المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
10/03/2009 06:00 AM GMT
تتآكل لدى الجيل الأول من المغتربين العرب في أوروبا لغتهم الأم العربية، سنة بعد سنة، لتصبح اللغة التي يتخاطبون بها خليطا غريبا من اللغة الام ولغة البلد الذي يعيشون فيه، حيث تدخل المصطلحات العلمية في لغة التخاطب بسهولة، كونها الاقرب الى ذاكرة المرء. وكذلك اسماء الأمكنة والألبسة والساحات، ومن ثم بعدها القوانين الجديدة التي تخص تفاصيل الحياة اليومية لما لها من علاقة بمدارس الاطفال، والعمل، والدراسة، والسكن. والتخاطب باللغة الأم عادة ما يستمر بين الزوج والزوجة في البيت، وبين هؤلاء والأصدقاء القدامى من الجيل الأول من المغتربين. وهذا الجيل يستمر باستخدام اللغة الام مع ابنائه لفترات طويلة، الى ان يبلغ الجيل الثاني سن الرشد ويدخل في غمار الحياة العملية، وليكون، بطريقة او اخرى، اول جيل مؤهل للذوبان النسبي في المجتمعات الأوروبية.
هناك مئات الأبحاث والمؤسسات والبرامج والندوات، في معظم الدول الأوروبية، عن قضية الاندماج، والفرق بينه وبين الذوبان، وكذلك معضلة الهوية الموحدة والهويات الثانوية، والعلاقة بينهما. المفكرون الفرنسيون تصدوا لهذه الاشكالية الحضارية بقوة، وشمولية، بزت كل نظيراتها الأوروبية. الجيل الاول الذي جاء من بلدان عربية بعيدة مثل العراق ولبنان وسوريا وفلسطين وتونس والمغرب وغيرها، يظل منشطرا طوال حياته بين حضارتين ولغتين، فهو لا يستطيع تجاهل ذلك النداء البعيد، ندائه الداخلي المتحدر من بيئته الشرقية وعاداتها ومآكلها ومناسباتها، ولغتها ولهجاتها، فهو يظل متمسكا بالاكلات التي تربى عليها، ويشاهد القنوات الفضائية التي تربطه بمسلسلات عربية وأغان واحتفالات وريبورتاجات، ونادرا ما يضع مؤشر التلفزيون على قناة اوروبية. ويوصي حين يموت الا يدفن في بلد الاغتراب بل في بلده الأم. الأرض التي هاجر اليها يعدها غريبة، باردة، ولا تستحق الدفن فيها. ومن ميزة هذا الجيل عموما انه لا يتقن، كلية، اية لغة اوروبية، وحتى لو اتقنها بعض الشيء فهو لم يستطع التخلص من لكنته الفاقعة. وهذا الجيل ايضا يحافظ على الاصول الفولكلورية في مجتمعه الاول، كالزيارات العائلية والدعوات واحياء المناسبات الدينية وزيارة الجوامع والحسينيات والاحتفال بالاعياد وصيام رمضان، وغيرها من طقوس وعادات. جيل يمكن وصفه بأنه مليء بالتناقضات. ولذلك يجاهد هذا الجيل الى صنع وطن مصغر ضمن الجالية التي يعيش في نسيجها. يقدم له الوطن المصغر، المصاغ من أوهام وأحلام، عزاء روحيا، ويرفده بتوازن يفتقده في مجرى الاحتكاك اليومي مع المجتمع الجديد الذي يختلف عنه في اللغة، والدين، والعادات، والثقافة. وبطريقة ما، يعتقد هذا الجيل ان الحياة الحقيقية هي هناك، في البلد الذي جاء منه. اما حياته التي يحياها هنا فهي ليست سوى قتل للزمن، وتمضية وقت، لا تمثل عيشاً حقيقياً، ما يدفعهم الى زيارة بلدانهم الام بين فترة واخرى، لكي يتزودوا بعدة ملموسة من الوطن، تساعدهم على الاستمرار في البقاء في البلد الجديد. كانت هناك طبقة واسعة من