المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
04/03/2009 06:00 AM GMT
كان على الطريق أن يتكبّد مئات الأميال من الغابات المبللة بالندى والحقول الطويلة، الملفوفة بالماء والريح والشموس الخفيفة والأنهار المغطاة بالجسور الخشبية والمعدنية، حتى نصل الى النقطة التي نبتغيها «ميدي» وهي محطة للقطارات تقع في قلب العاصمة البلجيكية بروكسل. أما أنا فأجلس في اللحظة الخضراء، أحصي شجر الحور والإصطبلات والخيول، أخطئ في العد، فأضيع بين الجذور والبقرات السمينة والأفق اللازوردي فأعود الى شرابي الياقوتي لأثمل بالجمال الذي يتناثر خلف نافذة القطار السريع المحلق في البراري الشتائية. الوقت الذي اقتطعه القطار من مفكرة الزمن لم يكن إلا ساعتين، لأكون هكذا في محطة عالمية صاخبة غريبة علي، أدخلها للمرة الأولى على رغم قصر المسافة الفاصلة بين لندن وبروكسل، لا أحد يرى جواز سفري من رجال الجوازات لكونه جوازاً أوروبياً خاضعاً لمعاني التجول الحر والحدود المفتوحة، وحامله بالأخص يطأ العاصمة الحاضنة لمركز الاتحاد الأوروبي. أتأمل هذه الحال وأرثي حاضرنا العربي وما آلت اليه الحدود العربية التي تبتكر المعجزات لوضع العراقيل لمنع المواطن العربي من الدخول اليها. الليلة الأولى بعد الثانية ظهراً علينا أن نكون في مسرح مدينة آنفيرس التي نقيم فيها لنحيي الليلة الأولى من الاحتفال الشعري والموسيقي والغنائي الراقص المكرس لعيد الحب والمحبين والعشاق. عرب جاؤوا من المغرب وتونس ولبنان وفلسطين والعراق ليقدموا الوجه الآخر للعرب، الوجه المسالم، المحب، العاشق، الدمث، الأليف، غير الوجه المتجهم، الشرس، العنيف، القاسي الذي تقدمه وسائل الإعلام الغربية التي يتحكم بها في الغالب مثقفون غربيون موالون للسياسة الإسرائيلية والنهج الإسرائيلي الممول من إمبراطوريات المال الصهيوني المنتشرة في انحاء العالم. نحن الآن في كواليس المسرح، نتدرب على الصوت والإلقاء لضبط المنصة التي سوف نتحرك عليها، من أجل التوافق الموسيقي الذي سيصحب الشعر، صوت الشاعر طاهر رياض تناسب مع العود والإيقاع، صوت الشاعرة فاتحة مرشيد مع الكمان والصنج الخشبي الأفريقي، الذي يحدث خشخشة إيقاعية رهيفة. صوت الشاعرة جمانة حداد مع الإيقاع والعود، صوتي مع القانون والنقر الخفيف للرق. إنها اصوات شعرية تتدرب على اختيار الضوء وزوايا الوقوف والجلوس ومعرفة مَن سيكون بعد مَن في القراءة. إنها الرهبة تتجلى أمام قاعة ملأى بالجمهور الذي اشترى تذاكره قبل أيام عبر مؤسسة «موسم« ليحتفي معنا بهذه الليالي من العشق والفرح والإنشاد للحب ورواده في أزمنة الحروب التي لم تتورع عن إراقة دم الأطفال والنساء والشيوخ. كانت ليلة مبهجة، نصوص شعرية تتداخل مع الموسقى ورقص يتداخل مع الغناء، أو الكل يمتزج بالكل ليقدم اللحظات المشرقة من الوضع العربي الراهن المليء بالعبوس ونقاط السواد التي تعم البلاد العربية كالديكتاتوريات الأبدية، والحكم من خلال الإنقلابات وخرق المفاهيم السياسية. ويُضاف اليها المنع والتحريم والحروب المذهبية والمصادرة لأبسط الحقوق الإنسانية حتى لو كان بيتاً شعرياً منزوياً في إحدى صفحات ديوان شاعر عربي. كانت ليلة ساحرة كبقية الليالي الأخرى، ليال لا تنسى فالجمهور يريد المزيد، لا يريد أن يخرج الى الشارع ليواجه البرد والصقيع، يريد أن يبقى في الدفء على الكراسي المخمل وهو ينصت لصوت المغنية الاستعراضية غالية بن علي التي غنت أغاني لعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وأغنية لها، فضلاً عن اللوحات الاستعراضية الراقصة التي أدتها بمهارة فائقة لتتناغم مع بعض الأشعار النسوية الملقاة في الليالي الثلاث. والى جانبها