المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
22/06/2009 06:00 AM GMT
ليس هناك من صفة يمكن أن يصف المرء فيها العراق الثقافي، فهو عالم شاسع يتوزع على جغرافيا الأشباح التي بقيت فيه أو غادرته. انه يهوّم مثل وطواط في غرفة مغلقة، قبيح يحف به الغبار، ويستكين إلى ذباب الوقت يأز برأسه ويطوف على عينيه. هكذا يطيب للجاحدين من أبنائه أن يصفوه. هو العراق المزين بالنياشيين، المدجج بأغنيات النصر، الذاهب إلى البطولة، القادم من عمق التاريخ والمستقر في سجل الخالدين. هكذا يطيب لأبنائه البررة أن يطوبوه ( من مفردة طوبى). من هو العراق الذي لعب بأسلحة الوقت حتى كُلت يداه، بلد النفط والحفاة والشحاذين. بلد البرلمانيات اللواتي تزيد نسبتهن على نسبة النساء في برلمانات أميركا وبريطانيا والسويد؟. ياللغبطة! هكذا تقتضي الضرورة أن يكون العراق. نساء يخبرن آحابيل السياسة أول مرة،ودفعة واحدة مثل جيوش تتقدم الى عالم السحر والغيب. ونساء يترصدهن الموت غسلا للعار أو لغرض الاغتصاب او لبيع الجسد. وبينهن وعلى هامشهن، تكافح في بحر العنف والفقر أكثر من مليوني عانس ومليوني أرملة في احصاءات الحكومة حتى هذا الوقت . السعادة تشبه البؤس في عراق العجائب،فالحالة الأولى تشبه الثانية إن اردنا الدقة في توصيف حال العراق الثقافي. نعم العراق الثقافي لا يكمن في المؤلفات والكتب، بل في الشارع نفسه. في طرز الحياة والبناء وطقوس المناسبات بما فيها طقوس التدين الشعبي، وفي الموقف من المرأة، إن شئنا الدقة في معرفة الثقافة عندما تكون جزءاً من مجتمع لا خارجه. في كل مرة يتقدم العراق الى الأمام يترصده منعطف كبير خطير،هو أشبه بقدر مقنّع يكمن طي ثيابه.ثقافة الطوفان هي التي أوحت إلى العراق بهذه القدرة على أن يكون دائما بلداً عدميا، وهي التي ساعدته على النهوض والزوال في متوالية تكاد تكون متشابه، منذ عصور موغلة في القدم. اكتشف الغرب مصادر أسطورة الطوفان التي وردت في التوراة،عندما فكوا الرقيمات الطينية لملاحم العراق القديمة. قال أحدهم: هذه الجغرافيا التي بدأت منها القيامة، عندما يستولي الغمر على اليابسة، وتنحسر المياه بعد وقت عن وجه آلهة جديدة ورعية تناسبها. تتغير كل المعادلات ولا تتغير ملحمة الطوفان في العراق، انها تكتب وتمحو، وتعيد الكتابة وتمحوها. وهكذا تصبح ثقافة العراق ثقافة معلقة في قدرة المكتوب، قدر الجغرافيا المقدسة التي لفت الممالك القديمة والشعوب التي سكنته بغبارها مرات. ولكن عشتار التي غضبت على تموز فغيبته في العالم السفلي، هي نفسها التي ظلت تنوح عليه، وهي نفسها التي رحلت الى أبواب الجحيم لتساوم اختها، حارسة بوابات العالم السفلى كي تنقذ تموز.