المتعلمين من بين المغتربين العرب في اوروبا. وكانوا قراء جيدين ومتابعين لما يجري في بلدانهم، اما عن طريق الصحف العربية او الكتب، لكن الواقع الجديد الذي وجدوا انفسهم فيه لم يعد يسمح بمتع كهذا، فالكتب العربية غير متوافرة في السوق، والحصول عليها يتطلب بذل اموال طائلة قد تخرج عن طاقة الفرد ودخله المحدود، وكذلك الصحف ايضا، فبعد ان غزا الانترنيت الكون اجمع، لم يعد الفرد بحاجة الى الصحافة الورقية، خاصة في البلدان البعيدة، لذلك لايجد المرء، الا نادراً، صحفاً عربية في المدن الاوروبية، وان توافرت فهي لم تعد متعة كما كانت قراءتها في البلد الام، اذ تترافق هناك مع فنجان القهوة والسيجارة في احد المقاهي المطلة على الشارع.. تحصيل المعرفة عن طريق الكتاب العربي، أو الصحيفة، أصبح من الوسائل الصعبة، والمضنية، يقابل هذا ثقافة بصرية سهلة، وميسرة عن طريق الفضائيات، وعن طريق الصحف الاجنبية الشعبية وهي توزع في المتروات والباصات مجانا، وفيها طرف صغير من كل خبر مهم، ولا تحتاج الى لغة عميقة لقراءتها، ما يسهّل على المغترب ارضاء فضوله دون الحصول على معرفة عميقة في ما يدور، وهكذا سنة بعد سنة، تتعمق الهوة بين الفرد المغترب والبلد الذي جاء منه. وتتعمق الهوة بين ثقافته القديمة وثقافة المنشأ الحاضرة، وهذا ما يجعل من المغترب ناقص الالمام بما يجري في الشرق، او في بلده، كونه لا يعيش الايقاع اليومي للحياة في اي مدينة عربية. وكون حقل التأثير وبؤرته انتقلا الى مكان آخر، يفعل فعله كل ثانية وساعة، وله علاقة بالدخل والعمل والأطفال ومصيرهم، وفسحة الحركة في حيز الاغتراب. وعلى صعيد الكفاءة الشخصية، فعموم هذا الجيل معدوم الكفاءة المهنية قياسا الى البلد الجديد. فهو حتى لو كان خريج جامعة في بلده، يعتبر أميا، أو دون تحصيل علمي بالنسبة الى البلد المضيف، فشهادة الهندسة والأدب والتاريخ والفنون والعلوم وسواها، لا تعني شيئا لبلد الاغتراب الا اذا عودلت مع مثيلتها الأوروبية، أو درس الشخص اختصاصه من جديد في جامعة أوروبية. لا يجد المغترب من الجيل الأول امامه الا التوجه الى البلديات لكي يتمتع بنظام المعونة الاجتماعية، وهو يتساوى بذلك مع الكحوليين والمختلين عقليا والمعوقين وسواهم، او ينتهي الى ان يصبح متقاعدا، بعد ان يثبت لمؤسسات المجتمع انه كان قد خضع للتعذيب في بلده، او كان معوقا نفسيا او جسديا، وبهذا يخرج تماما من سوق العمل، ومن الفاعلية الاجتماعية، ولا ينتظر، حسب النظرة الأوروبية للمتقاعد، الا حلول اجله. وفي المحصلة يكتشف الجيل القديم من المغتربين انه كان السلم الذي تسلقه الجيل الجديد الى الحياة الأوروبية الحقة، الجيل الذي سيكون هو المقاتل الحقيقي في دخول نسيج الحياة هنا، وفي التصدي للآخر بأسلحته ذاتها، وعلى رأسها اللغة. اللغة هي مفتاح النفاذ الى المجتمع، وفي ذات الوقت هي الوسيلة القتالية الانجع، سواء كانت شفاهية او مكتوبة، لمقارعة الخصم، في الشارع والمدرسة والمصنع والصحافة المكتوبة والمرئية. فابن المهاجر المولود في البلد الأوروبي يتقن لغة البلد اكثر من لغة ابويه، وهذه حقيقة