الغبار الأمريكي

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
28/07/2009 06:00 AM
GMT



                                    1
غبار مسموم قاتل ينتشر على مدن وبقاع كثيرة في العالم ، تستحضره وتحلله أحداث رواية الكاتب العراقي زهير الهيتي الغبار الأمريكي والصادرة عن دار الساقي . الغلاف يلتقط تعاسة المرأة الظاهرة بجلاء في المرآة لوجه السيدة فاطمة . الغبار لا يقاس لا بالسرعة ولا برمزيته فقط ، وإنما يقودنا إلى مكان مستباح جغرافيا وتاريخيا ، ويصلح أن يكون هدفا روائيا لا نظير له ؛ العراق . في البدء نرى فاطمة داخل المنطقة الخضراء وهي بانتظار الموافقة على اشتغالها كمترجمة لقوى الاحتلال. من هذه النقطة الجهنمية يبدأ الغبار الأمريكي يبخ سمه في خلايا فاطمة ، الراوية والشخصية المركزية للرواية . آه ، لو تظهر رواية من داخل تلك المنطقة فعلا ، لا تخترع التواريخ ولا الشخصيات . آه ، لو يظهر مؤلف / مؤلفة تطارد ذرة كل غبار وصل واستقر في الجينة الوراثية لنسيج هذا الشعب القاتل والقتيل . فيظهر الشاهد ، الشهود من الداخل ، الذين ننتظرهم خارج ما نكتبه جميعا ، نحن الذين نعيش في مدن مختلفة ما بين الغرب والغرب ، والشرق والشرق ، فتخطف لنفسها مكانة رواية الروايات ، حتى لو اقتصرت على مجموعة من الفئران والعضايا والحشرات حين بدأت بنخر الجنس العراقي وقامت بتشكيل وتعمير جنس عراقي بخصائص لا يعرفها الجنس البشري بعد . سننحاز للعمل الفني بالدرجة الأولى فهو الذي سيصمد ويُحسن الدفاع عن نفسه . الغبار الأمريكي كنت أتوقعها متورطة في هذا الرعب ، لكنها ذهبت لما فرّخ في وأثناء ضخ الغبار وما جلبه للحياة على الأرض وفي غاية الكتابة ذاتها ، في رواية بمقدورها الانتقام الفني من الاحتلال والمتعاونيين . كنت أطارد هؤلاء وهم يطاردون فاطمة إلى فصل الختام بنهاية فاجعة تليق بحياة تراجيدية حزينة .الهيتي قدم لنا العالم السري للمرتزق الذي يحضر مع أي نوع من الاحتلال كذخيرة جوهرية في ابتكار أسلحة جديدة لنظام عالمي هو أداته في بنية الرأسمالية ، والنهب والتفتيت لكل عضو في الجسم البشري ، كما هي آلية العمل لتفكيك خلايا المجتمع الذي مازال وسيظل يُهرس وينتهك ويفتك به لكي يتم تحلله إلى ذرات لا ترى بالعين المجردة وفي منتهى الدهاء ، وبالخصائص التي يشتغل عليها هؤلاء القتلة منذ ست سنوات وإلى اليوم .
2
438 صفحة من القطع الكبير تتحرك فاطمة بين أصابع المؤلف برشاقة راقصة باليه نخاف عليها الكسر والتهشيم ، فهي هشة لكنها مندفعة ، مغوية وقاسية . والدها شيوعي فر إلى ألمانيا الشرقية سابقا ، والترك كان حصتها ووالدتها . الكاتب يمر على جريمة العام 63 في النادي الاولمبي في الأعظمية . من هنا تبدو فاطمة في رحلة متشظية في البحث عن الأب غير القابل لأبوتها . الشيوعي ، وهؤلاء مازالوا الشركاء والحلفاء للاحتلال . ذاك الوالد ، إذا ما أحسن الدفاع عن نفسه فهي ، الأبنة تقدمه أمامنا : "" وضيع وقذر استغل إيمان أمي المطلق بالخير والعدالة وحولها إلى جارية يستمتع بجسدها ولما حبلت بي جن جنونه وتمزق القناع الأيديولوجي . تزوج وأنجب أربعة أبناء توزعوا في أنحاء العالم . اثنان في الولايات المتحدة ويشتغلان اليوم بالترجمة للجيش الأمريكي "" . عال ، الآباء يسلمون الراية للأبناء !
