعلى الأكثر ستنفجر الحافلة في الطريق وتؤدي به إلى التهلكة، أو ترسله قوات التحالف، في بادرة إنسانية رفيعة المستوى، إلى أوهايو من أجل العلاج، فيضعون له قدماً اصطناعية ويُجرون له راتباً شهرياً ويمنحونه البطاقة الخضراء..ويمكن أن تجمع له صحيفة الواشنطن بوست التبرعات الكبيرة وتكتب عنه مقالات تمزق "نياط" القلوب...... وراح يضرب أخماساً بأسداس، ولم يعجبه كثيراً واقع الحال الذي يودي بشخص يسكن في حي الأشغال الى التهلكة وهو سيمنع ذلك من الحدوث إذا ما جعله بطلا للقصة ، يمكنه أن يفعل ذلك بالتأكيد بفكرة واحدة من "بنات" أفكاره ، ولكنه لن يعرف كيف يتصرف معه إذا سافر وأصر على غسل الصحون في ميشغان من أجل الحصول على الجواز الامريكي ، ووقع الكاتب في الحيرة مرة أخرى فانتقل إلى امرأة جميلة تحمل مفاتيح سيارة في يدها، ويبدو الوشاح الموضوع على رأسها قطعة لا محل لها من الإعراب، وعلى الاغلب اسمها سارة أو هديل. كتب الكاتب في أوراقه انها تصعد سلم المحكمة من أجل ميراث أو وكالة تجارية أو سيارة تشتريها، وإنه سيجعل سيارتها تمر، بعد قليل، على لغم أرضي فتنفجر بها وتموت، ولن يجعلها تنجو من الموت بأعجوبة، بالرغم من كونها ناعمة و جميلة ولا تستحق مثل هذا المصير، بل سيجعل أحد المارة الموهوبين يعثر على خاتمها المكسور فيضعه في لوحة سريالية مشوشة المعالم تعبرعن واقع الحال(أوتحلق فوقه قليلا) فتفوز اللوحة بجائزة عالمية معتبرة ولن يمكنه التفكير بنهاية أفضل لحياة تلك المرأة إذا مااختارها بطلة للقصة. انتقل إلى رجل بدين رث الهيأة يحمل طعاماً بيديه ويأكل منه بلا انقطاع، فقال الكاتب لنفسه: هذا على الأرجح اسمه سعيد أو فرحان، وهو أيضاً سيركب الحافلة المتجهة إلى حي الأشغال. يمكن للكاتب هنا أن يستعمل حس السخرية الذي يستخدمه كتّاب العالم العظماء، فيقول مثلاً إنه كان ذاهباً إلى حي الأشغال الشاقة بدلاً من حي الأشغال ، ولكنه لن يصل إلى هذا أو ذاك، لأن الكاتب وجد نفسه غير متحمس لهذا البطل البدين الذي، على الأرجح، سينجو من الانفجار ليعاود الأكل من جديد. هبط السلم رجلٌ أشهب الشعر ويرتدي صديرياً كثير الجيوب ويضع على ظهره حقيبة تصوير ويبدو واضحاً بشكل لا تخطئه العين أنه مراسل أجنبي، فاستغرب الكاتب كيف يمكن لمراسل أجنبي أن يكون بطلاً لقصته أو أن يتواجد أصلا في هذا المكان. لا بد أنه سيُخطف بعد قليل وينتهي أمره إلى المجهول أو الى "مزبلة التاريخ" . المرأة الوحيدة التي كان يتكرر ظهورها في المكان هي امرأة تروح وتجيء بلا انقطاع، وحذاؤها يُصدر أزيزاً مزعجاً في الرواح والمجيء.. كانت تحمل مجلة عربية مرسومة على غلافها صورة فنانة شابة وهي ترتدي الحجاب الأبيض. إنها تنظر بعينيها الكبيرتين المكحّلتين إلى أمام.. إنها حنان الترك. وهذه المرأة ذات الأزيز تبدو كاتبة من كتاب العدول ، كتب الكاتب