كان الفنان عبد الرحيم السملالي الذي كان يمزج الملحون المغربي والتراثي بالنغم الحديث ما أضفى على المسرح خفة طربية ألهبت السامعين، إنها خفة نغمية إيقاعية فاتنة شاركه فيها مفضل عظوم عازف العود والقانون، وضابط الإيقاع عز الدين الجازولي. الليلة الثانية المناخ هذا اليوم كان بارداً، وهو اليوم الثاني من عمر الاحتفال، وهو يوم عيد الحب والعشاق في العالم، أي لم يزل هناك وقت ينبغي تصريفه في شأن من نحب، نغلق باب السيارة الكبيرة، إذ ليس ثمة أحد منا لا يملك شالاً أو وشاحاً يتقي به برد أوروبا، جمانة حداد تصرخ من البرد وهي البيروتية القادمة من قلب الدفء وكذلك الأمر بالنسبة الى فاتحة مرشيد وطاهر رياض، ما عداي أنا القادم من مجاهل الضباب والجليد العاري. في السيارة التي يقودها الموسيقي مفضل عظوم، نسمع صوت محمد عبدالوهاب يغني أغانيه الخالدة، السيارة تخترق الطريق البري المرقط بأشجار الحور والدلب العالي، نمر بمروج تمشطها الريح ووهاد خفيضة تحمل بيوتاً كالدمى الخشبية. صديقي الشاعر الشفاف طاهر تأسره الغابات الغامضة، تلك الحانية فوق منازل قرميدية مدفونة في عمق غابيّ مبهم. ويحبذ لو لديه أحد هذه البيوت ذات المداخن والمواقد الشتائية المدثرة بغسق صامت، أخضر. نصل الى بروج وهي قطعاً أجمل مدينة بلجيكية، تتاخم هولندا وتتكلم لغتها. تسمى فينيسيا بلجيكا، تشبه العاصمة براغ ولكنها مختصرة، وتشبه من نواح أخرى وارسو ولكنها اختزلت الى هذا القدْر من الحيز لتكون أجمل. بيوت ملونة، طرق حجرية وأزقة صغرى تشي بالمتعة والدلال، لها مسارح تليق برشاقتها ودور سينما ناعمة تغفو على نبضها الحجري العتيق. ندلف الى القاعة لنختبر الصوت والآلات الموسقية والحركة الإلقائية على المسرح، وإذا بالمسرح هو دار للأوبرا، أبهة سامقة، أيقونات تاريخية وجلال واضح يرشح من القاعة وجمهور مختلف ومنتقى أخذ يتقاطر ليحتل مقاعده ذات القطيفة الحمراء التي تشع بفعل الخشب المطعم باللون الذهبي، وبفعل النور المتدفق من ثريا هائلة تتدلى من سقف كنسي منيف. ونحن على المنصة نقلب أوراقنا التي ستتصادى مع هذا الموقع الذي بعث الرخامة في أصواتنا وجعلها تتسق مع جمال المكان. خلفنا شاشة كبيرة تظهر عليها أسماؤنا، في ترجمة هولندية لشعرنا. نحن نقرأ بالعربي والجمهور يقرأ بحسب المكان الذي نحن فيه بالفرنسية أو الهولندية، الأصوات تتداخل وتتواشج في تجربة هارمونية مثيرة، فتقرأ الشاعرة جمانة حداد والشاعر طاهر رياض والشاعرة المغربية فاتحة مرشيد، وكاتب هذه السطور . الليلة الثالثة نصل الى بروكسل بعد ظهيرة شتائية شبه معتمة، مبللة بنثيث مطري خفيف، نتجول في الشوارع، فنلحظ الطراز المعماري الباريسي يهيمن على البناء كالمسارح ودور السكن والمقاهي التي تتمتع بذات اللمسة الباريسية بدءاً من الكراسي الخيزران - المقصبة أو المقششة التي ترسل لمرتادها الدفء والرضا وانتهاء بالمطاعم المتنوعة، وخصوصاً العربية. نختار مطعماً تونسياً لأننا جئناه مدفوعين بالحنين الى الطعام العربي الذي رائحته تغطي المكان، لذا كنا أمام طعام تونسي وشراب مغربي وموسيقى أندلسية. كانت الليلة على مسرح المدينة ناجحة بامتياز نتيجة وجود عربي ملحوظ وبلجيكي، محمول على جناح ثقافة فرنسية، صفق طويلاً لهذه الأمسية التي كانت بحق مسك الختام، بعض الحضور صعد الى المنصة وتحدث مع من أعجب به إن كان فرنسياً أو مغاربياً. كان عناء الرحلة والإلقاء والتمارين المتواصلة والقلق الإبداعي الذي يرافق الشعراء عادة في حالات كهذه، كان يجعلك ممتناً وأنت ترى الى الدهشة والحبور والحرارة الترحيبية الفائضة التي قوبلنا بها أثناء الليالي الثلاث التي قضيناها في المدن البلجيكية. - عن الحياة -
|