نزعة مضادة «للاحتباس» الأدبي

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
09/06/2009 06:00 AM
GMT



يظل السؤال الأساسي مطروحاً بشكل حاسم عند التقصي عن (أدب المدونات): هل هناك كتابة أدبية عربية «جديدة» بالفعل، غير مرئية، إنْ صحَّ التعبير، لم تطفُ بعد كما يجب على السطح الثقافي؟.
يخيّل إلينا أن الجواب المحفوف بالمخاطرة سيكون «نعم».
نلاحظ في البدء إن ظاهرة «التدوين» العالمية و»المدوّنين» مجهولي الهويّة غالباً، قد امتدت لتشمل الثقافة العربية من مشرقها حتى مغربها، وقد أنتجتْ أدباً يمتلك، كما نزعم، بعض السمات التي تتفارَق بدرجات، أسلوبية وموضوعاتية، عن لغة الأدب المُسيطِرَة.

يتعلق الأمر بجيل جديد من كتاب «المدوّنات» الذين يكتبون بأساليب تبتعد بأقدارٍ واضحةٍ، بل جدّ واضحة سلباً وإيجاباً، عن النمط الأدبيّ المُعتبر عالياً أو أسلوباً رفيعاً أو مقبولاً في الأقل. لنتمعَّن، لكي نرى وجهات أخرى من وجوه الأزمة المشار إليها، في أن الثقافة العربية قد خلقت لها (وأحيانا اختلقتْ) رموزاً أدبية في الشعر والسرد منذ بداية القرن العشرين، ثم أسماء جديدة في الستينيات والسبعينيات، وهذه الأخيرة ظلت تتشبث بمواقعها، لأسباب عدة، مغلقة الباب أمام الأصوات ألاخرى من مجايليها، المنافسين الحقيقيين، ومن ثم، وخاصةً، لجميع الأجيال التي تلتها. وإذا ما سمحتْ لتلك الأجيال بالتعبير عن أنفسها فإنما بطريقة محسوبة لن تجعل منهم أسماء لامعة، ومن باب التنفيس وذرّ الرماد في العيون. مَن سعى لاختراق ذلك قد بذل الكثير من المال على طباعة كتبه على حسابه الشخصي والسفر إلى الجهات الأربع حيثما يجد ذلك ملائماً للترويج لذاته. لذا شهدت الثقافة العربية نوعاً من «الاحتباس الثقافي» طال أكثر من اللزوم، لأنه ترافق، يداً بيد، مع احتباسات سياسية وفكرية شديدة منغلقة على نفسها، أنتجت بدورها ردود فعل معروفة متطرِّفة من كل نوع.
نشتق «الاحتباس» من أزمة المناخ الخطيرة التي تمر بها الكرة الأرضية ونطوِّعها لصالح مسعانا في تفسير أدب المدونات، فهي تُجْلِي جانباً من حالة الجمود الفكريّ والفلسفي العربي وهيمنة أصوات بعينها على المشهد الثقافي وتشبث المتشبثين بمواقعهم الثقافية المؤثرة عن حقّ مرةً وباطلٍ مرةً أخرى، ولأنها تنسجم مع استعارة «أنا أدون إذنْ أنا موجود» البليغة. ومثلما لا تستطيع دفقات الحرارة الانبعاث خارج كرتنا الأرضية مسببة حُمّىً مَرَضِيّة في جسدها، فإن الفسحات القليلة المسموح بها لكل جيل جديد في ثقافتنا سببت حُمّى أدب المدوّنات. انحباس على مستوى الفكر كما في نطاق التفاهُم بين الأجيال. ومن بين جميع الثقافات في العالم لا تسمح الثقافة العربية أن تمنح الكلام والمسؤولية بسهولة وبرضا للأجيال الأصغر سناً. يشتغل العرف الثقافي على أساس الأقدمية الزمنية التي تؤسس لمفهوم الحكمة، والأخيرة تتضمن الحق بالكلام وبالفعل المسؤول. من هنا ينشأ دورياً ضيقٌ لدى الأجيال الجديدة التي تشكو من عدم سماع صوتها، بل قمع صوتها إذا تطلَّب الأمر. ومن هنا تطلع تمرّدات في حقول شتى: الاجتماعية غير المرئية في نطاق أجيال العائلة الواحدة نفسها، والأدبية المرئية على السطح في تجديدات شكلية وموضوعاتية تستهين بالإرث السابق لتجاوزه.
