لعبة النفط والسياسة في العراق

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
15/06/2009 06:00 AM
GMT



يقول المثل العراقي "يفوتك من الكذاب صدقٌ كثير". وعندما يتعلق الأمر باستخلاص الصدق من الكذب حول أوضاع صناعة النفط، فالأفضل أن نكتفي بالنكات. ونكات النفط في العراق وفيرة يحار المراقب ماذا يختار منها، ولعل أظرفها نكتة كردية بمناسبة الإعلان عن مشروع إيصال الغاز العراقي من إقليم كردستان إلى أوروبا. تتحدث النكتة عن شخص سرق بطّة من جيرانه، وطبخها وتعشى بها. وفي صباح اليوم التالي صادفه جاره أمام المنزل، وحيّاه "صباح الخير". قال سارق البطّة: "يا بطّه"؟!

بطّة، وأيّ بطّة!.. فمشروع الغاز الذي تشارك فيه مجموعة شركات أوروبية وخليجية يرينا على الطبيعة القوة الجيوبوليتيكية للطاقة الهيدروكربونية. إنها لعبة الأمم، ومشاركة أكراد العراق في اللعبة يمنحهم حقوق أمة لاعبة على صعيد إقليمي وعالمي. واللعب هنا صراع جيوبوليتيكي حول تغذية خط أنابيب "نابوكو" بإمدادات الغاز العراقي إلى تركيا والأقطار الأوروبية.

ومشروع "نابوكو" لعبة شطرنج معقدة رقعتها العالم. فهو يشد أواصر أكراد العراق باسطنبول، أي يزلزل موقعاً جيوبوليتيكيا في منطقة جبلية وعرة جغرافياً وسياسياً. ويعزز المشروع موقع تركيا في الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، الذي تأمل دوله أن تقلل من اعتمادها الكلي على الغاز الروسي. وبسبب ذلك يحظى مشروع "نابوكو" بتأييد واشنطن وبعض الجمهوريات السوفييتية السابقة، لكن روسيا التي تعارضه شرعت بتوقيع اتفاقات حول مشروع منافس قامت بتطويره. وروسيا أكبر شريك تجاري لتركيا التي تعتبر ثالث أكبر مستهلك للغاز الروسي.

وكما هو متوقع، أعلنت بغداد رفضها دخول الحكومة الكردية طرفاً في مشروع "نابوكو". وقال علي الدباغ، المتحدث باسم الحكومة، إن "العراق يعتزم توريد الغاز إلى أوروبا، إلاّ أن الخطط لن تشمل الشركات التي وقعت اتفاقاً مع الحكومة الكردية بشكل مستقل عن بغداد". وأضاف أن الحكومة ترفض أي اتفاق لا يشمل وزارة النفط العراقية.

ويمكن استقراء ردود أفعال حكومة إقليم كردستان في رسالة مفتوحة لوزير نفط إقليم كردستان منشورة بالإنجليزية في موقع نشرة إلكترونية مستقلة خاصة بالنفط العراقي Iraq Oil Report. تضمنت الرسالة رد الوزير الكردي "آشتي هورامي" على الوزير الفيدرالي حسين الشهرستاني الذي أعلن أن اتفاقيات المشاركة في الإنتاج مع الشركات الأجنبية التي عقدتها حكومة إقليم كردستان "غير قانونية وباطلة".

والمعروف أن الموقف الرسمي العراقي ملتبس من موضوع اتفاقيات المشاركة، والتي يعارضها جميع قادة صناعة النفط العراقيين المخضرمين. إلاّ أن الوزير الكردي يدّعي أن ما يسميها "وجهات نظر" الشهرستاني لا تعكس آراء "الحكومة الفيدرالية" ولا "البرلمان الفيدرالي"، بل "لا يشاركه في الرأي معظم موظفي وزارته النفطية"! وأعلن الوزير الكردي في رسالته أن "إقليم كردستان" لا يعترف دستورياً، أو عملياً بسلطة الشهرستاني. وذكر أن هجومه على ما سماه "منجزات حكومة إقليم كردستان" يهدف إلى تحويل الأنظار عن إخفاقات وزارته بالذات، وطالبه بتوضيح سبب فشله في زيادة الإنتاج، وعدم تطويره ولو مشروعاً واحداً على الأقل من الاكتشافات النفطية العملاقة رغم وضع ثمانية مليارات دولار تحت تصرفه؟ ولماذا تستمر وزارة النفط في إحراق جميع الغازات المصاحبة لإنتاج النفط هباءً، والتي تقدر قيمتها بنحو عشرة مليارات دولار سنوياً؟ وتحدّاه فيما إذا كان لا يوافق على الاتفاقات، أو يعتقد أنها "غير قانونية" أن يقوم بإجراء ما وفق الدستور، وليس إثارة حدث إعلامي يسبب الضرر للعراق.

