الغائبون عن افتتاح المتحف العراقي! |
المقاله تحت باب في السياسة لماذا لم تحضر افتتاح "المتحف العراقي" هذا الأسبوع عالمة الآثار العراقية سلمى الراضي المختصة بصيانة الآثار، والتي نالت عنها عام 2007 جائزة "آغا خان"؟ وكيف غابت ندى الشبوط، أستاذة تاريخ الفنون في جامعة شمال تكساس، والتي تلاحق منذ سنوات مقتنيات المتاحف العراقية المسروقة؟ وهل يُعقل أن لا تساهم في الافتتاح لمياء الكيلاني، الباحثة في "معهد الآثار" في لندن، والله يعلم ما قدمته لمجتمع علماء الآثار في العراق عبر سنوات الحظر الاقتصادي والاحتلال؟ ومن فوّت فرصة الاستفادة من خبرة دوني جورج، أستاذ الآثار في جامعة شمال تكساس، والرئيس السابق لهيئة الآثار والتراث العراقية؟ وكيف يمكن تفسير غياب زينب البحراني، أستاذة كرسي علم الآثار والتاريخ في "جامعة كولومبيا"، وهي التي وقفت مع بلدها في محنة الغزو والاحتلال، وعرّضت حياتها للخطر حين قصدت موقع آثار بابل لتحذر قوات الاحتلال الأميركية من انتهاكها، وعرّضت نفسها لنقمة الإدارة الأميركية السابقة عندما شنت حملة في الصحافة العالمية فضحت أعمال تدمير ونهب كنوز العراق؟ بعض الجواب عن هذه الأسئلة تضمنته رسالة مفتوحة وجهها هؤلاء العلماء إلى رئيس الوزراء المالكي ووزراء الثقافة والآثار والسياحة. طالبت الرسالة التي نشرتها صحف عربية وعالمية بالتزام المعايير الدولية لعلوم المتاحف والصيانة الأثرية، وعدم التجاوز على قانون الآثار العراقي. وحذرت من وقوع المتحف والمواقع الأثرية ضحية نزوة سياسية آنية، وحملات إعلامية وعلاقات عامة. وتقدم الرسالة فكرة عن نوعية علماء الآثار العراقيين الغائبين لكن ليس عن أعداد المهاجرين منهم في الداخل والخارج. وأتوقف هنا عند زينب البحراني، فلا شيء يماثل غيابها عن العراق سوى حضورها في العالم. كتابها "نساء بابل" Women of Babylon يعيد تأويل التاريخ العالمي للمرأة والأنوثة والحب والجنس، ويحرره من حدوده التقليدية التي تربطه عادة بعصور الإغريق والرومان. ويعود الكتاب بتاريخ المرأة إلى الشرق الأدنى، حيث الفترة الزمنية التي تنطلق منها مرويات التاريخ البشري. وهذه مبادرة علمية تاريخية فريدة، يؤسس بها مؤرخ عربي جوانب رئيسية من تاريخ المنطقة داخل التاريخ العالمي. أي بكلمات أخرى يعيد ترميم صفحات مهمة في التاريخ العالمي. وقد أخذت الباحثة العراقية على عاتقها مهمة شاقة ومحفوفة بالمخاطر، خصوصاً وهي تتصدّى لمواضيع الأنوثة والجنوسة الحافلة بالنزاعات الأيديولوجية، وتتناولها في إطار حضارة نائية عن الغرب، وخارج مسلماته التاريخية الفكرية. وتعني الجنوسة gender مجمل الوضع والخبرات التي تترتب على كون الشخص رجلاً أم امرأة. وتفكك الباحثة مكوناتها لتكشف أن المصطلحات المعاصرة للجنوسة والجنس ليست قابلة للاستخدام في بحث التراث العراقي القديم. وفي الحديث عن "لُغز الأنثى"، تعيد زينب البحراني إيقاف عالم النفس المشهور سيغموند فرويد على قدميه. يُستهل الفصل الأول من كتابها بعبارة فرويد عن مناطحة الناس عبر التاريخ لغز طبيعة المرأة، وعدم توقفهم عن القلق حول المعضلة، ويطلق فرويد اتهاماً صريحاً: "أنتم أنفسكم المعضلة". وتستقصي الباحثة جوانب هذه المعضلة بواسطة عملية مسح أكاديمية لمجموع المفاهيم والنظريات الفلسفية الغربية التي تناولت مواضيع المرأة والجمال، والأنوثة، والحب، والجنس، والجنوسة، من إيمانويل كانط، وهيغل، حتى غرامشي، وآلتوسير، وفوكو، ومدارس ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية الحالية. والتاريخ لدى الباحثة العراقية هو الذي يقول عنه الفيلسوف الإغريقي المشهور ديونيسيوس "التاريخ فلسفة بالأمثلة". والمعرفة التاريخية حسب رأيها في حالة تدفق، وليست قاعدة معطيات ثابتة، بل