الشاعر حسب الشيخ جعفر: افضل لزوم بيتي كما اوحى لي المعري

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
19/07/2009 06:00 AM
GMT



من نخلة الله كان السفر الاول، ومن "الطائر الخشبي "كان البحث عن الحقيقة، و"عبر الحائط في المرآة" عثر على الخيط الممتد من العمارة الى موسكو، ووراء "زيارة السيدة السومرية" ظل يتبع خطواتها ولم يتعب، رغم آلاف السنين ما بينهما ولكنه يعشقها، ولم يزل، وفي "اعمدة سمرقند" امسك رأس الحكمة ووضعها على السنة الحيوان وفي "كران البور"استرسل في المضي خلف البلاغة وتلك العشبة الموغلة في القدم،ومن "الفراشة والعكاز" وهب الضوء للفراشات والعكاز الى شيخ العزلة، انه الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي مازال في صومعة العزلة بعيدا عن الغبار والدم.

* في مجموعتك الأخيرة "الفراشة والعكاز" يجد القارئ فيها حزناً تصوفياً، وحضور شخصيات غير معروفة مثل "الساهي بن يقظان" هل ان التجربة البشرية اتخذت منحى تصوفيا، ام انها ايمانات أخرى نتيجة تقادم العمر والتجربة؟
- لقد كتبتُ هذه المجموعة قبل مغادرتي العراق الى الأردن نهاية عام 1996وقبل هذه المغادرة بعامين او ثلاثة، كما اذكر ،وقد كتبت جميع فصولها أثناء مرحلة زمنية واحدة، ربما لم تتجاوز العامين، الاّ انني لا أظن ان هناك جانبا تصوفيا واضحا،ربما  كانت الاقتباسات الواردة في الصفحة الأولى، او تحت عناوين أخرى قد تذكر بأجواء تصوفية، وأنا أتذكر الجو الشعري او المناخ الشعري الذي وجدتُ نفسي أعيشه أثناء تلك المرحلة، لم أكن قريبا من التصوف، ولم أكن قريبا منه كمرحلة شعرية من مراحلي، انما هي اقتباسات ذكرتها، ولم يجيء وضعي او اختياري لهذه الاقتباسات (فضوليا)، بل هو إعجاب مني وإشارة الى ما قد تثيره تلك الاقتباسات من إضاءة تتخلل الظلال المائجة بين تلك الأسطر، اما ذكّر "الساهي بن يقظان" بعض القراء بقصة الفيلسوف الأندلسي "بن طفيل" حي بن يقظان،فلم يكن في نيتي الاقتراب من تلك القصة الفلسفية، انما هي ممازحة فلسفية، او تذكير بغربة الفيلسوف المذكور او بغربة بطله الكائن الغريب، فهي أشبه بتوحد او غربة بطل القصيدة.

*مجموعة "اعمدة سمرقند" جعلت الحوار فيها على السنة الحيوان، ربما هو نوع من الاستعارة الترميزية او ما يسمى القناع، او ربما تحاول ان تفلت من قبضة الرقابة ،مع العلم انها طبعت في بيروت؟
- لقد نشرت ُهذه المجموعة كاملة في جريدة الجمهورية العراقية، وكان يرأس تحريرها الصديق الشاعر سامي مهدي، وكان هذا كما اذكر في أعوام الحرب ما بين العراق وإيران، وبعد اذن نشرتها في بيروت عام 1989ولم أكن انا أول من حاول الكتابة على السنة الطير والحيوانات،فلقد كانت شائعة او معروفة منذ العصور الغابرة في اليونان او الهند كما حاولها "لافونتين" الفرنسي و"كريلوف" الروسي" و"احمد شوقي" العربي، وقد أهديت انا المجموعة  الى احمد شوقي امتنانا وذكرى، ولقد كانت هذه القصائد "سونيتات" على السنة الطير والوحش ترميزا وتقنيعا، فلقد كان يهمني قبل أي شيء ان أصور شيئا من الواقع المرير في بلدي او في العالم ،ولقد قال لي الشاعر الصديق  سامي مهدي، بعد عامين من نشر المجموعة "لقد أردت ان تكون يا أخي شاهداً على العصر "فأدركت  انا مرمى صديقي الشاعر، فقلت انا كنت أصور الوضع البشري الان، فقال لي صديقي الشاعر وكان مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون، يا أخي انا مثلك شاعر ولن يخفى علي مثل هذا الشيء، قالها ممازحاً وكنا نلتقي بمكتبه كل جمعة تقريبا وأثناء كتابة هذه القصائد ونشرها كنا في جريدة الجمهورية.

