زهير الجزائري في كتابه: حرب العاجز..سيرة عائد.. سيرة بلاد

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
24/03/2009 06:00 AM
GMT



«حرب العاجز: سيرة عائد، سيرة بلاد» (دار الساقي، 2009) لزهير الجزائري الذي انتقل من كرسي المتفرج في بريطانيا على الحرب في العراق، الى وطنه بعد غياب عقدين. يعود ليشارك في انبعاث بلاد وهوية، واذا به شاهد على هبوط الوطن الى الجحيم. مثل كثيرين، ترعبه الفوضى والجرائم وانتقال العنف، الذي احتكرته السلطة سابقاً، الى أيدي أبنائها، فيقرر أن ما كان ينبغي أن يبدأ العراقيون بالديموقراطية بعد سقوط صدام، بل ببناء «دولة ذات أسنان». يتشكل الوعي ، ومعه الهوية، طائفياً ويسود القتل المذهبي الذي يعيد ترتيب التوزع الطائفي فارضاً انسلاخ المختلفين عن بيئتهم الى محيطهم «الطبيعي» وفق التعريف الجديد.
في لندن يشارك الكاتب في تظاهرات السبت المنددة بالحرب لكنه يريد التخلص من الدكتاتور في الوقت نفسه. يستعيد ألفته مع الأماكن المقصوفة، وتصحب رؤية شارع الرشيد ذكريات الشرب ورائحة الحمص المسلوق ولقاء حبيبة في ستوديو مصور فوتوغرافي. يفخر طيار أميركي بإصابته التامة للهدف، ويقول لمراسل تلفزيوني انه رآه «متوهجاً مثل شجرة الميلاد». يكاد يشم الغبار الأصفر الذي يلف الجنود الأميركيين، ويتوتر جسده وهو يشاهد عراقياً يضرب بمطرقته قاعدة تمثال صدام حسين كأنه يعينه على اسقاطه. يختفي هذا مع ازدياد المخاطر ويبيت وجوده افتراضياً وقصره نصباً رمزياً. التقاه مرة واحدة ولفتته صفرة الأموات في وجهه، واذ فر الى بيروت من اضطهاده لحق به موظفون في المخابرات فأحس أن بينه وبين صدام ثأر شخصي ومرض وأنه كتب في المنافي ليشفى منه.
أشعره تنقله بين بضعة بيوت في لبنان وسورية وكردستان بازدواجية، وأكد له حشد العراقيين العائدين صحة قرار الرجوع. يصدمه ذل مواطنيه الذين عملوا عتالين وباعة سجائر وقايض فنانوهم لوحاتهم بوجبة طعام. يحس بزيف الأشياء عندما يتفحص جندي أميركي أوراقه وهو يدخل العراق بجواز سفر بريطاني. كثيراً ما شك في أنه وجوازه شخصين مختلفين لفرط ما استخدم جوازات مزورة. تلتبس الحقيقة والصورة فيبدو الموت مصادفة باهتة بلا دراما مقارنة بما رآه على التلفزيون. يرى ضباعاً تمضغ ويفكر في والدة الجندي الذي تلتهم بقاياه. تفاجئه بغداد مدينة بلا ألوان كأنها مغطاة بتراب القبور. يرتدي دشداشة والده وينام في سرير أمه، ويسترجع ذلَّهما بعد موت شقيقه في القتال مع ايران وشقيقته بالسرطان من جراء اليورانيوم المخصب الذي حمله الهواء من ساحة الحرب. استبدلت والدته الكلام بإشارات قليلة وعاشت مع زوجها على الإحسان.
تقلص الحرب الحياة الى البدائي منها، وتبدو المرأة الضحية الأولى. تتجنب الخروج لئلا تختطف وتغتصب وتقتل، وكثيراً ما ترتدي الحجاب ومنه «حجاب الشيطان» الذي يظهر أكثر مما يخفي اما خجلا من الابنة المحجبة أو لأنه أسهل ويوفر الأمان حتى إذا كانت فنانة ترسم نساء ينضحن أنوثة وإغراء. لا يلغي الحجاب وجود المرأة الإنساني فحسب، يقول الكاتب، بل يجعلها تدافع عن عبوديتها عبر العقيدة الأصولية.  فرض النظام على العراقيات إنجاب أربعة أطفال على الأقل لتغذية الجبهة مع ايران، وتراجعت القوانين التي تحمي المرأة. خريجة  من كلية الاقتصاد تعمل عاهرة، وطفل في الثالثة عشرة يخجل من عري أمه عندما يرى صورة من شبابها بالتنورة القصيرة. يضرب الرجال زوجاتهن لتصريف الغضب المقموع ولا يتفوهون بكلمة حلوة في الأوقات الصعبة. 