تحتاج للتقويم وإعادة التحليل والاستقصاء. يجعل هذا قراءة مؤلفاتها مهمة عسيرة تحتاج إلى معجم خاص بمفرداتها، لكن حل رموزها مجز، ويمكن أن يكون مسلياً، خصوصاً وهي تقرأ التاريخ في الرسوم والصور والمنحوتات والنصوص الشعرية. وقد تسليت بقراءة البحراني وفق نظريتها حول تقاطع علم التاريخ مع القراءة والكتابة والتوصيف الأنثروبولوجي، واتبعتُ دعوتها إلى أخذ موقف الباحث كعامل أساسي في التأويل. ولعل الهوى العراقي هو الذي دفعني إلى اكتشاف زهو زينب البحراني لكونها امرأة عراقية وافتتانها بتسمية سكان العراق القديم مفاتن المرأة. وهي تقارن التسميات العراقية المرادفة للأحجار الكريمة بالأسماء والنعوت القبيحة المستخدمة في اللغة الإنجليزية الدارجة. وما أظرف أغنية الحب التي كان ينشدها سكان مدينة "أور" قبل أكثر من أربعة آلاف عام. تصف الأغنية مفاتن المرأة وزقزقتها بالحلوى ولذيذ الطعام والشراب! وهل هناك زهو بنساء العراق أرق من إهداء زينب بحراني كتاب "نساء بابل" إلى أمها وخالتيها "أمينة وآيتن وغاية الرحال"؟ وللجغرافيا تاريخها الملغز في العراق. فأسرة الرحال من الأسر المعروفة في قلب مدينة بغداد القديمة، حيث الأحياء الشعبية التي كانت دائماً معاقل المقاومة الضارية لأنظمة الاحتلال الأجنبي المتعاقبة، العثماني والبريطاني والأميركي. ولا تزال حتى اليوم خيام الوحدات العسكرية في "الفضل" والأحياء الشعبية المتاخمة! ولا أجد أفضل من "اسم الوردة" عنواناً للفترة ما بين صدور كتاب زينب البحراني "نساء بابل" عام 2001، وكتابها الأخير "طقوس الحرب" Rituals of War الذي صدر في العام الماضي. سبع سنوات حافلة بأحداث تفوق دراميتها الرواية المشهورة للكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو. ويدهشني بحث بطل رواية "اسم الوردة" والعالمة العراقية في "علم العلامات" semiotics، ودراستهما المدونات القديمة والنظريات الفنية والأدبية. ورغم الفارق الزمني والحضاري، تعرضت الباحثة العراقية، كبطل الرواية الإيطالية، إلى مؤامرات ودسائس وملاحقات، وعمليات تنصت لهاتفها، وبريدها الإلكتروني. شارك في الدسائس "لوبي" أكاديمي صهيوني تعيس في نيويورك يدير موقع إنترنت هدفه المعلن كليات ومعاهد مختصة بالشرق الأوسط يعتبرها ممالئة للعرب. وأطلقت مقالة منشورة في الموقع على زينب البحراني اسم "المستعربة الهستيرية في كولومبيا" واتهمتها بترديد أفكار زميلها الراحل إدوارد سعيد المعادية للغرب. وحرّفت المقالة تاريخ العراق، وادّعت أن كثيراً من العراقيين معجبون بالنازية! وكما يقال في الإعلانات "ابتسم فأنت في نيويورك"، التي يقول بصددها العالم والمفكر الأميركي المشهور نعوم تشومسكي "لماذا يريد الصهاينة الاستيلاء على فلسطين؟ ألا تكفيهم نيويورك"؟! والعبث مع زينب البحراني غيرُ مجد. فالعراقيات من طرازها يملكن أدمغة عمرها من عمر التاريخ. وللتاريخ سطوة في مقالتها بمناسبة الذكرى الخامسة للاحتلال، والتي عرضت شهادات مسؤولين أميركيين تعزز اعتقادها بأن تدمير ونهب محتويات "المتحف العراقي" كان عملاً مقصوداً. وفنّدت المقالة المنشورة بعنوان "انتهاك التاريخ" في صحيفة "الغارديان" البريطانية الدعاوى عن تواطؤ موظفي المتحف، وذكرت أن قانون "اجتثاث البعث" اجتث آثاريين محنكين وأساتذة جامعيين، وكما حدث في حروب أخرى وأزمان أخرى دُمّرت النصب والسجلات لمحو الذاكرة التي يحدد فيها الناس هوياتهم الجماعية. "من يملك الماضي يملك المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي". هذه العبارة المشهورة للأديب البريطاني جورج أورويل اختتمت مقالة البحراني. وأسأل: هل يملك الماضي والمستقبل والحاضر كعالمات عراقيات يحتضن في الداخل والخارج تراث البلد وكنوزه الأثرية؟ |