* الشاعر حسب الشيخ جعفر كتب رواية سوف تصدر قريبا بعنوان "ربما هي رقصة لا غير" وقد نشرت  كاملة في جريدة "الزمان" عام 1999،هل ان الرواية تتسع لمساحات إبداعية أوسع من مساحات الشعر واشمل من حيث القراءات او الرؤى الجمالية؟
- لا ان الرواية تتسع اكثر مما يتسع الشعر أمام الشاعر باحتواء العديد من الحقائق او المشاهد او الأحداث، فالشعر كما تعلم ليس الا ّ جهاز تقطير أي كما كنا في القرية نضع تحت الجرة الكبيرة أناء صغيرا وتتقطر المياه من الجرة الكبرى صافية عذبة ،وهذا الصفاء والعذوبة هو الشعر، كما تتقطر من مخيلة الشاعر القصيدة، اما الرواية فهي السباحة والصيد،وكان من الممكن ان أقول انها السباحة ضد المجرى، غير ان هذه السباحة هي العملية الشعرية في اصفى مكوناتها، ومع ذلك فقد كتب الشعراء وخاصة في القرن التاسع عشر روايات عديدة مهمة، منهم "فكتور هيجو" و"بوشكين" وغيرهما ربما يبدو لي اختيار الشاعر المجال الروائي فرصة إبداعية أخرى، حيث يمكنه ان يقترب من الحياة بيديه وخطواته، وليس فقط بالجناحين، مع انني أدرك جيدا ان للجناحين في العمل الروائي قوة إبداعية لا تنكر.

* "رباعيات العزلة الطيبة" ربما تظهر قريباً، ماذا تحمل في طياتها وشكلها ومضمونها من تطور في الأحداث المضطربة في البلاد، وهل في المجموعة مغايرات مختلفة عن مجاميعك السابقة؟
- قد كتبت هذه المجموعة في عام 1999اي نهاية القرن العشرين، قبل ان تشتعل الأحداث الأخيرة في العراق، فهي انما  تحاول ان تجسد شعريا بعض تأملات أيام كنت منعزلا في شقة ما في الأطراف في مدينة عمان الأردنية، وكنت بعيدا اثناء كتابتها عن اي مرجع او مصدر ثقافي فلقد كنت وبلا صحبة الا نادرا ولكنك قد تجد في هذه الرباعيات أصداء ثقافية مما يكمن في الأعماق من ذاكرتي الثقافية، فلقد أهديت معظم هذه الرباعيات الى شعراء وفنانين من العرب والعالم عبر الاعصر الثقافية الطويلة، فأنت تجد فيها رباعية مهداة الى المتنبي وأخرى مهداة الى هوميروس، او الى جواد سليم او غائب طعمة فرمان او الى "ديلا كروا" الفنان الفرنسي من القرن التاسع عشر، او تجد رباعية مهداة الى امرأة ثملة اقتربت مني في احد أزقة موسكو، وهكذا كانت او جاءت هذه الرباعيات صورة عليا لأعماقي السفلى ان صح هذا  التعبير، كنت وانا اكتبها وكأنني أحاور ضيفاً مستحضرا من العمارة او موسكو من لندن او دمشق او أية حاضرة أخرى، فقد يبدو لي انني استضيف آلافا من الطيور المهاجرة النازلة فوق نافذتي، فكنت اختار منها دونما تعيين.

* العزلة دائمة، انت وهي منك قريبة حتى بتما متلازمين، اهي وجود قناعات في نفس الشاعر..؟ مكتملة من عدم الظهور دائما كبقية الفلاسفة الذين يتركون العالم ويمضون.
- في موسكو عندما كنت طالبا لم أكن منعزلا عن الحياة،بل كنت اختار صحبة خاصة صديقة او صديقا، وبعد العودة من موسكو كنت أيضاً التقي ببعض الأدباء او الشعراء العراقيين، ولكني كنت أحاول ان أكون مع صديق او صديقين أي ان مائدتي في اتحاد الأدباء لم تستقبل الا أصدقاء قليلين متفق عليهم، اما الآن وبعد ان عدت من الخارج فانا أفضل لزوم بيتي كما أوحى لنا  المعري، الا ان هذا ليس انعزالا عن العالم والتاريخ المعاصر، انما هي العواصف الغبارية او الدموية، فلم يعد للشاعر منطلق فيها، كل شيء يتجه في غير المجرى الحضاري العام كل شيء الى غير ما نتيجة مكدرة، ولم يعد الشاعر إعلامياً او بوقاً او ما يشبه البوق، ونبغي ان نتأمل مسألة العاصفة تأملا حاذقا وعميقاً، لا ادري في من اية جهة يقتل الشاعر! يبدو ان الجهات كلها لا ترى غير قتل الشاعر او الفنان، اما في الأيام المظلمة الآتية فحسبنا ان نقول انا لله وانا اليه راجعون.