يستطيع المُتمعِّن في الظاهرة الزعم بأن تفاهُم الأجيال لم يعد ممكناً ضمن المرجعيات التي تتأسس عليها شريحة واسعة في الثقافة العربية، وأن «الانحباس» قد صار قاعدة. فالتجييل العشري (جيل الخمسينيات، الستينيات، السبعينييات.... الخ) هو ظاهرة عربية عن جدارة لا نشهد مثيلاً دقيقاً لها في الثقافات الأوربية التي تشهد تعايُشاً معقولاً بين الأجيال الأدبية. كما أن عدم الوثوق بالشباب هو أيضاً ظاهرة عربية عن جدارة ويوجد بدلاً عنها، في الثقافات الأوربية، ثقة كبيرة بهم. هل علينا التذكير بعمر الرئيس الفرنسي ساركوزي؟. أو علينا التنبيه أن مسؤولين كباراً في البنوك والإدارات والمؤسسات التعليمية والتجارية الغربية هم من فئة الشباب حصراً حتى أن سقف سوق العمل الغربية، من الزاوية العُمْريّة، لا يمنح مكاناً لمن تجاوز الأربعين إلا بصعوبة. لا تستهدف المقارَنةُ سوى التثبُّت من الظاهرة ولا تطلق حُكمَ قيمةٍ، وهي تودّ استنطاق هذا الاحتباس لكي ترى كيف يمكن أن تخرج منه ظواهر غير متوقَّعَة على الصعيد الأدبي. منذ السبعينيات لم يعد ممكنا إذنْ إلا بصعوبة، بسبب الاحتباس الثقافيّ الشديد، اصطناعَ رموزٍ ثقافية جديدة: لقد جرى تشديد القبضة على عالم الأدب مثلما بالضبط ترسختْ، في أماكن أخرى غير الأدب أسماء النخب المُهيمِنة، دون أدنى الفروق أو أقلها. ما علينا سوى رؤية ثبات الأسماء الأدبية والمحررين الثقافيين في الصحافة العربية على سبيل المثال منذ أكثر من ربع قرن. وإذا ما وقع اختراق ما فكان في الغالب اختراقاً لثيمات محرّمة (كالأيروتيكا)، جرى بسببها الترويج الآني لبعض الأسماء الشعرية والروائية، وهذه تعوطيتْ في الحقيقة بوصفها نوعاً من الطرفة أكثر مما هي اشتغال أدبي دؤوب من طراز رهيف. طرفة و»موضة» تشتعل لكي تنطفئ بعد حين. والكلام هنا لا يعني أن هذه الثيمة لا قيمة لها بل العكس تماماً. لقد وقعت اختراقات محدّدة في حقول أخرى غيرها (رواية «عمارة يعقوبيان» مثلاً) لا تنفي الملامح العامة للظاهرة.
لم يكن «للاحتباس» الثقافي الموصوف أن يدوم إلى الأبد. لتبرز، بسبب شبكة النيت، كتابات احتجاجية غير مباشرة عليه: أول علائم غضبها أنها بدلاً من «معلومية» اسم الكُتـّاب السائدين وشهرتهم المثبَّتة، ذهَبَ «المدّونون» طواعيةً إلى «المجهولية»، وبدلا عن الأسلوب الناعم الذي لا يخدش أحداً، فضّلوا نبرة ساخطة، وبدلاً من شفافية المخيلة ومألوفيتها وواقعيتها، تمسكوا بالغريب والفنتازي والسوداوي والسوريالي، وبدلاً من بلاغة الجملة العربية المعهودة احبّوا لغة أقرب للجملة المترجَمَة، وبأخطاءٍ إملائيةٍ ولغوية فادحة بعض المرات، مثيرين الشكوك لدينا حول الأصول الفعلية ومراجع بعض نصوصهم.