«قربـــان التاريـــخ... العراق»: الكنــز العراقــي الــذي نهبــوه

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
08/07/2009 06:00 AM
GMT



إذا كان بالامكان تصنيف اعمال صلاح حسن الأدبية جميعها فيمكننا القول انه شاعر وكاتب مسرحي. فقد اصدر ثماني مجموعات شعرية ثلاث منها للاطفال، وقدمت له تسع مسرحيات اثنتان منها للاطفال. لكنه اليوم يطل علينا بكتاب نثري جديد هو (قربان التاريخ... العراق من لهب العقل الى رماد النفط).
الكتاب اقرب الى الشهادة الطويلة منه الى السيرة والمذكرات. فهو يضعنا في ستة فصول (مع مقدمة وخاتمة) في مرحلة زمنية من حياته تكاد تمتد لعقد من السنوات تمتد من 1994 الى 2004 هي في الوقت نفسه من اكثر سنوات العراق التهابا وضجيجا. لقد عاش صلاح حسن «مثل كل أدباء وكتّاب العراق المعاصرين» سنوات المحنة العراقية في ظل النظام الدكتاتوري السابق وفي ظل الاحتلال الاميركي المقيت، وقد اختار مقطعا يناسب تراجيديا هربه من العراق المتزامنة مع تراجيديا الحصار والموت والاحتلال للعراق بأكمله.
ظننت للوهلة الاولى ان صلاحا اتبع نظاما دائريا في مخططه السردي عندما وضع الايام الاولى لاحتلال العراق في بداية الفصلين الاول والاخير، لكني ادركت في ما بعد انه اتبع خطة اكثر تلقائية حين جعل ذاكرته تلتقط ما يصادفها من الاحداث في هذا النسق الملغوم بالاحداث الدرامية، وهو ما جعل طريقة السرد اكثر حرية، واخرج الكتّاب من حقل السيرة المنظمة المنضبطة بتواتر الزمن. وهكذا كانت هذه الشهادة اكثر انفلاتا من صاحبها وهي تصطدم بين الحين والاخر بالمفاجآت المدهشة والاحداث الغربية.
لعل اكثر ما يميز كتاب «قربان التاريخ» هو عفوية السرد، فقد كان المؤلف يتحدث دون تكلف ولم يصطنع لغة بلاغية عالية مفتعلة، بل ترك نفسه لسجيتها تقول كل ما تريد قوله. وقد يستغرب البعض اذا قلت ان اسلوبية السرد عند صلاح تشبه تماما اسلوبية المحكي اليومي وطريقة كلام صلاح... وهذا وحده مثار دهشة لا من خلال ما حققه من مقولة (الاسلوب هو الرجل) بل من خلال النبضات الاخاذة الجميلة في طريقته العفوية... انه يكتب كأنه يتكلم وهذا احد أسرار الكتاب الخفية.
الميزة الثانية في هذا الكتاب ان هذه الشهادة/ السيرة تمضي دون ان تلتفت كثيرا الى ما يراه البعض من اخطاء او هفوات... انه يتحدث عن سيرته بثقة ويتفاخر احيانا بمنجزه الشعري وبقدرته على عبور مخاض الهروب من الوضع القمعي للنظام السابق لكنه لا يخفي مشاعر الخوف والضعف الإنساني والتعب والخذلان والتردد وهو ما يجعلنا نغفر له تفاخره واعتداده.
ان هذه المشاعر المختلطة والمتناقضة تكسر بعضها وتجعلنا امام شخصية حية لها قوتها وضعفها، لها ذرواتها وسفوحها وقرارها، لها انتصاراتها وهزائمها. ولذلك لا نجد أنفسنا ونحن نقرأ هذا الكتاب امام مناضل او بطل بل امام إنسان عاشق للحرية وامام إنسان ملتبس في كثير من الأحيان، بين الكثير من المشاعر المتضادة وامام شاعر يحاول ان يتخطى واقعه الى واقع اخر احتراما منه لمبدأ الحرية الذي هو اساس الشعر. ومن هذا المنطلق نرى المؤلف يتحدث بصراحة عن المقابر الجماعية للنظام السابق مثلما يتحدث عن سرقة قوات الاحتلال للمتحف العراقي والنفط العراقي وعن الميليشيات الدينية الجديدة التي تدمر العراق.
ولذلك اقول إن هنالك ميزة ثالثة هي الصدق والصراحة. لقد كانت صراحة المؤلف مبهرة عندما تحدث عن لقائه بجان دمو (اكثر صعاليك الأدب العراقي شهرة) فقد سرد فيها واحداً من اجمل فصول الكتاب، وكانت الصراحة اساس كتابته. اننا ندرك ان كتابا متزمتا عن حياة شاعر لا يمكن ان يعود علينا بالفائدة، لاننا لا ننظر الى الشاعر كإنسان متزمت بل ننظر له كمبشر بالحرية والجمال ونتوقع ان يكون مخاضه في البحث عن الحرية والجمال وفي بلد مكبل ومحاصر مليئا بالمفاجآت والمفارقات. وقد حقق صلاح حسن بعضا من هذا. لذلك كان الكتاب بعيدا عن التزمت وقريبا من الحياة الغضة المليئة بالمفاجآت الصغيرة.