* لمن الأغلبية تبدو...، للشعر، ام للرواية، ام للفلسفة، ام لنواح خارج هذه المقاصد الجمالية، التي تبدو سوف تشُرق من جهة أخرى؟
- قد اتفق معك في ان اتجاهات فنية قد تشرق من نواح أخرى، من نواح لم ينتظر منها إشراق فني او محاولة إشراق، كل هذا لم يزل ملتفا في السحب الغامضة في الأفق البعيد، انا شخصيا لا استطيع ان أضع  يدي على أي شيء من هذه المكامن السحرية الغامضة،هل هي الرواية أم الموسيقى أم الشعر أم الفن التشكيلي ما قد يبدو مستقبلا انه الآتي بكل "تاريخيته" أي انه ممتد من الف ليلة وليلة الى "السريالية" او من "ابسن" المسرحي النرويجي الى "سترنبيرغ" ومع عظمة هذين الكاتبين  المسرحيين فقد يلوح "تشيخوف" الروسي في مسرحياته القا ًدراميا آخر أي انه الضوء او الوهج المسرحي الذي كان ينتظره المسرح العالمي منذ قرون طويلة.

* يتعرض الشعراء دائما الى انتكاسات اكثر من غيرهم، وكأنهم هم المقصودون بالعذابات الإنسانية فيبدو مهزوما من الداخل او من الأعماق؟
- لا أظن ان هناك فرقا واضحا بين استجابات الشاعر الإبداعية الى ما يتراكم من انفعالات داخلية وخارجية اكثر مما يعاني فنان تشكيلي او موسيقي او الروائي، ربما قد يكون الشاعر اكثر انفعالا او تجاوبا مع الأحداث، ومن هنا يجب القول ان القوى المظلمة قد تبطش بالشاعر قبل ان تبطش بالفنان التشكيلي او الروائي، فالشاعر ليس الا صوتا، والصوت يسمع، بينما الموسيقي او الفنان التشكيلي ليس الا صوتين من وراء الستار، ومع ذلك استطيع ان أقول ان الجواهري مثلا كان مبتلى اكثر من غيره في الأزمة القريبة من تاريخنا الحديث، بينما لم يتعرض أي فنان تشكيلي بالمطاردة غير الفنان "محمود صبري" وهذا يعني ان الشعر قد  يكون أحياناً صيحة شعب ما وهذا رائع، غير ان المهمة الشعرية القصوى هي في استنباط محاولات شعرية غير مكررة.

* اللحظة الشعرية تكون مقصودة من قبل الشاعر ام انها تاتي كامرأة حالمة كما تشاء، حتى يكون هناك اشتباك، الحس بالحس، الحدس بالحدس، الضوء بالضوء؟
- لقد قال لي الشاعر صلاح عبد الصبور انه لا يكتب قصيدة جديدة الا بعد قراءة قصائد لشعراء آخرين وهذا يعني ان قصيدته تأتي متأثرة بتلك القراءة، وقال الجواهري في لقاء إذاعي وكنت انا حاضرا هذا اللقاء فقد كنت رئيسا في القسم الثقافي في إذاعة بغداد وقد جرى اللقاء في بيت الشاعر الجواهري وكان مدعوا الى دمشق حوالي عام 1947 او لا أتذكر هذا، ولم يكن قد كتب بيتا واحدا من القصيدة فذهب الى حانة اسمها "زحلة" ولم يكتب غير بيتين من الشعر، وعندما عاد الى غرفته في الفندق نزلت عليه القوافي والأشعار فأكمل قصيدته الطويلة في ليلة واحدة.
أنا شخصيا قبل ان اكتب "الصفارة" وهي المسرحية الشعرية الأولى ،كنت مريضا فإنعزلت راقدا في فراشي وحاولت ان ابعد أولادي عني، كنت احس بانني اكتب شيئاً ولكن ما هو هذا الشيء؟ لم أكن اعرف فصدقني فجأة جرى القلم بين يدي كاتبا المشهد الاول ،فكنت فعلا في حالة تلق وقد استطعت ان انهي المسرحية.

*يقول الكاتب الأمريكي "ارنست همنغواي" (لا يمكن الفرار من الطفولة) وانتم طفولتكم حافلة بالاهوار والقصب والبردي واليشن وكل ما هو ساحر من ذلك العالم الجنوبي الموغل في القدم  والأسطورة.
- قد ازعم انني قرأتُ همنغواي كاملاً تقريباً، ربما ذكر هذي الطفولة في أقاصيصه الأولى "المشيكان" كان يتذكر صداقته وتجاربه الجنسية الأولى مع بعض الصبايا الهنديات الحمراوات، كان الرجل محبا لوالده ولم يكن محبا لامه، لقد كان همنغواي هو اول كاتب عالمي كتب اهم وأعظم الروايات عن الأوطان الأخرى وليس عن أمريكا، وان من يقرأ أشعاري منذ "نخلة الله" والى اليوم، ومن يقرأ كتبي النثرية خاصة "الريح تمحو والرمال تتذكر" فقد يجد أي خيط كنت أتلمسه في طفولتي الى الاهوار، ولقد ظل هذا الخيط مصفرا متأرجحا بين القرية والمدينة ،فانا او قصائدي مقتربون او بعيدون عن اهتزاز هذا الخيط، واستطيع ان أقول لك او لأي قارئ آخر من الطفولة، ان تتلمسا اضطراب هذا الخيط بين العمارة وموسكو .