استعار عنوان كتابه من السياب ... محمد خضير يبحث عن الوجوه في حدائقها

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
10/01/2009 06:00 AM
GMT



حين يستعير القاص العراقي محمد خضير عنوان كتابه الجديد «حدائق الوجوه» (دار المدى- بغداد، دمشق) من قصيدة السياب «أمام باب الله» التي قال فيها: «إليك يا مفجّر الجمال، تائهون/ نحن، نهيم في حدائق الوجوه»، فهو أراد أن يعطي الوجوه التي تأمل في كتابه هذا، وتلك التي راقب تحولاتها، أبعاداً ترتبط بالذات الكاتبة بغير رابط، جامعاً في تأملاته فيها بين معجمين، المعجم الشعري بما له من صور التعبير، والمعجم الصوفي بما فيه من وشائج روحية بين الكلمات ودلالاتها - وإن كان، في الختام، لا يجد البشر إلا كما وجدهم السياب.
و «حدائق الوجوه» هذه يتعهدها البستاني ويرعاها، وهذا البستاني، كما يقدمه متمثلاً في صورة حضوره عنده - «رهين حديقة واسعة الأرجاء، وجليس أنواع لا تحصى من الورود والأشجار، ونديم أجناس لا تهدأ من الطير والفراش والديدان، ومرشد أصناف شتى من الناس» (ص 8). أما هو، الذي تابعه طفلاً، فكان يعود الى بيته «بعد نزهات مشبوبة بالتساؤل والتقصي (...) بلوعة الخذلان وعتمة الارتياب بحقيقة دوره، أو ثبات علاقته بالخلائق التي تغادر الحديقة بعد حلول الظلام، أو تمكث في ظلالها الأبدية» (ص 8).
وكما يضع الكاتب كتابه هذا في صورتين، فإن الكتاب بذاته يكشف عن نفسه في صورتين: صورة الذات في مرآة ذاتها، وهي تجمع الوجود في لحظات تماه مع ما هو متخيّل، وصورة الآخر في مرآة هذه الذات كما جاء «وجهه» ممثلاً تداعياتها، أو تداعيات العالم، وجوداً، عليها، مكتوباً بلغة قصصية مميزة، وبتمثل قصصي، يكاد القارئ معه يسأل: هل أن الكاتب، هنا، يكتب «سيرة وجوه»، أم «يتمثل وجوهاً» فيضعها في سياقات قصصية، رؤية وأسلوب تعبير؟
تتعدد «الوجوه» وتتوالى زماناً: فمن وجه القابلة (أو الجدة الكبرى) التي ولّدته كما ولّدت كثيرين قبله ومن بعده، حاملة الذكريات من صور الأمهات اللواتي استعنّ بها على الولادة. ثم صورة «الوجه رضيعاً» بما يستدعي من «تنويمات» يفتقدها الرضيع «في كهولته، في كتابة حروفه المتعثرة في مهاوي السطور» (ص 26)، حتى «وجه الصبي»، أو ما يدعوه بـ «نزيف الرغيف»، وصولاً الى رابع الوجوه وهو «وجه الكهولة» الذي يستدعي، بدوره، وجوهاً أخرى معظمها مما عرفه من طريق القراءة لغة معبرة عن هذه الوجوه.
يبدو حضور الكاتب في هذا العمل الأدبي أكبر منه وأوسع مما كان عليه في أعمال سابقة له، فكل شيء هنا يتم من خلال تصور، أو تمثّل، مباشر لصورته، أو انطلاقاً من الموقف الذي يتمثله فيه ملقياً إليه برؤيته، وإن تفاوت حضور الوجوه لديه بين الوصف والتأويل، مع اختلاف في الطريقة التي تصاغ بها كل تجربة، إذ إن النسق الداخلي الذي يحكمها كتابة لم يكن واحداً، فهو يعيد انتاج ما استقرّ عنها في الذاكرة من خلال إعادة تمثله، ومن ثم تمثيله كتابة. ولعل ما ساعده على هذا «فضاءات» الوجوه ذاتها وقد جمعت بين الواقع والتخييل، حتى لنجد الوجه/ النص الواحد مزيجاً من هذا الجمع.
وبافتراض أن «موضوعه» هنا واقعي فإن ما تندرج فيه كتابته هو «القراءة» التي تستخلص عناصرها من خلال النظر في العلاقة القائمة بين «الصورة - الحقيقة»، أو ما يقع موقعها، والنص الذي لا يذهب في سياقات بعيدة عنها - من حيث مجالها القصصي التتابعي الذي يشكل بنيته الشعرية الخاصة، لا من حيث اللغة وحدها، وإنما بشفافية الرؤية فيه. هذه القراءة تأتي مدفوعة برغبة «الوجوه» في امتلاك «النصوص» من خلال البنية العلائقية القائمة (بفعل الكاتب) بينها وبين الحدائق. فكما هي مكون بنيوي للنص هي كذلك مسار تأويلي لهذه العلاقة بين الوجوه والحدائق. وقد تحكم تجربة الكتابة عنده وقائع نصية - كما في ما كتب عن جبران والمعري - محيلة الى «مراجع مكتوبة»، وإن ظلّ «الراوي» هو «البستاني» نفسه الذي يوكل إليه البحث عن تلك الوجوه في حدائقها، والتدليل عليها بما لها، أو هي منه، إذ وجد في المعري ما «ملأ صحائف حديقته بمعاني الظهور والاختفاء، والتجلي والاحتجاب» (ص 189).
