كيف أنسى الطيب صالح؟ |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات في الخمسينات والستينات كان لي حضـور في الجانب الادبـي من القسم العربي من اذاعة بي بــي سـي ( بوش هاوس ) ؛ حيث القيت بعضا من نتاجي الذي توزع على الوان ادبية متنوعة ؛ وبطبيعة الحال ؛ كنت التقى في الكافيتريا او في اروقة ومكاتب الاذاعة بوجوه معروفة كان لها دورها البارز في تطوير البرامج وشد المستمعين اليها ؛ وذلك لما اتسمت به تلك الكوكبة من ثقافة عامة عالية ولغة عربية صافية ونطق سليم ؛ وصوت رخيم ؛ كالاساتذة ( حسن سعيد الكرمي ؛ ومنير شما ؛ والطيب صالح ؛والفنان محمود مرسي وماجد سرحان وهدى الرشيد وجمال فارس وسامي حداد ومديحة رشيد المدفعي وايوب صالح وجميل عازر ... وغيرهم ) . تميز الطيب صالح بعشقه العميق لوطنه السودان واصالته العربية ؛ كما كان شديد التعلق بقريته كرمكول من اقليم مروى ؛ والذي يطلع على عمق ثقافته وحداثة تفكيره ؛ يتعجب كثيرا من المامه المكثف بكل ما يدور من تفاصيل يومية دقيقة حول اسلوب معيشة وعمل قبيلته الركابية ؛ علما بان احاديثه في هذا الشأن تبتعد تماما عن التعصب والشوفينية ؛وتتصل كثيرا بايمانه الذي لا يتزعزع والذي يدعو فيه الى وحدة وقوة الوطن وتماسك شعبه . وان عشقه للسودان هذا ...؛ هو الذي جعله يردد مقولته ويؤكدها في كل مناسبة ؛ وموجزها :ان السودان لم يأخذ حقه في الصدارة التي يستحقها عن جدارة وواقع تأريخي وجغرافي وشعبي .و لعل روايتيه ( عرس الزين ) و ( دومة ود حامد ) بخاصة تفصحان عن ذلك الاعتزاز الحقيقي المنصف. كانت روايته ذائعة الصيت ( موسم الهجرة الى الشمال ) قد صدرت اول الامر في العددين الخامس والسادس من مجلة حوار اللبنانية عام 1966 ؛ فلاقت اقبالا واسع النطاق من لدن النقاد والقراء على حد سواء ؛ وقد دفع هذا لاقبال (دار العودة ) في بيروت الى نشرها في طبعة مستقلة ؛ أكتسحت اسواق الكتاب على امتداد الوطن العربي ؛ لتتلقفها بعدئذ دور الترجمة ؛ حيث أخذت طريقها الى العالم . هنا لابد من اقتباس ما كتبته في حينه من فقرات ركزت على جانبين اساسيين ؛ يرتبطان بصيغة ونسيج وحبكة الرواية من جهة ؛ وبالجوهر الذي عالجته من خلال افكار منوعة متداخلة تماسكت فيما بينها لتصل الى الغاية الحقيقية التي هدفت اليها : ــــ ( ........ وفي هذا المجال لابد لنا من تناول نموذج حي للآدب الروائي السوداني الجديد ؛ وهذا النموذج يتمثل بشكل واضح ومثير في رواية ( موسم الهجرة من الشمال ) للأديب السوداني البارز الطيب صالح ... في كثير من الاحيان تنفلق في كبد السماء شعل ذات الوان زاهية ؛ تبدأ من منطلق الصوت ؛ ثم تنتشر حزما فخيوطا تتباعد بعد حين لتختفي في المجهول ؛ هكذا تترآءى لي رواية الطيب صالح الملحمة ( موسم الهجرة الى الشمال ) ؛ انها تثبت اقدامها في ارض منبتها اول الامر ثم تعود لتتحرك في مساحات واسعة من الامكنة والازمنة . تنتقل معانيها على جمل خفيفة الحركة ؛ مباشرة في المعنى ...من كلام بسيط يتسامر به ابناء الريف ؛ ... الى حديث مثقف الفكرة ؛ عميق العبارة ؛ موزون الكلمة يدور بين صفوة من أولئك الذين درسوا ثقافة العصور ؛ وآداب وفنون وفلسفات الامم .......... لقد استطاعت رواية الطيب صالح ؛ ان تجسد امامنا و باحكام لاعفوي ؛ بطلها كنموذج حي للريفي وقاد الذهن ؛ مشتعل الذكاء . تتلقفه ثقافات العصور ؛ فيجيد هضمها ويحولها الى مادة تبهر الآخرين أو تحيلهم نارها رمادا او جثثا ممزقة ؛ ثم تصير منه اسطورة خارقة تمثل اكثر مما تعني ؛ وتكذب اكثر مما تصدق ؛ .. وذلك حينما تريد ان توقع السذج في المصيدة . لقد استطاعت الرواية كذلك ؛ ان تحرك مجاميع شخوصها بمهارة واختيار وتتبع طبيعي ؛ لايفتعل الحوادث ولا الحوار ؛ وانما يسوقها باطار صادق ومنطقي : كان آخر لقاء لي بالطيب صالح في فندق ميليا المنصور ؛ لمناسبة انعقاد مهرجان المربد الشعري عام 1989؛ ؛ كان مرحا كعادته ومتواضعا في اسلوب تحاوره . لقد لفت نظري ونحن نجلس في كافيتريا الفندق ، نقده المباشر لكثير مما القي من قصائد في تلك الاماسي الشعرية التي كانت تنظم في قاعة مؤسسة المسرح والسينما المقابلة للفندق . وكان مما ركز عليه ولا انساه ابدا (تفاهة المواضيع ؛ وركاكة اللغة ؛ وتدني مستوى الخيال الشعري ؛ مع رتابة في الالقاء ) ؛ وقد لاقى هذا الايجاز في التعبير تأييدا وتقديرا من لدن الجالسين الكثر . حينما تفرق الجمع الحاشد من حولنا ؛ و لم يبق من الجالسين على المائدة ؛ غير عبد الوهاب البياتي ؛الفريد فرج ؛ سعد اردش ؛ الطيب صالح ؛ ووجدها البياتي فرصة ليقترح الابتعاد عن برتكول البرنامج الصاخب ونتوجه الى غرفة في الطابق الثاني تطل على دجلة مباشرة مخصصة للدعوات الصغيرة لنتناول ما لذ وطاب و لنواصل فيها احاديثنا .رحب الحاضرون بذلك .... وكانت سهرة ممتعة تشابكت فيها الاراء النقدية ؛ بالذكريات التي عطرتها احاديث الطيب عن ابعاد وتأثيرات عمله في اليونسكو وبخاصة في منطقة الخليج . ثم توزعت الحوارات الآنية على بساط واسع من الشعر و الفن التشكيلي والموسيقي اما الدراما الاذاعية والمسرحية فقد صال فيها فارسها القدير سعد أردش ؛ فامتدت تلك السهرة الثقافية الى ساعة متأخرة من الليل الغارق بأنوارمشعة متهادية آتية الينا من الضفة الاخرى حيث متنزهات ابي نؤاس . وانها لذكريات عطرة تنثنا بأحاديث من رحل من أؤلئك الافذاذ ؛ او من ينتظر من جيل ما زال يزخر العطاء رحم الله الطيب صالح بقدر ما منح الانسانية من جهد وابداع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|