برزت بسبب طريقة الحياة في المجتمعات الاوروبية، وبسبب طريقة التعليم. فالابناء يقضون اوقاتا في حضن المجتمع: مدرسة، شارعا، فعاليات، سفرات، تأثيرات اعلامية، اكثر بكثير من الاوقات التي يقضونها تحت هيمنة سلطة الاب والام والثقافة القديمة. اللافت ان الابناء عادة ما يتخاطبون في ما بينهم بلغة البلد، ويتخاطبون مع الابوين بلغتهم الام، التي لم تعد في الواقع العملي الا لغة ثانية. تتكسر مخارجها وحروفها قليلا قليلا، وتتحول الافكار المعبرة عنها الى افكار حضارة ثانية، وهذا يلمسه اي شخص يسمع الجيل الثاني من المغتربين وهم يتكلمون بلغتهم، هناك هجنة في المفردات، بحيث يصعب على فرد عادي في بلد عربي ان يفهم هذا الخليط اللغوي الا بصعوبة. الجيل الثاني، وبسبب تأثيرات المدرسة والزملاء والشارع وايقاع الحياة اليومية، لا يعود يهتم الا بما يجري في البلد، حيث يقيم: الموضات الجديدة، الاغاني، التقليعات الكلامية، الاشكالات السياسية، اضافة الى عامل التصادم بين الثقافة الغريبة الوافدة والثقافة الحاضنة في البلد، ذلك كله يملأ عليه اي فسحة لمتابعة ثقافة آبائه ومشاكلهم في البلد الاصلي، ولا تعود تلك الاهتمامات سوى اصداء خافتة وبعيدة، صحيح ان الجيل الثاني يحمل الملامح الشرقية نفسها: السمرة، الشعر الاسود الجعد، العيون السود، لكنه لم يعد يشبه قرينه العربي الذي تربى في الحاضرات المعروفة، بغداد وبيروت ودمشق والقاهرة ومراكش. انه أوروبي بملامح عربية محسنة. التحسين جاء من الزي وسمات الوجه التي بنيت في ثقافة مغايرة لثقافة الوالدين، وهو بالمحصلة يميل لينتمي الى المجتمع الأوروبي اكثر من المجتمع الشرقي. اللغة، والذهنية المتأوربة بأصالة، والاهتمامات، والتعليم، تؤهل الفرد الى الدخول في سوق العمل بجدارة. وسوق العمل هنا لا علاقة له بالطبقة العاملة، بل يخص كل من يعيش على وظيفة ثابتة تدر عليه دخلا شهريا يضمن له دفع الضرائب والفواتير الشهرية للكهرباء والموبايل والتدفئة والتلفزيون والانترنيت وغيرها. الصراع يبدأ من هنا. فالجيل الثاني ينبغي ان يدخل سوق العمل بقوة، ولا يجد في نفسه اي قصور في دخوله ذاك. يتقن اللغة، ويحمل تحصيلا دراسيا، ويعرف ما يريده المجتمع وما لايريده، اي انه مدرك لتابوات مجتمع الاغتراب بدقة، دون اي التباس. هنا يكون الصراع الذي يتحمله الجيل الثاني ذا وجهين:، الأول صراع مع ثقافة مجتمع الاغتراب، وما تحمله من احكام مسبقة تجاه ابناء المغتربين والمهاجرين الجدد واللاجئين، متجليا بالتفرقة العنصرية تبعا للون والدين والعرق، والاحكام المسبقة المتوارثة منذ قرون نحو العرب والمسلمين في الذاكرة الأوروبية. هذا الصراع يخوضه (المواطن الجديد)، كما بدأوا يسمونه في بعض الدول الاوروبية كناية عن المولودين في البلد لكنهم ليسوا من اصول أوروبية راسخة، متسلحا بلغة أهل البلد وحواملها التاريخية، وهذا يتطلب منه استخدام ذات اللغة في دحض نفسها، اي احكامها المسبقة وتناقضاتها وآلياتها. من هنا يمكن اعتباره في هذه اللحظة، لحظة الاصطدام، جسرا بين ضفتين، لا يمكن الاستغناء عنه حتى في اوقات الحروب