في أوراقه انها ترتدي جبة كامدة اللون لعل تحتها ثوباً منزلياً أو بنطلون رياضة أسود اللون، وربما توجد في حقيبتها لفة معتبرة من بقايا عشاء الليلة الفائتة.. وهي تهبط الآن من أجل قنينة ببسي كولا. هذا ما رجحه الكاتب الذي رأى من موقعه "الاستراتيجي" أسفل السلم أن يقول الحق ولا شئ سوى الحق.. فهي المفروض أن تهبط من أجل قنينة ببسي كولا، وهذا لا يحتاج رواحا إلى القاضي كما يقولون.. ولكن ربما كانت..... أو لعلها أصبحت.... وليت ولات وليس وما زال وما برح.. ثم قد تكون أو لا تكون. هممم ..... اذن عليه أن يتريث قليلاً قبل أن يجعلها بطلة للقصة ، فالأمر قد يحتاج إلى تأمل وتأجيل أو عود على بدء. عاد الكاتب ينظر إلى السلم، فهبط شاب وشابة يبدوان مخطوبين للتو.. عليه علامات الخجل الشديد وعليها علامات الزينة الصارخة. ملابسهما فاقعة وشعبية قياساً إلى ملابس (أبو الباج) الذي خرج وعاد من جديد.. إنه يصعد السلم الآن، والمخطوبان ينزلان. حذاء الفتاة أبيض اللون والحلقة الذهبية في كفها البضة السمراء لا توحي بالبراءة.. إنها توحي بالخلاعة..... ووولا بد مما ليس منه بد..... وهو الاسترسال في مشهد خليع يعتقد الكاتب أنه من متطلبات القصص الحديثة التي تريد لقيا الرواج السريع في العالم العربي، فجعله يمتلك سيارة من سيارات الحواسم، وبما إنه غرٌّ وصغير فسيغريه عقد المهر، الذي تم للتو بالمحكمة، بأن يتخلى عن خجله ويمد يده خارج عتلة السرعة، فيطيش عقله ويدوخ رأسه، ويشغله ذلك التسلل عن الانتباه الكافي إلى الطريق فتصطدم السيارة بهمر أمريكية معتبرة وينتهي الأمرعند هذا الحد لأنه فقد حماسته فجأة بإرسال جريح آخر إلى أمريكا من أجل العلاج أو وضع ماتبقى من ملابسه في لوحة سريالية. عادت المرأة ذات الأزيز المزعج، وهي لا تزال تتلفت باحثة عن شيء ما، وعلى الأغلب كان حذاؤها جديداً، أولاً لأنه "ما انفك" يجزّ، وثانياً لأن يوم أمس كان أول أيام الشهر، وهي على مايبدو قد اشترته فوراستلام الراتب وأشترت معه ربطة رأسها ،التي كانت تبدو جديدة ايضاً ، و مُحْكَمةً حول وجهها إلى حد الاختناق. هبطت أمرأة أخرى ترتدي سروالاً من الجينز فوقه سترة طويلة زرقاء اللون اسمها أسيل على الأغلب، و تبدو طبيبة أسنان. وهذا واضح من الغرور الذي يسم "الأنف والاذن والحنجرة".. إذ على الأرجح أنّ مادة الغرور تدرّس منذ الصف الأول في كلية الطب وقبل حفظ الوزن الجزيئي لهرمون الادرينالين أومعرفة الآثار الجانبية لحبة الباريستول، وخمن الكاتب أنها موجودة في المحكمة من أجل كتابة توكيل لأخيها قبل طيرانها الوشيك الى تورينتو. وسرعان ما نسيها الكاتب لأنه حتى تلك اللحظة لم يكن متحمسا لأن يكون بطل قصته واحدا من المهاجرين. نزل صاحب الباج مرة أخرى، وهذا جيد جداً.. قال الكاتب لنفسه: يبدو في عودته المتكررة إلى السلم كمن دفع فدية جيدة ثم