ربما تتغير أسماء الآلهة، ولكن تموز نفسه يخرج كل ربيع، فتعود أرض العراق مزهرة كأنها لم تصادف ضيماً ولا جائحة من تلك التي لا تبقي ولا تذر. علينا التمسك بالأسطورة العراقية القديمة التي خطت في أوروك أول حروفها، فكل أسطورة تكمن خلف الواقع وأمامه، خلف الجغرافيا والتاريخ، وفي ذاكرة الأجيال، حتى ولو جبلت من النسيان كي تعيش يومها الصعب، وكي تنسى أنها على موعد مع ربيع قادم. فها هو العراق الذي يملك أكبر نسبة من التكنوقراط في العالم العربي،حسب احصاءات الأمم المتحدة،لا يجرؤ على المطالبة بهم، لأنهم موزعون على جهات العالم كلها، من بلدان الخليج حتى كوستريكا. يخاف عراق اليوم من الثقافة حتى لا يقال له أنت لا تنتسب إلى نفسك، يخاف من الجمال حتى لا يظهر قبح الواقع الفظ الذي يعيشه. ليس المهم أن يعود قارئ الكتاب وكاتبه، المهم أن يعود المهندس والطبيب والخبير الاقتصادي والإداري وعالم الاجتماع والأكاديمي والمهندس وكل من تقوم هياكل ثقافة الحياة على أكتافه. فشتاتهم هو شتات العراق وغربتهم هي غربته. العراق اليوم يعيش نقصانه، فقد تسربت ثقافته من بين يديه، وظل ينزف صانعيها حتى رمقه الأخير. العراق يقف وحيدا لا يعرف نفسه. أجيال منه لم تعرف سوى الهروب من الموت،الهروب من الحرب الى الأمام أو إلى الخلف، فمن أين يأتي بمزاج غير مزاج النواح، وغير مزاج الشعور بالعدم والخواء. كان ديستويفيسكي يقول إن الثقافة الروسية، تتجه إلى العدم، بل هي ثقافة عدمية،لهذا لا مستقبل لها. مع ان الثقافة الروسية على عهده، نهاية القرن التاسع عشر، كانت في عز ازدهارها،شعرا ورواية ونقدا وتشكيلا،فقد كان يعرف أن حكاية الموت والاغتيالات والمشانق والعنف المتبادل بين القيصر ورعيته هي الطريق العدمي الذي لاح أمامه، فكتب " الشياطين" أو "الممسوسون" عن مثقفي عصره. لم تردع المشانق التي كانت تنصب في ساحات بطرسبرغ وفي باحات السجون، لم تردع الثوريين عن ابتكار وسائل جديدة للعنف، ومع أن روسيا كانت في ألقها الثقافي غير عابئة بما يجري في الشارع، بل كانت منتدياتها الأدبية التي يرتداها ديستويفيسكي نفسه، تبدو وكأنها تحاول أن تنسى ثقافة العنف أو تردعها، ولكن من يستطيع أن يوقف الحصان الذاهب الى الهاوية. وما أن هلت الثورة المنتظرة، التي انتظرها العالم وليس روسيا وحدها، حتى حفرت قبر ثقافتها بيدها. وهكذا يحق لكاتب فلت قلمه من تحت منصة الإعدام،أن يحكم على ثقافة بلده بالعدم. اقتيد ديستويفسكي الى الموت هو ورفاقه، وكان بينه وبين التنفيذ دقائق معدودة قبل أن يأتي ساعي القيصر مبلغا بالعفو عنهم. كتب ديستويفسكي رواياته بعد ان اجتاز تلك التجربة، ولكن شخوصها بقيت ماثلة أمامه، فقد شف في لحظات الإعدام حتى عرف معنى ان يتأرجح المرء على شفا الهاوية، ومعنى ان يملك وجها الملاك والشيطان معاً، الجنون والعقل، والحب والكراهية. ثقافة العراق قادها صانعو الحروب الى الإعدام مرات، ولكنها كانت في كل مرة تفلت منهم. تضمد جراحها، وتوحي الى نفسها بان ثمة وقتا للحصاد حتى ولو تأخر قليلاً، فهي لا تملك غير هذا العزاء كي لا تدخل في غيبوبتها الأخيرة.
|