مقامات الروح العراقية المبدعة

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
27/06/2009 06:00 AM
GMT



"عجبتُ لسعي الدهر بيني وبينها، فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر"، "فيا حب ليلى قد بلغت بي المدى، وزدت على ما ليس يبلغه الهجرُ"، "ويا حبها زدني جوى كل ليلة، ويا سلوة الأيام موعدك الحشرُ".

عندما يعرض شريط فيديو ناظم الغزالي، يغني في حديقة ذات أمسية بغدادية شعْرَ أبو صخر الهُذلي في مقام "الدشت"، تنسى أنك في قاعة "الأكاديمية البريطانية" في لندن. حدث ذلك في محاضرة الباحثة العراقية في علم الموسيقى شهرزاد قاسم حسن. عنوان المحاضرة "فن الموسيقى العراقية: فضاءات الأداء في بغداد في القرن العشرين". وكان ينبغي أن تتضمن رقعة الدعوة إلى المحاضرة نصيحة الشاعر الإنجليزي وليام شكسبير: "إذا كان عندك دموع فتهيأ لذرفها".

ومن يعصى دموعه في فضاء الفنون الصوتية العراقية الصداحة والباكية، المبتهجة والنائحة، المزغردة والمولولة، المستعطفة والمهتاجة، والطروب في كل حال؟ وهل غير العراقيين يقيمون حفلة عرس موسيقية للميت، إذا كان طفلا، أو شاباً، أو متزوجاً حديثاً؟ يفعل ذلك العرب والكرد واليزيديون، وينفرد سكان البصرة السود ذوو الأصل الأفريقي بطقوس غنائية راقصة تكتم الأنفاس لطرد الأرواح الشريرة التي تستولي على أجساد الممسوسين.

وتذكر شهرزاد قاسم حسن أن كل منطقة في العراق تملك ملامحها الموسيقية المميزة، فيما يتعلق بالوظائف الدينية والدنيوية للموسيقى، والموسيقى الصوتية، والآلات، والرقصات، وأدوار الموسيقيين. وعلى الرغم من الاختلافات الإقليمية والثقافية فإنها تشترك جميعاً بمواصفات معينة توحد مختلف أنواع الموسيقى في البلد. والتعبير الصوتي يسود كل الموسيقى في العراق، سواء كانت فنوناً أو فولكلوراً، دينياً أو دنيوياً. والحدود غير واضحة بين الفن والفولكلور، بين الموسيقى الدينية والدنيوية، بل هناك بالأحرى سلسلة متصلة من التداخلات والتأثيرات المتبادلة، حيث تشيع التقاطعات في الخزين الموسيقي العراقي.

وترسم شهرزاد الفسيفساء الساحرة للمقام في الفصل الخاص بالعراق في "قاموس غروف للموسيقى والموسيقيين" الذي أصدرته دار النشر "ماكميلان" بالإنجليزية، ويعتبر أهم معجم موسيقي عالمي. ولا يختصر المقام فنون الغناء والموسيقى العراقية، لكن من لا يعرف المقام لا يعرف العراق. فالمقام في هذا البلد يتميز عن فنون المقام المعروفة في البلدان العربية والإسلامية بألحانه المستقاة من المجتمعات المختلفة التي تعيش في العراق وجواره، وهي العربية، الريفية والبدوية، والكردية، والتركمانية، إضافة إلى ألحان دول الجوار التركية والفارسية والعربية.

وشهرزاد قاسم حسن، كشهرزاد ألف ليلة وليلة، مصنوعة بالكامل من العراق الذي يحتل واحداً من أهم المواقع الجيوموسيقية، إذا صح التعبير. فالعراق يقع موسيقياً في مركز المنطقة الممتدة من كشمير إلى أذربيجان وإيران، عبر أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وتركيا شرقاً، وعبر المنطقة العربية حتى شمال أفريقيا غرباً.

وفي أبحاث شهرزاد نكتشف البعد الجيوموسيقي للعراق. "إذا كان المقام نموذجاً موسيقياً ورمزاً لتضمين الاختلافات التي بُني عليها المجتمع العراقي، فإنه بأصوله وبنيته يرتبط بتأثيرات تمتد إلى ما وراء الجغرافيا المحلية التي تتمثل بالتأثر المتبادل مع ثقافات الجوار التركي والفارسي والعربي. وهكذا فإن خزين هذا الميراث هو نتاج تركيبي لمجموعة من العوامل المتراكمة والمكونة من إبداعات محلية ومن تفاعلات إقليمية تدخل ضمن الإطار الفكري والنظري والاجتماعي للحضارة الإسلامية".

