«حرب العاجز» لزهير الجزائري : دُوار أزمنة

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
14/04/2009 06:00 AM
GMT



«حرب العاجز» سيرة عائد، سيرة بلد، كتاب العراقي، زهير الجزائري، صادر حديثاً عن «دار الساقي». الجزائري كاتب وصحافي، درس الأدب الألماني في جامعة بغداد، واللغة الانكليزية في جامعة كمبردج ـ لندن وله إصدارات : «المستبد» (صناعة قائد صناعة شعب) و«الخائف والمخيف» و«حافة القيامة» و«مدن فاضلة».
في «حرب العاجز» مروحة واسعة من المشاهدات، سجلتها عن الصحافي زهير الجزائري، العائد إلى بلده العراق عقب غربة قسرية دامت أكثر من عشرين عاما. عودة اشتبكت فيها المقارنات بين الماضي والحاضر، وتذكر الأمكنة والأصدقاء والأقارب والأيام والحكايا وقد أفل أكثرها أو شوهتها الحرب: «كل شيء هنا يفوق الخيال ويُصيبني بالدوار والبلادة. صدّام فوقي يبتسم لي رافعا يده إلى النصف وهو يحييني، والجندي الأميركي يتفحص أوراقي وأنا أدخل بلدي بجواز أجنبي. لا شيء حقيقيا ولا شيء منطقيا. حين بدأوا يتفحصون جواز سفري عاودني ذلك الإحساس الدائم بالخوف من نقاط الحدود. لم تستطع حدود أوروبا المفتوحة ولا كوني أحمل أهم وأرسخ جواز في العالم أن يلغيا إحساسي الدائم بأني متهم بالفطرة. لكثرة ما تنقلت بجوازات مزورة أو مستلفة من بلدان أخرى لازمني هذا الشك بأني وجوازاتي شخصان مختلفان، وتربكني استعارة وتمثل الشخص الآخر المثبت في جوازي. ودائما أتنفس بعمق حين أسمع صوت الخشب الكتيم حين يختم على جوازي: (نجوت!) وأفلت من الحاجز الى الحياة السوية».
اشتباك
كتابة تسجيلية، حنينية مع ذلك، تتيح للقارئ كما أتاحت للكاتب، لذة الاكتشاف وعقد المقارنات، كما تلقي على كاهله في الوقت نفسه عبء المشاركة في ثقل هذا الحاضر، حاضر العراق الآن بعد صدّام الذي انداح جبروته، ليحل على العراق جبروت آخر يتمثل في الاحتلال الاميركي، والتقاتل الأهلي ـ الطائفي، الى رؤية تلك الحضارة الراسخة، وقد أشرفت على الذوبان.
الكاتب العراقي العائد إلى بلده، يكتب من منظور كليّ متعلق غالبا برؤية حيادية تتطلبها المهنة (الصحافة)، سوى أنها تتمتع بسعة أفق، تتجاوز تماما كتابة المتفرّج، وتملك الجرأة على الانتماء، مواجهة الظلم القديم والظلم الجديد، ومواجهة الذات والوجود معاً.
كتابة الجزائري لم تأت من التذكر، بل من أرض الواقع الذي يمنح «وصف المكان» اذا صح التعبير، تلك الصدقية اللازمة، ويمنح العبارة تجليها الأدبي، فهي تقـف الى جانب الحــقيقة التي يراها الكاتب، في مسرح الأندرغراوند العراقي المخيف.
اشتباك حاد عاشه الجزائري إثر عودته الى العراق بعد غربة طويلة. اشتباك تداخل فيه الماضي بالحاضر بالمستقبل. الماضي الذي لا يريد أن يمضي ملقيا كل ثقله على الحاضر بكل ثقافة العنف التي دامت 35 عاما، والحاضر الذي سرق فيه الأفراد والجماعات عنف السلطة السابقة وتنازعوه بينهم، والمستقبل حيث كل طرف يريد أن يشكل الدولة أو اللادولة المقبلة على صورته. كل هذه الأزمنة كانت تتحقق للكاتب في تجواله اليومي في العراق، سواء في قصر صدام أو حتى في الشارع وكل مكان أو بلدة أو قرية زارها، سواء بحكم مهنته كصحافي أو بحكم معاينة طفولته وصباه.
كل قصة هنا أو هناك، تفتح للكاتب أسئلة جديدة في اللحظة التي يحتاج فيها الى أجوبة. اختلطت الأمكنة عند الجزائري، كما الأزمنة في رحلته القاسية إلى موطنه، ذلك انه بحسب بشلار في كتابه «جماليات المكان»: في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان، والذي يود حتى في الماضي (حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة) أن يمسك بحركة الزمن.
عراق أفضل
بدا العراق في سرد الجزائري، أحجية ومقصورات مغلقة لا حصر لها، كما احتوى على الزمن مكثفا. القارئ يلاحظ إثر القراءة حساسية العلاقة بين الكاتب وفخ الأزمنة الثلاثة التي تشابكت لديه في محاولته رفض الرصد الكرونولوجي لما يجري في العراق حاليا، وتحدي دراما تجزيء هذا البلد، ليدخل في ما يشبه نوعا من السرد (المونتاج) الحافل بالتحديات، سواء في بناء العمل الفني (السرد) أو في الرغبة بعراق أفضل.
في الفصل المعنون: وادي السلام، وهي مقبرة، ضبط الكاتب ساعته مع سيل الموتى: جنازة كل دقيقتين، حتى ليصل تعدادها آخر النهار الى أربعمئة جنازة، فيتساءل الجزائري وقد سعى إلى زيارة قبور أهله وجيرانه ورفاق طفولته عن سر النحيب والضجيج؟ ما المفجع في الموت اذا كانت الحياة، كما ترينا هذه المقبرة، مجرد مصادفة!
ثمة في كتابة زهير الجزائري ذلك الإدراك البصري للعراق، مبرزا كل سيئات الحكام الذين تناوبوا عليه في عملية تشكيل المفاهيم التي يؤمن بها الكاتب. العراق مكان مكشوف لعين الكاتب، ملموس ايضا من وجوده به، ومفتوح بالقابلية للفهم ومغلق بالاستعصاء على الفهم وهكذا.. ومثل هذا النسق في السرد للجزائري هو نسقه الخاص، في دعوته الواعية إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من العراق، من خلال الابتعاد والعودة الأكثر شمولاً في وجعها وحقيقتها.