3
الغبار الأمريكي يلاحق فاطمة في بغداد داخل أحد البيوت البغدادية وهي بين ثلاثة من المرتزقة ومن جنسيات مختلفة طمغتهم الأولى والأخيرة ، القتل وبدون دم ، إن أمكن ، فذلك يكون أفضل . أظن هذه الرواية من الروايات النادرة التي اقتربت إلى هذا الحد العاصف والمخيف من هذا العالم ، كأن الكاتب بيده آلة حفر ترج أحشاء القارىء فينبجس العراق أمامنا وقد أُنجز عليه بصورة صارمة ودقيقة : "" بدأت اغوص في ماضي الثلاثة . لوران كان من سيراليون ، جزر القمر ، غينيا ، كولومبيا والبوسنة . جوزيبه كان أكثر خبرة وترحلا وكان زميل لوران . عمل في الكونغو ورواندا وصربيا . أما جان لوي فقال وهو ينظر في عيني بتلك الوقاحة نفسها التي أكره : أنا اختصاصي الدول العربية . أتمتع بالعمل فيها "" . كان التخييل البارع والانتقالات بين الأصوات ، وكل واحد يعاود الظهور ويتصرف من خلال لغة وحركة الجسد ، بالسلوك والإيحاء والكلام . تلك العبثية التي تلاحق البشر بعربات التفخيخ ، بالتصورات التي ما تلبث أن تتحقق بعد قليل بالافناء الناجز . كانت الجثث تمضي إلى خوائها والفظاعات تتواصل بدون رأفة . هذا التكنيك أشتغل عليه الروائي وكان مشوقا فعلا كفيلم درامي / بوليسي نلهث وراء المصائر ونعلم أن ليس من أمل بالنجاة .
4
فاطمة في الخامسة والعشرين تعيش بإعجوبة بين الجريمة والإفساد حتى وهي تتعرض لجميع أنواع التجارب العاصفة . لم تكن تعتاش لا على الحذر ولا على الإيمان بشيء ، ولا كانت تطمح بتوازن ما لكي تستقيم في وضعها النفسي والعصبي ، الجنسي والعاطفي . جعلها المؤلف ذات إغراء وغنج شديدين ، لكي يسهل مرورها بين حشود الرجال الأوغاد ، الذين ظهروا أمامها بالإرادة أو بالقهر . لكن الرواية تتفتح وبالتدريج عن ثيمة تكرس باقي العمل وهو طويل فعلا للعلاقات المثلية في أوربا ، مبتدأ بها عبر العلاقات القاسية بين المرتزقة بالذات ، مرورا بنيقوسيا وصولا إلى برلين . هذه الأحداث وفاطمة يتغير اسمها إلى عفاف المغربية تراقب هذا العالم الذي يعرض أمامنا بشيء من الحيادية ، وإذا شئنا الدقة ، بشيء من التفهم والتسامح الإنساني ، وبلغة إيروسية ناعمة ودافئة وبلا صخب أخلاقي . فقد تمت الكتابة عن هذا العالم بشروطه الفنية والنفسية وبعين شديدة الحنو ، لجيل أوربي يدرك ولو بعد فوات الأوان أن إقصاء وتجاهل الإعلان عن الميول الجنسية السليمة قد تقود لصناعة الطاغية والمستبد والأمثال لدينا لا تحصى . وهذا يحسب للكاتب والرواية فعلا .
5
الهيتي قدم فصولا غاية في الإشراق عن المدن ، فهي تدوين العارف بالمعمار والهندسة ، الذي يقدم خبرته الحياتية حين يمر ويتأمل البحر والحجر والبشر في نيقوسيا حين زارها لهذا الغرض منذ سنوات ، وفي برلين حيث يعيش اليوم . قدم بشرا حقيقيا بثياب حقيقية نرى عبرها اللحم الحي بكفاءة الخيال الحيوي . استخدم الفطنة والحشرية الفنية وهو يلاحق شخصياته فنشعر أنهم ينتسبون إليه . قدم الشراب والجنس ، القتل والارتزاق والجريمة والموت موزعا بالتساوي على الفصول والطاولات والمطارات ، والمدن وداخل الرؤوس، بين الأخوة والغرباء ، وبين الذات وشياطينها المتربصة بكل واحد منا ، وعلى هذه الوتيرة تتعدد القراءات لهذا العمل الجميل .
***
كانت فجاجتي لا تطاق وأنا أقول له : يا زهير ، ارتاب فعلا أن تكون أنت مؤلف هذه الرواية ، لا تقاطعني أرجوك ، صحيح لو حذفت الخمسين صفحة الأولى منها لكانت أشد تماسكا ، لو ألغيت بعض التوصيفات الطائفية فهذا لا يجوز بأي معيار كان . وصحيح أنك كنت تكرر بعض الصفات وفي ذات الصفحة ولمرات متعددة . حسنا ، دع كلامي وراء ظهرك ولا تلتفت إليه ها .. فاسمع صوته ضاحكا ، يصرخ بالهاتف وهو يخاطبني قائلا :
عال ، أنا على قناعة اليوم أن الغبار الأمريكي كان شفافا بالرغم من ثقله الذري بالفعل فاصطفاك إلى جانبه .. و