وهذا من "أكثر جوانب التراث مثاراً للاهتمام، لما يحمله من معنى في هذه المرحلة الصعبة من التاريخ السياسي للعراق". كررت ذلك شهرزاد في محاضرتها في "مؤتمر الموسيقى في العالم الإسلامي" الذي عُقد عام 2007 في مدينة أصيلة بالمغرب. فالمقام العراقي "الذي يمثل الحيز الثقافي التقليدي في المدن الكبرى، يكشف عن أن خزينه كان دوماً ميراثاً موسيقياً يجمع الاختلافات القومية والاجتماعية المحلية، والتي تظهر بوضوح عند تحليل بناه التركيبية والشكلية. كما أن سياقات أدائه الدنيوي تأسست على الجمع بين مؤدين من مختلف الانتماءات القومية والدينية والطائفية والاجتماعية التي تشترك في فهمه، وفي حاجتها إلى إنتاجه وبث معانيه وتذوق جمالياته وفي التعلق المفرط به، وانفعالها بسمعه وأدائه".

وفي الكتابة عن شهرزاد يصبح "الفيلسوف الذي يحاول أن يطفئ عواطفه كالكيماوي الذي يطفئ ناره" حسب الأديب الفرنسي شامفورت. هذه مشكلة كل من يتابع نشاطات شهرزاد الأكاديمية في "مختبر إثنوغرافيا الموسيقى" في "المعهد الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية"، وفي "معهد الدراسات الأفريقية والشرقية" في جامعة لندن، وفي "قسم الدراسات الأثنوغرافية" في جامعة باريس العاشرة، ونحو عشر جامعات ومعاهد بحوث في أوروبا والمنطقة العربية.

والمقام العراقي حمل هذه القرنفلة البغدادية إلى غابة على ساحل بحر الشمال، حيث يقع "المعهد الهولندي للدراسات المتقدمة". تدير شهرزاد في هذا المعهد التابع لـ"الأكاديمية الملكية الهولندية للفنون والعلوم" مشروع "التراث الموسيقي لبغداد". وتواصل في هذا المشروع بحثها الدائم في الفنون الصوتية العراقية على مستويات علوم "الإثنولوجيا" أي علم الأقوام أو الأعراق، و"الأنطولوجيا" وهي علم الكينونة أو النفس، و"الانثروبولوجيا" وهي علم الإناسة. وها هي شهرزاد في حضرة الإنسان العراقي، ليس وجهاً لوجه بل روحاً لروح.

وعندما تكون روحُ الإنسان العراقي موضوعَ امرأة علم بغدادية يمتثل القلب للأغنية الشعبية التي تأمر بالأنين. "وِنْ يا قلب، وِنْ، وِنْ، وِنْ، مثل أُم وَلَد غرقان، وعلى الشرايع راح وِلفي، وِنْ، وِنْ يا قلبي". حرف القاف يلفظها العراقيون كالجيم المصرية، وتأمر الأغنية هذا القلب المثقل بأن يئِنَّ، ويئِنَّ، ويئِنَّ، كأم الولد الغريق الهائمة على وجهها حيث ضاع أليفها في مراسي الزوارق الشراعية على ضفاف النهر. تُسمى هذه الأغنية "البستة"، وهي تعقب عادة كل مقام، حيث تهيئ الجمهور للمقام التالي. و"البستة"، والمقدمات الموسيقية النغمية، والارتجالات الفردية للآلات الموسيقية، وأبيات الشعر، وأغاني "الأبوذية" الشعبية... أشكال مصاحبة شائعة للمقام العراقي. وثراء المقام العراقي من ثراء الروح العراقية التي تشدو بخمسين مقاما مختلفة الأسماء والهويات والانتماءات اللغوية. والمقامات العراقية الأصلية سبعة، هي الرست، والبيات، والسيكا، وعجم، ونوى، وحجاز، وصبا. ويتسلسل كل مقام عبر أجزاء تبدأ بما يسمى "التحرير"، وتنتهي بما يسمى "التسليم"، وما بين الاثنين "البدوة" و"الجلسة" و"الميانة" و"الصيحة" و"القرار".

ويحفظ جمهور المقام العراقي ألحان المقامات المختلفة، ويميز كجمهور الموسيقى الكلاسيكية الغربية بين أداءات مختلف مغني المقام، ويرصد دقة أدائهم، وعثراتهم، ويطري بعضهم، وينتقد آخرين. وفي محاضرتها ربيع هذا العام في "المؤتمر الدولي للمقام" في باكو، عاصمة أذربيجان، حكت شهرزاد عن العصر الذهبي للمقام، والذي قضت عليه سنوات الحصار والاحتلال، وذكرت كيف كان هواة ومحبو المقام في بغداد، وبينهم رئيس الوزراء المشهور نوري السعيد، يستوقفون المغني في الشارع، ويستفسرون منه عن أدائه لمقام معين، ويعبرون له عن إعجابهم أو بالعكس. وحدّثها المغني المشهور هاشم الرجب عن بائع فواكه ألقى عليه الماء بعد حفلة غنائية منقولة مباشرة في راديو بغداد تعبيراً عن استيائه لسوء أدائه مقام "الرست"!