تعليقات تراوحت ما بين الإطراء والتجريح ظهرت حال نشر رسالة الوزير الكردي في موقع النشرة الإلكترونية. ويثير الاهتمام بينها تساؤل أحد المشاركين عما يجنيه الأكراد من الاتفاقيات مع الشركات الأجنبية التي سيتحملون نفقات تنفيذها إلاّ أن مواردها ستذهب، حسب الدستور إلى الخزينة العامة للحكومة المركزية؟ الجواب عن هذا السؤال غير معروف حالياً، لأن الدستور خاضع لتعديلات يبلغ عددها نحو خمسين، وبانتظار ذلك لم تصدر لحد الآن قوانين ومراسيم تضعه موضع التطبيق، ومن أهمها "قانون النفط والغاز"، و"قانون توزيع الموارد النفطية".

والنكات أمتع من تبادل الشتائم الجارحة، التي بلغت حد تقطيع لقب الوزير بالإنجليزية مقطعين "شاه" "رستاني"، واتهامه بالتواطؤ مع إيران لهدم صناعة النفط العراقية! وكنتُ قد نبّهت الشهرستاني، وهو عالم بالكيمياء النووية، إلى مخاطر التورط بالسياسة عندما تردد اسمه كمرشح لرئاسة الحكومة العراقية. جاء ذلك في مقالة عنوانها "إلى العالِم الذي لم يصبح رئيس وزراء العراق" منشورة هنا بتاريخ الثالث من يونيو عام 2004. تناولت المقالة ورطتنا المشتركة في السياسة. "كلانا كرّس نفسه لخدمة العلوم والتكنولوجيا، فأطاح به العراق في السياسة. وحالنا الآن، كذلك الذي صارع أمواج نهر دجلة لإنقاذ غريق وخاطب الناس الذين استقبلوه على الشاطئ بالتصفيق: بسْ أريد أعرف يا ملعون دفعني بالنهر"؟!

ولم يخرج الشهرستاني لحد اليوم من نهر العملية السياسية الذي طاح فيه. فهو مطلوب حالياً لاستجواب برلماني وقعه 140 نائباً. وسيحول الاستجواب الشهرستاني إلى كبش فداء للكارثة الاقتصادية التي يتحمل مسؤوليتها تحالف الاحتلال والطائفية المشؤوم. هذا واضح من بيان وزير المالية الذي يحمل وزير النفط مسؤولية كارثة الموازنة العامة التي انخفضت إلى الثلث؛ من نحو عشرة مليارات إلى ثلاثة مليارات دولار تقريباً. وذكر البيان أن وزارة النفط لم تستفد مطلقاً من استثناء العراق من حصص "إنتاج النفط في منظمة أوبك"، وقال إنها توقعت تصدير مليوني برميل يومياً، ولم تتمكن من تجاوز حاجز النصف مليون برميل تقريباً. و"هذا الرقم لا يتناسب مع دول نفطية صغيرة بدأت آبارها بالنضوب، فالعراق يطفو علي بحيرات النفط الخام"!

السياسة لعبة النفط في العراق وبالعكس. في حركة هذين الاتجاهين المتعاكسين يكمن عين الإعصار المدمر، والذي يهدد بالقضاء على واحدة من أكبر وأشجع صناعات النفط المستقلة عن الاحتكارات العالمية. ويحطم وضع الصناعة الحالي قلوب قادتها المخضرمين، الذين ساهموا بإقامة أول حقول نفط وطنية في المنطقة، وأول مصافي نفط عربية، وأول شبكات توزيع وتسويق استراتيجية، لدولة عضو في منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" التي ولدت في بغداد.

ويخطئ من يتصور في وزارات النفط والمعادن الفيدرالية والإقليمية، أن عقود الإنتاج المشترك تعوض عن خسارة قادة الصناعة المرّحلين في الداخل والخارج. يؤكد ذلك الباحث البريطاني "جريج موتيت" في دراسته التي صدرت الأسبوع الماضي بعنوان "دورات المناقصة على حقول النفط العراقية". ويذكر الباحث الذي يؤيد موقف قادة صناعة النفط العراقيين المعارض لاتفاقيات الإنتاج المشتركة، أن هذه الصناعة لا تفتقر حالياً إلى مهندسين وجيولوجيين وكيماويين فقط، بل أيضاً إلى حقوقيين، ومحاسبين، ومفاوضين، ومدراء. غياب هؤلاء اللاعبين الأساسيين في العملية الإنتاجية، يحول نفط العراق إلى "نقمة الموارد" المشهورة في تاريخ الاقتصاد العالمي باسم "المرض الهولندي". ومعروف أن نشوء القيادات النفطية متعددة الاختصاصات، عملية دقيقة ومعقدة، كالتكوينات الجيولوجية التي هي من صنع الله، حسب الجيولوجي البريطاني رودريك مورتشسن.