عاد من الخطف. سيفكر ملياً إذن في هذا الرجل الأنيق المترف الذي قد ينفع بطلا للقصة إذا ما عاد من الخطف ونجا من الموت ، محتفظا بحذائه البني الجميل , بعد أن يدفع أهله فدية مهولة جدا . ثم ضحك مع نفسه وراح يردد جملة متحفية عتيقة يسخر منها زملاؤه في المهنة: " لا تثريب عليه، قد ينفع بطلاً للقصة." ها قد عثرت المرأة ذات الازيز على عربة البيبس كولا، وكان البائع أسود البشرة ولحيته بيضاء اللون، فبدا في شكله مثل صورة من صور النَّكّتِف التي كانت تُسمى بالجامة وتستعمل مصدراً لنسخ الصور أيام زمان. ورجعت تحمل بيديها قنينة ببسي باردة يسيح الماء من جوانبها.. حقاً أنه ليس كاتباً حسب، إنما عرّاف لكشف المستور، إذ حدس أن في حقيبتها لفة بطاطا وأنها نازلة من أجل الببسي " لا مندوحة " وهذه الفراسة هي ما جعلت الكاتب يأخذ نفسا عميقا ويزهو بنفسه، وهذه المرة حدق في حذائها جيداً وهي تصعد السلم، فوجده جديداً بالفعل خارجاً لتوه من الباكيت. إذن عليه الآن، وبعد كل ذلك التحديق في الأحذية والوجوه، أن يبدأ الحذف ليختار بطلاً لقصته القصيرة، أو من يدري؟ لعله يفرشها إلى رواية أو يعصرها إلى قصيدة نثر.. وقد فكر أن يبدأ قصته بهذه العبارة المحكمة: "للمحكمة سلم وثلاثة طوابق تحيط بها الشبابيك من كل الجهات".. ولكن الشبابيك من حوله كانت قذرة جداً وبشكل يثير القرف، كما أن المكان وسخ ورائحته تزكم الأنوف. أما السلم الذي كان يراقبه طوال الوقت فللتو يكتشف، بعد أن أصبح خالياً من الناس، كم هو قديم ومتداعٍ، ودرجاته مضعضعة ومثّلمة الحواف، وقد أزعجه جداً منظرها إلى الدرجة التي راودته فيها فكرة السفر إلى السويد أو الدنمارك أو إستراليا، هناك حيث يُبعث الأجداد من القبور ويشتعلون مثل طيور الفينيق ثم ينهضون من جديد ، فيصبح المهاجرون خابط وخماس وخربيط وبرحي وعاتي وغضبان وبطران حاملين أسماء أولئك الذين لم يصلوا في حياتهم إلى محطة القطار إلا أيام السفر بر، فلماذا لا يصبح هو أيضاً المسترمترود وقد فعلها حتى صاحب البسطة الذي يشتري منه السكائر، فاصطحب زوجته وأفراخه وهاجر إلى مالمو وأصبح هناك المستر بتران. غارقاً في تلك التأملات، فز على دوي انفجار هائل حدث في مكان قريب، ولما انتبه وتلفّت حواليه اكتشف أن المحكمة برمّتها أصبحت خالية.. اختفى الجميع.. واقترب منه رجل مسن خمن الكاتب على الفور أنه يعمل حارساً في المحكمة، فقد كان لديه حدس لا يخطئ فيما يخص الحراس وموظفي الاستعلامات وعاملات البدالة، كما سبق له كتابة قصة قصيرة بطلها حارس مقبرة، ويعتبرها من أفضل ما كتب من قصص على الإطلاق. عندما وصل الرجل المسن إليه قال له بصوت فيه رهاوة: - أنت عرضحالجي؟ رفع الكاتب رأسه بكِبر وقال: - لا.. كاتب. هز الحارس رأسه عجباً، ثم قال: - الدنيا مقلوبة برّة.. وأنت كاعد تكتب.. كوم عمي كوم، ترة المحكمة عزّلتْ.
|