والمعارك والأزمات. وهذا ما يجري الآن في أوروبا. الثقافة الوسيطة بات من المستحيل الاستغناء عنها، بسبب التشابك العالمي السائد اليوم، اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وأمنيا. ولا يمكن تخيل بلد في العالم يقف ضد وجود اشخاص يتكلمون العربية، ولديهم اطلاع بالثقافة المشرقية عموما من دين وسياسة واجتماع وتقاليد. كما لا يمكن الحديث عن مجتمع، أو دولة، لا يربي نخبة من أبنائه لتعلم الثقافة اليابانية أو الصينية أو الهندية، فهذه الاختصاصات والجسور صارت جزءا من حياة البشر في الحقبة الحالية. كما يصعب في الوقت ذاته تخيل عالم دون صراعات، عالم يسبح في يوتوبيا من السلم والاستقرار والمحبة. والصراع الثاني، الوجودي، في حياة الجيل الثاني من المهاجرين والمغتربين واللاجئين، هو مع بقايا اسرته التي تربى في كنفها، الأم والأب بخاصة، وأصدقاء الابوين، اي الجيل الأول، المحافظ على عاداته وتقاليده ولغته وطقوسه الدينية. صراع مع ثقافة ماضوية ان صح الوصف لذلك التلقين الببغاوي المنصب عبر أبوين عاشا وترعرعا في كنف فضاء حضاري مغاير. وهذا الصراع كثيرا ما قاد الى مآس اجتماعية تسرب قسم منها الى الصحافة. فثمة آباء لا يمكنهم تقبل فكرة الانفتاح الجنسي لبناتهم، كما تفعل بنات البلد، لذلك لا يبقى امامهم من وسيلة لمنع ذلك التمرد سوى العنف. والعنف يعاقب عليه القانون بشدة، واذا تعذر منع الوالدين من الهيمنة على الأبناء، فالدولة وبكل بساطة تضعهم تحت رعايتها، وتمنع الوالدين حتى من رؤيتهم. هذا ما قاد بعض الاحيان الى حدوث جرائم قتل للبنات بسبب العلاقات المنفتحة، وفي حالة الابناء الاستقلال عن هيمنة الوالدين بالعيش خارج البيت ضمن التسهيلات الممنوحة للشباب من سكن، وراتب، وتعليم مجاني، وحماية بوليسية ان تطلب الامر. مشاكل الجيل الثاني داخل الاسرة كثيرا ما قادت الابناء الى الانحراف والسجن والاتجار بالممنوعات كالمخدرات والتهريب وما الى ذلك، كما انعكست سلبا على تماسك العائلة ذاتها. فهناك نسبة اكثر من سبعين بالمئة من حالات الطلاق بين عوائل المغتربين، خاصة وان القوانين الاوروبية تحمي الزوجة اقتصاديا، وأمنيا، اذا ما قررت الانفصال عن زوجها، كما تعطيها حق الحضانة للابناء حتى سن الرشد، وهو ثمانية عشرة عاما. وفي كل الأحوال، يعتبر الجيل الثاني هو رأس الحربة الى ثقافة الآخر، الذي لم يعد آخر على ارض الواقع. وتلك واحدة من قضايا العصر التي لا يمكن تجاهلها سواء عاش الفرد في موناكو او في جزيرة سقطرة. اذ ان الهوية العربية، والاسلامية، الهوية الأوربية والافريقية، وغيرها من الهويات كلها اصبحت على المحك في مضمار الاندماج، والحوار، والتعايش، والصراع الذي تعيشه أرضنا في هذه البرهة من الزمن. على عمود جسر عملاق، وسط العاصمة السويدية ستوكهولم، يقرأ المارة تحت الجسر جملة لا يمكن أن تزول من الذاكرة: أنت لست وحدك، وقد كتبت وسط الصقيع والثلج وأشجار الصنوبر السامقة باللغة الانكليزية، وربما تلخص بكثافة إنسانية فريدة هموم إنسان عصرنا.. الإنسان الذي لم يعد يعرف نفسه بدقة، كما في السابق.
|