يتوقف الكاتب الصحافي عند عصابات النهب المسلحة التي يغادر أفرادها مواقع جرائمهم «وعيونهم جاحظة خوفاً من عصابة أخرى تنتظر لدى الباب لتقتلهم وتنهب ما نهبوه بعرق جبينهم ودم منافسيهم». يبيع السارقون  جوازات سفر، ملابس الجنرالات وأوسمتهم ومسدساتهم المطلية بالذهب، سيكاراً كوبياً عليه اسم عدي صدام حسين، وشرائط بمئة دولار عن لقاء حميم له مع فتاة تبرز فيه. جسر الجمهورية الذي دارت فيه روايات وقصائد كثيرة بات أطلالاً خوت مقاهيها التي رعت لقاءات السمر مع الأصدقاء. بين شارعي أبو نواس والسعدون مقهى يبيع المخدرات وصبيتين قاسيتي الجمال. المفاجأة «الفاجعة» كانت شارع الرشيد الذي حامت الكلاب حول كومة النفايات فيه، والذي فقد كل ما هو جميل وأصيل فيه معناه. كان فيه أول مدفع عثماني وأول مدرعة إنكليزية وأول عربة خيل للوالي العثماني وأول سيارة وأولى التظاهرات وأولى محاولات اغتيال عبدالكريم قاسم. انهارت القيمة التاريخية والثقافية للشارع مع انهيار الطبقة الوسطى التي يزور الجزائري أقبية التعذيب في سجن، ويشاهد شريطاً لحفلة تعذيب جماعية بإشراف وطبان التكريتي وإعدام هاربين من الجيش. بين المفقودين الذين خرجوا من السجن بوجوه شمعية قريب له احتجز في السرداب تسع سنوات. تقوس ظهره وتآكلت أسنانه، وخشي الكتابة عن تجربته تحسباً من عودة البعث الى الحكم. في فيلم أعده الجزائري عن الأطفال العراقيين المهاجرين تذكر هؤلاء من وطنهم الجدة والنخلة المطلة على السطح. الأطفال المقيمون أضافوا صوراً جديدة الى مخيلاتهم، وحمزة البالغ الرابعة يصر على أن طائرة أميركية وقفت على شجرة الحديقة وأطلقت النار على بيته.
يجد نفسه عضواً في المجلس الوطني الأول الذي كانت جلسته الأولى الأخيرة له. واكب تجربة الانتخابات البرلمانية الأولى تربص القناصة على السطوح بالناخبين، وانتشار إرهابيين بزي الشرطة لقطع الأصابع الملونة بالحبر. يطلب رجل أعمى من الجزائري التأكد من أن حفيده الذي يخالفه الرأي وضع الشارة على اللائحة التي اختارها. يحس الكاتب انه قام بفعل تاريخي، لكن البلاد تتابع تدحرجها نحو الجحيم. تصادر الميليشيات والجماعات المسلحة الدولة التي بات ظهورها شكلياً مثيراً للشفقة. يهجر أبناء المذهب الآخر من مناطق الأكثرية المختلفة، ويقتلون ويمنع رفع الجثث من الشوارع للترويع. يمنع تعليم البنات وبيع الكحول، وترش محلات الحلاقين بالرصاص اذا حلقوا الذقون أو قصوا الشعر وفق تقاليع «خليعة». في سوق الكرادة يشعر الكاتب بالحزن على دمية عرض الملابس التي قطعت ورميت في الشارع كما لو كانت كائناً حياً. تقطع رؤوس بعض القتلى وتوضع في بطن الجثة ثم تلغم. يستهدف الإعلاميون والجزائري منهم، ويفزع هذا عندما يرى مشاهد قطع الرؤوس بالسيف والسكين. ينتقل الى القاهرة لكن الكابوس يرافقه. ترعبه صورته في مرآة المصعد ويظن أن أحداً يتربص به.