تقوم «حكايا» الكتاب على تأويلات الكاتب لها. فلكل حكاية أصل، في الواقع أو في الكتب، والكاتب إنما يكتب تأويله لها في عملية بلوغ المعنى - الذي يحرص على تأكيد القيمة الفعلية له، جاعلاً للحكاية طقوسها، ومقيماً منها شهادة حية على واقع صلة النهاية فيه معقودة مع البداية.
وهي، من جانب آخر، حكايات تقترب من البحث الأركيولوجي، إذ هي بحث في الذاكرة، وفي ما خلف الإنسان من بعده في ذاكرات حية. فـ «الحقائق» في هذه الحكايات ليست مجردة ولا تستنطق الأساطير، وإنما ترتفع بالواقع الى مستوى الأسطورة، مستنطقة ما فيه من غرائبي، ومشخصة العجائبي، وصولاً الى «الأسرار الأولى»، على افتراض أن لكل حكاية ما تخفيه (أو هكذا هي). أما «نسخة الحياة»، كما هي في أصولها، فتنعكس هنا مكتوبة من خلال ارتباطها بالذاكرة، إذ المكتوب يقود الى الجوهر اكثر مما يحمل نفسه على التفاصيل - التي عادة ما تغرق بها الحكايات. ويتابع الكاتب المسار الى هذا الجوهر عبر رحلة خيطية ممتدة في الزمن، يجلوها البحث / المتابعة لحياة الأشخاص، وتاريخ كل منهم، وقصته بأسرارها البعيدة. هذا كله يأتي بنفس حكائي تستوقفه الوقائع التي هي، بحسب رؤية الكاتب وروايته لها، أقرب الى المعاينات المشخصة منها الى التمثل والتمثيل.
ومع أن الكتاب، بحدائق وجوهه، يأخذ طابعاً سردياً أقرب الى القصة التأملية، فإن الأفكار المبثوثة في النص، بقوامه السردي، تأخذ دورها في تحريك الرؤية القصصية فيه. فهو إذ يتكلم على زوال حدائق البستانيين يجد في الفكرة الفلسفية التي تتسلل في ثنايا السرد محركاً باتجاه إغناء رؤيته هذه التي تبدأ الحضور من لحظة الزوال، وهو ما يجده مع مفكر، أو فيلسوف ينضوي داخله، متكتماً على اسمه، «بأن بعث جدوى جمال شيء ما تبدأ من لحظة زواله...» (ص 9) فيكون هناك دائماً ما يجمع بين «الراوي - الكاتب» وشخصياته. بل هناك ما يمكن أن يكون «نقطة بدء» غالباً ما تأتي في صيغة فكرة، أو صورة موقف، كما قد تكون ذات بعد وجودي، أو متمثلّ وجودياً. وتنبثق حركات الشخصيات في العمل، لتنمو بدلالاتها، وبقدرات السرد في ذاتها. والكاتب وهو يجعل لكل شخصية «موضوعها»، محدداً مسارها في الاتجاهات التي يستدعيها الموضوع، يحقق وجود «القصة» في «المرويّ»، سواء كان مصدر هذا المروي واقعاً، أو كتاباً. وفي الحالين فإن ما يستأثر باهتمام الكاتب هو «بناء النص». ومن هنا هذا الحضور الواضح لكل من الشخصية والموضوع.
هناك أيضاً حركة متناغمة بين الشخصية (طبيعة وحياة ودوراً وجودياً) وموضوعها الذي لا ينفصل حدثاً في الزمان، وطبيعة عن المكان. والشخصية، بتكوينها أو بالحدث الذي تصنعه أو ذاك الذي يحيط وجودها، هي نقطة الانطلاق نحو السيرورة السردية في النص. فالوجود/ الحضور الإنساني، هنا، يقابله حدث، أو يخلق حالة، كما يكون منطلقاً لفكرة أو اكثر.
أما الشكل الأدبي لهذا العمل فيتعين في بعدين رئيسين: بعد بصفته قيمة تعبيرية - جمالية... وبعد متمثل في الرمز دالاً علــى الشيء، والــرمز في تــركيب لــغة الحقيقة، ما جعل من الكتابة، هنا، عملية مركبة لغوياً، ولها قيمتها التعبيرية الخاصة، ووظيفتها الفنية. وبقدر ما تحيل هذه الكتابة الى الموجود (الإنسان بفعل تميزه) والوجود (في مــراتب وجود هذا الإنــسان فيه)، نجد الكاتب يرتفع بهما معاً الى مستوى التخييل- أي بتــخطي الــواقع والــواقعي في رؤيته.