السخرية
فضلا عن ذلك فإن ميزة رابعة كانت واضحة للعيان وهي السخرية السوداء والبيضاء معا، فلم يتوقف الكاتب عن جعلنا نبتسم او نضحك بمرارة او بمرح طيلة صفحات سرده فقد كان يلجأ الى المفارقة والسخرية والتعليقات الجميلة في سياق كلامه، وهكذا بدت شهادته الاكثر مرحا في محيط اسود مجلجل بالكوارث والدمار. كانت السخرية اشبه بالكوميديا السوداء التي تعري الاخطاء وتكشف مفارقاتها، وكانت اشبه بشعل تضيء المتن الذي كتبه المؤلف وتجعلنا نتطلع بشغف الى روحه المرحة أيضا. وهكذا اجتمعت العفوية والصراحة والصدق والسخرية في هذه الشهادة المميزة لتعطيها نمطا نادرا من التشويق وهو ما جعلـني اقرأ الكتاب دفعة واحدة دون ملل.
إن التشويق عامل مهم في مثل هذا النوع من الكتب اذ يمكن ان تتحول كثافة الاحداث وصرامتها الى عائق جدي للمضي في قراءة الكتاب لكن صلاح حسن استطاع ان يمضي بنا في رحلة مشوقة جميلة طرح فيها مأساته الشخصية مثلما طرح فيها المأساة العامة التي كان وما زال يمر بها العراق ومثقفوه وكتّابه. لا بد من التنويه بان ما يمر به كتّاب وأدباء العراق اليوم لا يقل اذى عن الذي مروا به قبل سقوط النظام السابق رغم جو الحرية الملتبس الذي يسود اليوم. ولعل هذا يتأتى من كثرة منابر القمع الفكري هناك وهيمنة الغبار الديني والرجعي والتعصب المذهبي الاعمى الذي ينتشر بلا هوادة في بلد محتل ومــسير من قبل اكثر من سلطة غالبــا ما تــكون خفيــة ومراوغة وعنيفة وقادرة على ايقــاف التــداول الثــقافي السليم.
لقد استطاع صلاح حسن ان يقدم لنا صورة شاملة للكيفية التي كان يمارس بها النظام الساقط قمعه للحريات الثقافية، مثلما استطاع ان يضيء احداثا حصلت بعد الاحتلال مثل تدمير ونهب الكنوز الحضارية العراقية كالمتحف العراقي والمكتبة الوطنية والجامعات العراقية والمكتبات العامة والمخطوطات القديمة في وزارة الاوقاف والكتب النادرة في المجمع العلمي العراقي وبيت الحكمة. وشملت شهادته الحديث عن شارع المتنبي الذي سماه «شارع الثقافة السرية» والذي هو معرض دائم للكتب الحديثة والقديمة... فهو اقدم معرض للكتاب في العالم منذ تسعة قرون، حيث يمكنك ان تجد فيه اندر واقدم الكتب الممنوعة والمستنسخة، بل تجد فيه الأدباء العراقيين وهم يبيعون كتبهم ومكتباتهم على مدار السنوات المنصرمة وهو ما شكل اكبر وصمة عار على الحكومات السابقة حيث يصل الأدباء العراقيون الى مستوى من الفقر والحاجة لدرجة انهم يفترشون مكتباتهم الشخصية ويبيعونها لسد رمق جوعهم وحاجتهم.
وكي اكمل الصورة التي توقف عندها صلاح حسن اقول ان الإرهابيين اقدموا قبل اشهر على حرق وتدمير هذا الشارع فوضعوا فيه السيارات المفخخة وفجروها كي يقضوا على واحد من اكثر رئات المثقفين والقراء تنفسا. هذه الصورة المأسوية للثقافة العراقية التي ما زالت حية رغم ضعف نبضها نقلها لنا المؤلف بالكثير من الجدية والامانة وبعرض سردي جميل مشوق.
أرى ان هذا الكتاب يشكل واحداً من الكتب الجيدة التي تفضح ما تعرضت له الثقافة العراقية من خراب ودمار في العقود السابقة وحتى الآن وأحث من خلاله جميع الكتّاب والأدباء والمثقفين العراقيين على سرد ذاكرتهم التي تفضح جوانب اخرى وتضيء مآسي اخرى مرت بهم كي نكمل رسم صورة الخراب الذي طال الثقافة العراقية في عصر يشهد انتعاش ثقافات الشعوب وتطويرها والعناية الفائقة بأدق تفاصيلها. أما الكنز العراقي الذي نهبوه وخربوا ما تبقى منه فلا نعرف على ذمة من سنعلقه؟ فهم كثيرون وغامضون في احيان كثيرة، لكن كتابا واحداً مثل كتاب «قربان التاريخ» سيشير بوضوح الى قائمة هؤلاء المجرمين.